بسمة عبد العزيز: المتمردة!


*محمد شعير


وجه طفولة، وبنية جسدية نحيلة، تخفي خلفهما إصراراً وإرادة على خوض المعارك، والدخول في «عش الدبابير» عبر كتاباتها ومقالاتها. بسمة عبد العزيز الطبيبة والروائية والباحثة، الفنانة التشكيلية، المولودة في القاهرة عام 1976 تختار دائما المعارك، تسعى إليها، ما دفع البعض إلى تسميتها «المتمردة». هي بدورها توافق على هذه الصفة. تقول إنها اكتسبت التمرد من جدّتها. «كانت جدّتي تعزف على البيانو، وتعرف الكثير عن الألوان، إلى جانب إجادتها اللغتين الفرنسية والإيطالية».
منذ أيام أصدرت كتابها الجديد «سطوة النص: خطاب الأزهر وأزمة الحكم» (دار صفصافة).. كان الكتاب في البداية أطروحة جامعية في علم الاجتماع تتناول تحليل الخطاب الديني لدى المؤسسة الدينية الرسمية في مصر، لكن المشرف على الرسالة رفض مناقشتها معتبرا أن «الدين الإسلامى هو الكل الشامل، وأن المكون السياسي وغيره من مكونات معرفية مثل المنطق والزراعة والفيزياء مجرد أجزاء صغيرة منه تنضوي جميعا تحت رايته».. رفض المشرف مناقشة الرسالة رافضاً المنهج، والمصادر، والترقيم وصياغة العناوين. لم يعد أمام الباحثة سوى سحب الرسالة وإعدادها في كتاب.. لتبدأ رحلة اخرى: للبحث عن ناشر نظرا لحساسية الموضوع اعتذر العديد من الناشرين قبل أن يتحمس له محمد البعلي صاحب دار نشر صفصافة!

في الكتاب ترصد بسمة تناقضات خطاب المؤسسة الدينية الرسمية، سواء البيانات الصادرة عن مشيخة اﻷزهر، وخطب شيخ اﻷزهر والفتاوى، وربطت ما بين تلك الخطابات وعلاقتها بخطابات أخرى في تلك الفترة حيث يصبح التظاهر حراماً شرعاً في عهد مبارك، ثم في عهد المجلس العسكري، وحلال في عهد محمد مرسي، ثم يتم تحريمه مرة أخرى.. أو متى استخدمت المؤسسة ألفاظاً معينة مثل «شهيد» أو «قتيل» أو «ضحية».. ليوضح الكتاب علمياً: الفرق بين الدور الوطني الذي ينبغي أن يلعبه الأزهر، والدور السياسي الذي ينبغي أن ينأى عنه.. أفكار تفتح الباب حول أسئلة كثيرة حول الأزهر وحدود دوره وكيفية وضع ضوابط تكفل عدم تورطه في الفعل السياسي، وحول استغلال السلطة السياسية للسلطة الدينية بوجه عام، وعن الفرصة الضائعة ما بعد الحراك الثوري في 2011 والتي كان من الممكن تفكيك المؤسسات الأبوية من خلالها.. وهذه واحدة من معارك بسمة عبر كتاباتها!
طالبات غير محجبات
معركة بسمة تسعى فيها الى أن تقوّض أوجه السلطة المهيمنة، أي سلطة «تسيء إلى عقول البشر وتستخف بإرادتهم» كما تكتب في إهداء الكتاب، وهو ما فعلته من قبل عبر مواقفها المختلفة. عندما التحقت بسمة بكلية الطب كانت الكليّة حكراً على جماعة الإخوان المسلمين. حينها، كانت بسمة عبد العزيز من بين قلّة من الطالبات غير المحجبات. حاولت الجماعة هدايتها إلى «الطريق المستقيم». لكن صاحبة «علشان ربنا يسهّل» (مجموعة قصصية؛ «دار ميريت») ردّت على طريقتها الخاصة.
 أعدّت مقالات ومواضيع تتناول الحجاب وحقوق المرأة، ووضعتها في مجلة الحائط الخاصة بالكلية. انتُزعت المجلة من مكانها، وكانت المفارقة أن من قام بذلك هم عناصر أمن، وليسوا أعضاءً من الإخوان. «لم يرقْ الأمن وجود صوت يساري يطالب بالمساواة وحقوق الإنسان في الجامعة. تنظيم مماثل يسبّب إرباكاً للجميع». لم يكن «التنظيم» يضمّ أحداً سوى بسمة. وحدها، كانت تعدّ مواد المجلة، وتنسخ أعداداً احتياطية منها، لتلصقها على الحائط بدل تلك التي تُنتزع. تروي أنها راقبت الشاب الذي ينتزع المجلة ذات مرة. شاهدته وهو يأخذها من مكانها على الجدار ويرحل. تبعته، إلى أن دخل مقرّ أمن الدولة.
دخلت وراءه من دون خوف، واستعادت المجلة بعدما وضعها الشاب على أحد المكاتب. «كنّا نرفض احتكار التيارات الدينية للجامعة. لم يكن ثمة بديل لهم، ولهذا بدأنا بتجميع أنفسنا. لم نكن سوى ستة أشخاص عندما تظاهرنا في عام 2000 دفاعاً عن الانتفاضة الفلسطينية. كان عددنا قليلاً جداً، ولم يتمكّن أحد من رصدنا»، تقول وهي تضحك: «كان عددنا قليلاً، لكن مؤثراً». بعد تخرّجها في كلية الطب، لم تكتب بسمة في ورقة رغبات التخصّص سوى «طب نفسي». في ذلك الوقت، كان الطلاب يملأون هذه الرغبة بحثاً عن وظيفة في الجامعة. لكنّها كانت مؤمنة بأن عالم فرويد وواطسُن هو الملجأ الوحيد لها، «خصوصاً أنّه قريب من عالم الأدب والفنون».

