د. عباس عبد الحليم عباس*
يؤكد وزير الثقافة الإماراتي عبد الرحمن بن محمد العويس، أنّ أهمية كتاب «المسرح في الإمارات»، تكمن في نواحٍ عديدة، في مقدمتها الجهد التوثيقي والمقابلات الشفهية التي اعتمدها المؤلف والفنان والأكاديمي العراقي المقيم بالإمارات د.عبد الإله عبد القادر، من أجل توفير ما يمكن من المعرفة. لذا يشير الوزير إلى أن هذا السفر الضخم يلبي طموحات العديد من المسرحيين، ويساعد على التعريف بمسرح الإمارات وتسليط الضوء على أحداث وأعمال وإنجازات قد تكون غائبة عن الكثيرين منا، بحيث يستحق أن يكون مصدراً ومرجعاً أساسياً لدراسة المسرح الإماراتي خلال ستين عاماً.
إن أهم سؤال واجهه المؤلف خلال إعداد هذا الكتاب هو: ما الجديد الذي سنقدمه للقارئ والباحث بعد هذه الرحلة من التأليف والإنجاز للمسرح الإماراتي المعاصر؟
وقد استجمع الباحث في هذا الكتاب، خبرته في العمل المسرحي الميداني في الإمارات، والتي امتدت أكثر من ثلاثين عاماً، وكل ما كتبه سابقاً، أو ما كتبه زملاء آخرون، فضلاً عن أدبيات دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة وجمعية المسرحيين والفرق المسرحية، وعدد كبير لا يحصى من أوراق متفرقة، أو كتب أو مجلات أو صحف سيارة، أو حتى «بروشورات وكتيبات» المسرحيات التي تصاحب العروض.
يبيّن المؤلف طبيعة عمله ومنهجه في هذا العمل قائلاً: «لم أكن مؤرخاً وإن درست التاريخ، إلا أنني انطلقت بروح رجل المسرح الذي يحمل على عاتقه فن الحوار، من ستائر المسرح حتى الإنسان، الذي يجعل من الخشبة حياة ناطقة.. تلك هي فلسفة الخشبة التي تتحول بقدرة الإنسان وفنه ومبادراته ومواهبه إلى حياة نابضة يمتد فضاؤها خارح أستارها، ليصل إلى أقصى نقطة يعيشها الفنان المسرحي بفضائه الواسع الفضفاض الملون بقوس قزح الحياة بكل صراعاتها الفكرية، وأحلامها، وطقوسها، وتاريخها، وإنسانها.
ومما لا شك فيه أن هذا الجهد التأسيسي بنى في السنوات التي تلت الإصدار الأول للمؤلف عن مسرح الإمارات، العديد من الدراسات المكملة التي كانت إضافة نوعية وتصحيحية، وأصبح من الضروري أن يعيد المؤلف الرؤى المختلفة على ضوء المستجدات والمتغيرات، وهذا لا يعني أنه سيغير الثوابت، فالتكامل وارد بين الحين والآخر، كما إن إعادة الكتابة تمنح القارئ تجدداً وتأكيداً وتأصيلاً لتلك الثوابت التي تم الاتفاق عليها، وأصبحت مرجعاً إلى جانب المراجع التي ظهرت لاحقاً.
والمسرح -كما يشير المؤلف- أكثر الفنون احتمالاً للحوار، فهو فن الحوار، وقد تتعدد الطروحات والرؤى في إطار موضوعة واحدة، فكيف ونحن أمام حياة وتاريخ، وبالتالي فإن المنهج لا بد أن يتجاوز الأرقام والسنين والأسماء للوصول إلى الروح الإنسانية التي بنت تلك السنين، فالتاريخ ليس أحداثاً وأرقاماً وشخوصاً فحسب، إنما يتجلى في الكيفية التي يمكن أن نتعمق فيها في فلسفته التي توصلنا إلى أعماق الإنسان الذي لعب فوق الخشبة عبر سنين قد تكون عجافاً.
لذا، يجد قارئ كتاب «المسرح في الإمارات» أن الضرورة البحثية تدعو لإعطاء صورة العام للوصول إلى التخصص، مروراً بالوسيط المجاور؛ لأن المسرح حالة عالمية في المرجعية والارتباط، وإذا كان الغرب قد توصل إلى تحديد الكثير من حقائق المسرح عبر سبْق نعترف به، فإن العرب ما زالوا في جدل حول العديد من القضايا التي لم تُحسم حتى الآن، رغم مرور سنوات طويلة، وأخذت أبعاداً من البحث والحوار، بل والجدل أحياناً.
في الفصل الأول للكتاب، أوضح المؤلف أنه لا يريد أن يدخل في جدل أو حوار في مسألة لم تُحسم بعد، وإن تعددت المصادر لكل اتجاه في البحث، وافترض أن المسرح العربي المعاصر، بدأ فعلياً مع مارون النقاش وفق ما اتفق عليه الباحثون.
وقد شهد القرن الماضي امتداداً واسعاً وانتشاراً لا حدود له للمسرح العربي بصيغته الأوروبية، ودخلت الحياة المسرحية إلى عواصم العرب، وظهر عشرات الكتّاب ومئات المخرجين، وآلاف الممثلين الذين أحيوا الحياة المسرحية في كل الأقطار دون استثناء. لكن المؤلف لم يجد ضرورة في التعمق بتلك الامتدادات التي شهدتها المسارح العربية والرؤى والمناهج والأساليب والفلسفات والاتجاهات والصراعات التي عاشها المسرح العربي عبر قرن من نضوج حقيقي في بنيته الأساسية وفي فضاءاتها التي شكلت هوية واضحة له.
أما في منطقة الخليج العربي، كما يرى عبد القادر، فقد تأخر المسرح نسبياً عن الحواضر العربية التي سبقته لأسباب منها: غياب المدرسة النظامية، وتأخر قيام الدولة الحديثة، والعنصر الجيني الأكثر تحسساً وتأثراً في مجتمع شبه منغلق ومحدود في وسائل الإنتاج والعمل، إلى جانب عدم استقرار هذه المجتمعات التي اعتمدت على الصيد واستخراج اللؤلؤ الذي يحتاج إلى غياب الرجل عن مجتمعه وبقائه بعيداً عن اليابسة لكسب لقمة العيش.
وبعد إيجاز مكثف للمشهد الثقافي، يجد المؤلف أن قيام دولة الاتحاد (الإمارات) في العام 1971، هو الشرارة الأولى لانبثاق التفتح الشامل لحركة ثقافية واسعة ابتدأت مع قفزة حضارية في التعليم النظامي، وتأسيس صروح إعلامية مرئية، وصوتية، وكتابية، وبداية صحفية منوعة ومتطورة ومنفتحة، ما عجّل في تطوير الحركة الثقافية عموماً، والمسرح بوجه الخصوص. وقد أجمع الباحثون على أن قيام الاتحاد هو الركيزة الأساسية التي قامت عليها النهضة الثقافية بدورَيها التنويري والابداعي.
ويجدر بالذكر أن دوراً مهماً للأندية الرياضية الثقافية صاحبَ هذه الفترة الزمنية في البدايات التي شهدتها المدارس النظامية، وقد قامت هذه الأندية بدور فاعل وحيوي، إلا أن المؤلف يتوقف عند إلى نادي الشعب الذي شهدت خشبته أحداث مسرحية «وكلاء صهيون» في العام 1958، والتي كانت باكورة أعمال الشيخ د.سلطان بن محمد القاسمي، وأولى بداياته في الكتابة، وقد عدّها الباحث أول نص مسرحي مكتوب في الإمارات.
ويضيف عبد القادر أن هذه المسرحية كان لها دور بارز في شحذ الوعي القومي والوطني عند المتلقين، لما حمله النص من خطورة الطرح السياسي، ما حدا بالمعتمد البريطاني حينذاك إلى الاعتراض على عرضها لكونها «تحريضية» ضد الإنجليز. ويذكر أن المعتمد البريطاني أغلق المسرح بالشمع الأحمر محاولاً منع الممثلين من إعادة تمثيلها.
عموماً، لم تكن النصوص التي كُتبت في الخمسينات والستينات في دولة الإمارات تشكل نصاً متطوراً متكاملاً فنياً، إنما هي نصوص كُتب بعضها بشكل فطري، وإرهاصات سُجلت على شكل حواريات أكثر مما هي نصوص متكاملة الأبعاد الفنية، ومن الصعب محاكمة تلك النصوص نقدياً بما يجب أن يكون عليه النص المسرحي، إنما يجزم المؤلف أنها ببساطة كانت تفتقر إلى عناصر كثيرة ينبغي أن تتوفر في نص درامي، أولها الدراما نفسها.
في الفصل الثالث، يرى المؤلف أن تأسيس المسرح الإماراتي يقع في الفترة (1971-1980)، أي منذ قيام دولة الاتحاد في العام 1971 والذي كان مفصلاً أساسياً، ونفيراً عاماً لنهضة واسعة شملت نواحي الحياة كافة، منها التعليم الذي كان العامل الأساسي لولادة المسرح ونموه، فقد عُرفت الدولة بأكبر مشروع انتقالي في التعليم شهدته المنطقة، نتج عنه بناء مئات المدارس الحكومية، وانبثاق أول جامعة في الإمارات،أاعقبها ظهور جامعات عديدة تخصصية.
ويستعرض عبد القادر المراحل التي مر بها المسرح الإماراتي بعد مرحلة التأسيس، معتمداً على أسماء مهمة كعلامات بارزة وعناوين أساسية، منها صقر الرشود، وإبراهيم جلال، ومن ثم يجعل من الفرق المسرحية ملامح أساسية لمراحل زمنية مختلفة.
ويتناول المؤلف في الفصل الرابع قضية «التجريب والازدهار» خلال الفترة (1980- 1990)، ففيها جرى الاهتمام بالقطاع المسرحي ولم يعد ذلك محصوراً بقسم المسرح في وزارة الإعلام والثقافة، فقد تأسست دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة مع بداية الثمانينات، وأخذت على عاتقها تنشيط البيت المسرحي، حيث أصبحت طرفاً منشطاً ومهماً، بل وأساسياً في الحياة المسرحية، وكان تأثيرها مباشراً ومتعدد الجوانب، فإلى جانب مساعدتها في إثراء المواسم المسرحية، أسست أيام الشارقة المسرحية مع مطلع العام 1984، وهذا المهرجان الذي استمر حتى الآن يعدّ واجهة حضارية للإمارات، وأصبح واحداً من أهم المهرجانات المسرحية العربية، وشاركت في دوراته معظم الفرق المسرحية، وظهرت على خشباته أفضل المسرحيات في عقد الثمانينات. كما ساعد المهرجان على ظهور الكاتب المسرحي الإماراتي، إضافة إلى أنه أتاح فرصاً ذهبية لتجارب المسرحيين الشباب من دولة الإمارات، حتى حقق بعضهم العديد من الإنجازات الحيوية التي أسهمت في تطور البنى التحتية للمسرح.
في تلك الفترة، وإثر انفتاح الفرق المسرحية على التجارب الأكاديمية والفنية، لم تعد الأنشطة المسرحية تقتصر على دعم وزارة الإعلام والثقافة، ولا على دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، بل تعدى ذلك إلى تجارب الفرق التي عملت على تحقيق ذاتها وإبراز إمكاناتها.
أما الفصل الخامس، فقد خصصه المؤلف لسنوات «الفرز والعطاء» (1990-2010)، وفيها استمرت أيام الشارقة المسرحية بتواصلها في تنظيم دوراتها، وبدأت «الأيام» تبلور هوية خاصة بها من خلال العروض والسمات والتحكيم، وزيادة ضيوف المهرجان وتنوعهم، إضافة إلى ضيوف أجانب من خارج البلاد العربية، ما منح المهرجان بعداً عربياً وعالمياً وفتح الأبواب أمام الحركة المسرحية العربية للتواجد في المحافل الدولية، إضافة إلى ما مثله الشيخ د.سلطان القاسمي في حضوره المشرف والحضاري المتميز في تلك المحافل، وتكليفه من قِبل منظمة اليونسكو، والهيئة العامة للمسرح، لإلقاء كلمة يوم المسرح العالمي في باريس العام 2007، كواحد من أهم الشخصيات الذين خدموا المسرح في العالم.
ويمضي المؤلف في الفصل السادس للحديث عن مسرح القاسمي، موضحاً أننا أمام تجربة معاكسة تخترق حاجز ما سمي «الوقت الكافي للكتابة». وعند رصد حركة القاسمي فإنها تبدو متواصلة ليس في الكتابة المسرحية فحسب، بل في تجاوزه مهام الحاكم إلى دور الأستاذ الجامعي، والباحث التخصصي في التاريخ والأنساب، والكتابة الروائية، إضافة إلى متابعاته اليومية للحراك المسرحي والثقافي.
وفي آخر فصول الكتاب أثبت المؤلف ببليوغرافيا الفرق المسرحية العاملة في الإمارات العربية المتحدة وأعضاء هذه الفرق، ويشكل هذا الفصل محطة مهمة في هذه المسيرة، ويحاول أن يجمع الأطراف والدلالات والبيانات كافة لتكون مؤشراً للباحث والقارئ والمطّلع، إضافة إلى كونها بانوراما لمجمل الإنتاج الإبداعي منذ التأسيس الذي تزامن مع تأسيس دولة الاتحاد حتى الآن، بحيث يمكن أن نعد كتاب «المسرح في الإمارات: ستون عاما من العطاء» موسوعة توثيقية شاملة لأحد أهم الفنون التي يطمح العالم العربي إلى تطويرها ورعايتها لتؤدي رسالتها الفنية والاجتماعية على خير وجه
* أكاديمي وناقد من الأردن