اصطدمت رغبتها هذه باعتراض جماعة وأفراد أمن الدولة الذين لم ينسَوا بعد «تجاوزاتها» في الجامعة. لكنّ هذا لم يثنها عن المطالبة بحقّها في الوظيفة. رفعت دعوى قضائية استمرت خمس سنوات كاملة، لتنال حقّها، قبل أيام من اندلاع ثورة 25 يناير. لكن حتى هذا الوقت، لم تنسها جماعة الأمن. «سأل عدد من ضباط أمن الدولة عن موعد مناقشة رسالة الماجستير الخاصة بي. وفعلاً، حضروا المناقشة. بعد قليل، انقطع التيار الكهربائي فجأة. ويبدو أنهم فعلوا ذلك عمداً. كادت المناقشة أن تُلغى لولا أن وقفت الدكتورة عايدة سيف الدولة وهدّدت بإصدار بيان مشترك مع بعض المنظمات الحقوقية لإدانة ما حدث. بعد ثوان، عاد التيار، واستكملنا مناقشة الرسالة!». كانت رسالتها عن التعذيب القضية التي تشغلها دائماً. بحثت بسمة في «ما وراء التعذيب» («ميريت»/ 2007)، ونبشت في الجوانب النفسية والسياسية المتعلقة بهذه «المنظومة الشنيعة». نزلت إلى الأرض، وتناولت عيّنات ممّن عُذّبوا وعُنّفوا. جاء كتابها «إغراء السلطة المطلقة» (دار صفصافة/ 2011). في هذا الكتاب، تتبّعت بسمة مسار العنف في العلاقة بين جهاز الشرطة والناس العاديين. بحثت في تاريخ تكوين الأجهزة الأمنية، ورصدت تعذيبها للمصريين منذ الفراعنة حتى يومنا الحاضر. عندما تسلّمت نسخها من الكتاب، قبل يوم من اندلاع «ثورة يناير»، كانت متيقنة من اعتقالها هذه المرة. ففي آخر صفحات الكتاب، توقّعت الطبيبة الشابة قيام ثورة في مصر، «لكني فوجئت باندلاعها سريعاً». في اليوم التالي، عندما امتلأ «ميدان التحرير» بحشود من المصريين الغاضبين، راحت نُسخ الكتاب تُوزّع بين الناس.
_______
*السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *