‬لماذا تموت الكاتبات كمداً؟‮! (3).. من صنع مأساة مي زيادة؟!


شعبان يوسف*




في كتابه النقدي المهم‮ “‬الغربال‮”‬، والذي قدم له الكاتب عباس محمود العقاد، والصادر عام‮ ‬1923‮ ‬ عن المطبعة العصرية، كتب الشاعر والأديب المهجري ميخائيل نعيمة‮: (‬عندما تتحفنا‮ “‬مي” ‬بقصيدة منثورة نتلوها ونطرب، وعندما تفاجئنا ببحث انتقادي دقيق نطالعه ونعجب، لكنها عندما تعرّب لنا رواية من الطبقة الثانية أو الثالثة بين الروايات نطالعها ونسكت، وعندما تتفلسف لنا في‮ “‬غاية الحياة‮ “ ‬نضيع معها بين جبال من المفردات السمينة والعبارات المنمقة ولا ندري أنسكت أم نصرخ‮).‬

ورغم أن ميخائيل نعيمة كان من مواطنيها، ومهاجرا مثلها، ولكن إلى بلاد أخري، ‮ ‬فمي هاجرت واستقرت في مصر، ‮ ‬ونعيمة هاجر واستقر في أميركا، إلا أنه كتب عنها باللهجة الساخرة أو التهكمية التي لاحظناها في السطور السابقة، وهو هنا كان‮ ‬يجري قراءة لترجمتها لكتاب‮ “ا‬بتسامات ودموع، أو الحب الألماني للكاتب مكس مولر، وكذلك‮ ‬يقدّم نقدا لكتابها‮ “‬غاية الحياة‮” ‬، ‮ ‬والذي ألقت بعضه كمحاضرات في الجامعة المصرية، وبعد انتقادات حادة وجهها نعيمة للكتاب ولميّ‮ ‬ذاتها كتب‮ ‬يقول‮: “‬لا شك عندي أن السيدات اللواتي سمعن خطاب مي في الجامعة المصرية صفقن له تصفيقا حادا أكثر من موقف واحد، ومما لا شك فيه كذلك أنهن انطلقن إلى بيوتهن معجبات بحلاوة الخطاب وبراعة الخطيبة، إنما‮ ‬غير عالمات‮ ‬عن‮ ‬غاية الحياة أكثر مما كن‮ ‬يعلمن حين دخلن قاعة الخطابة، وذلك لأن الخطيبة انصرفت إلى نحت ألفاظها وصقل عباراتها أكثر مما انصرفت إلى ربط أفكارها وتسلسل براهينها، فكانت مقودة بقوالبها اللغوية أكثر منها بتحاليلها الفلسفية، فجاء ما قالته طليا، ‮ ‬جميلا، منمقا كتمثال من رخام، أما روح ذلك التمثال فظلت مدفونة في قلبه الحجري‮”.‬

هنا حاول ميخائل نعيمة تجريد‮ “‬مي‮” ‬من قيمتها، ومن الكامن خلف أفكارها، ‮ ‬ليحصرها في تنميق العبارة، وطلاوة التعبير، ‮ ‬وقشابة الألفاظ، ‮ ‬غير مدرك أنه‮ ‬يقع في الأخطاء ذاتها، ففي الفقرة التي اقتبسناها في البداية، ‮ ‬يصف المفردات‮ “‬السمينة‮” ‬، وهو بالتأكيد‮ ‬يقصد أن‮ ‬يقول‮ “‬الثمينة‮”‬، ‮ ‬ولكنه وقع في‮ ‬غواية الاستماع التي ضللته، دون أن‮ ‬يكون له سابق معرفة بالصفة، وهي مكتوبة أمامه في صحيفة هنا أوهناك‮.‬

وربما لاحظ العقاد بعض ذلك في مقدمته للكتاب، ‮ ‬فقد عاب علي‮ “‬نعيمة‮” ‬انتقاده لطلاوة اللغة، وحلاوة اللفظ، ‮ ‬فيقول العقاد عن‮ “‬نعيمة‮”: (‬وزبدة الخلاف أن المؤلف‮ ‬يحسب العناية باللفظ فضولا ويري أن الكاتب أو الشاعر في حل من الخطأ مادام الغرض الذي‮ ‬يرمي إليه مفهوما أو اللفظ الذي‮ ‬يؤدي به معناه مفيدا‮).‬

كان هذا هو أوّل أشكال المؤاخذة حول ما تكتبه‮ “ ‬مي‮” ‬في الصحف والمجلات، وما تلقيه من محاضرات في أماكن مختلفة، مثل الجامعة المصرية، أو الاتحاد النسائي، أو جمعية الشابات المسيحية، ولكننا سنلاحظ ماعدا ذلك أنها كانت تنال قدرا كبيرا من التبجيل والإطراء والاحترام، وذلك من رواد ندوتها الأسبوعية، ‮ ‬وتجلّي ذلك في القصائد المستترة والمعلنة في شخصها، والرسائل التي كانت تصلها من قامات ذات صيت واسع في الحياة الثقافية والفكرية والسياسية المصرية، ‮ ‬مثل عباس العقاد وأحمد لطفي السيد وأنطون الجميل وداود بركات ومصطفي صادق الرافعي وغيرهم‮. ‬
وللأسف أن الذين كالوا لها المديح تلو المديح، ‮ ‬تخلّوا عنها بيسر وسهولة فيما بعد، وكان تقدير بعضهم، ملازما لكونها فتاة جميلة ولبقة ومتحدثة وسيدة مجتمع، ‮ ‬فاختصروها في أنها سيدة صالون، أو منتدي ثقافي، ‮ ‬وكذلك وضعوها في محل عشق وهيام طوال الوقت، ‮ ‬ثم بعد رحيلها، ‮ ‬حولوها إلى قصة مثيرة تشبه القصص البوليسية، وقلصوا حياتها في مجرد معشوقة، أو صاحبة صالون في حياتها، ‮ ‬وبعد رحيلها أصبحت عند البعض مجنونة، وغير متزنة‮.‬

ولم‮ ‬يكن هذا الأمر‮ ‬يخص كتابا ومبدعين ومثقفين رجعيين شامتين، بل العكس، ‮ ‬فشارك في صناعة صورتها هذه كتّاب ومفكرون لهم إسهامات بالغة الأهمية في صياغة الوجدان المصري، ‮ ‬وعلي رأسهم المفكر سلامة موسي، ‮ ‬الذي ذهبنا لتنصيبه أحد آباء الفكر المصري الحديث، ‮ ‬وهو لم‮ ‬يثبت على وجهة نظر واحدة تجاه‮ “‬مي‮” ‬بل كان حديثه‮ ‬يختلف بين الحين والآخر، ‮ ‬ففي عام‮ ‬1924‮ ‬صدر لمي كتاب‮ “‬بين الجزر والمدّ‮” ‬عن دار الهلال، وقدّم له سلامة، ويبدو أن ذلك بحكم انتمائه في الدار، ‮ ‬فكتب ضمن ما كتب‮: “ ‬فهي تساير الشباب في رغبته في تجديد اللغة والميل إلى التطور والإقلاع عن الجمود، وتسايره أيضاً في نزعته إلى الإصلاح الاجتماعي أو الاشتراكي الذي كان سببا في نهوض أوروبا في الثلاثين السنة الماضية‮ “‬، ‮ ‬ويسترسل سلامة موسي في توصيف وضعية مي بين أقرانها الرجال الكتّاب، ‮ ‬بل إنه‮ ‬يغالي عندما‮ ‬يبدي أسفا أشبه بالغبطة‮ ‬كما‮ ‬يكتب، فهو‮ ‬يغبطها لذكائها وسعة ثقافتها، ويطالبها بألا‮ ‬يقتصر دورها على التنوير والإفادة، بل‮ ‬يتعدى ذلك إلى إيجاد القدوة التي‮ ‬يقتدي بها الناشئ ويحمل منها ذلك المصباح المقدس، ‮ ‬ويمتدحها لمجرد أنها تدافع عن اللغة العربية، رغم أنها مسيحية، ‮ ‬فيكتب بالنص‮:” ‬وإنه لمن أوضح البراهين على صحة نهضتنا أن نجد آنسة مسيحية مثل مي تدافع عن العرب واللغة العربية كما‮ ‬يري القارئ في إحدى مقالات هذا الكتاب‮”.‬

ورغم هذا التقديم المشرق، والتقريظ الواضح، إلا أن سلامة موسي، ‮ ‬قال كلاما مسيئا أشدّ‮ ‬الإساءة إلى مي، وهو كلام لا‮ ‬يعتمد على نظرة علمية، ولكنه حديث مرسل وظالم، ‮ ‬ويعطي انطباعا عنها شديد الرداءة، ‮ ‬فبعد رحيلها في‮ ‬19‮ ‬أكتوبر عام‮ ‬1941، كتب في مجلته‮ ‬‮” ا‬لمجلة الجديدة‮” ‬بتاريخ‮ ‬9نوفمبر‮ ‬1941‮ ‬يقول بأنها لم تكن‮ ‬جريئة، ‮ ‬ولكنها كانت تمالئ المسلمين، وكانت تخشى أن تنتقدهم لكي لا‮ ‬ينتقدوها، أي أنه‮ ‬يهاجمها من النقطة نفسها التي كان‮ ‬يعتبرها مشرقة ومضيئة، ‮ ‬فيكتب كلاما عجيبا، إذ‮ ‬يقول‮:”‬كلنا‮ ‬يتحدث‮ ‬غير ما‮” ‬نكتب، وكلنا أحرار في أحاديثنا جامدون في كتاباتنا، ولكن مي كانت آنسة، ‮ ‬وقد فاتتها فرصة الزواج، وكانت مسيحية، ‮ ‬فكانت لهذا السبب تخشي أقلام المعارضين لها بأكثر مما نخشي نحن‮ “ ‬، يستطرد في جلدها، ولم‮ ‬يكن قد مرّ‮ ‬علي رحيلها سوي بضعة أيام، ‮ ‬والأكثر من ذلك ففي كتابه‮ “‬تربية سلامة موسي‮ “‬، شوّه صورتها بشكل أكثر اتساعا، ورغم أن الطبعة ال أولى للكتاب الذي صدر عام‮ ‬1948‮ ‬لم تتضمن حديثه هذا عن مي، ‮ ‬ولكن الطبعة الثانية التي جاءت قبل رحيله بشهور، ‮ ‬نشر ذكريات جديدة عن مي، كان قد كتبها عام‮ ‬1957، وزعم أنها أصيبت بلوثة حقيقية، وأصبحت مجنونة بالفعل، ‮ ‬ويكتب بقسوة شديدة‮:” ‬وعرفت بعد ذلك أن مرضها تفاقم، وأنها التزمت مسكنها لا تخرج نحو عشرة أيام، وصامت عن الطعام، وكانت قد فقدت كل ما بقي لها من وجدان وتعقل، فكانت تبول وتتبرز في أنحاء المسكن وعلي الفراش وسائر الأثاث، وماتت جوعا وإن لم تحس أنها جائعة‮”!!!‬

ورغم أنه قال عنها في مقدمته لكتاب‮ “‬بين الجزر والمد‮” ‬بأنها كانت تسعي لنشر الفكر الاشتراكي وتناضل من أجله، إلا أنه في تلك الذكريات العجيبة‮ ‬يقول‮: ”‬كانت مي تكتب أحيانا كما لو كانت هاوية فقط تتصيد المعني الأنيق وتتخير الكلمة الحلوة، وتقنع بذلك، ‮ ‬ولو أنها قد دعت إلى حرية المرأة في مصر أو إلى المذهب الاشتراكي لوجدت في الكفاح لهذه الدعوة‮.. ‬ولكن مي كانت معذورة في إحجامها عن الكفاح إذ كانت تعرف أنها لو دعت إلى تحرير المرأة في مصر وكافحت لتحقيق ذلك لوجدت نفورا عظيما لأنها لم تكن مصرية ولم تكن مسلمة‮”!!!‬

ومن الأكيد أن سلامة موسى وآخرين كانوا مصرّين على حبس مي زيادة في أقفاص هم الذين صنعوها بأنفسهم، وبخيالاتهم، ‮ ‬فلو اعتني سلامة موسي بقراءة كتبها الثلاثة عن عائشة التيمورية، ثم عن باحثة البادية، ‮ ‬ثم عن الشاعرة وردة اليازجي، ‮ ‬سيدرك جيدا الجهد الذي بذلته في صياغة أول خطاب نقدي لأدب المرأة في العالم العربي، ‮ ‬وقد لاحظت ذلك وأخضعته لدرس نقدي شامل الناقدة المحترمة الدكتورة ألفت كمال الروبي، ‮ ‬واعتبرت أن دراسات مي عن الشاعرات الثلاث، ‮ ‬بمثابة الفتح النقدي الكبير لخطاب المرأة في القرن العشرين، ‮ ‬وجدير بالذكر أن كتاب‮ “‬باحثة البادية‮” ‬صدر عام‮ ‬1920، ‮ ‬وكتابها عن عائشة التيمورية صدر عدة مرات، ‮ ‬وكتابها عن وردة اليازجي صدر عام‮ ‬1924، ‮ ‬وصدر الكتابان‮ “‬باحثة البادية‮” ‬و”عائشة التيمورية‮” ‬عام‮ ‬1999عن دار الهلال، ‮ ‬بمقدمة للكاتبة الكبيرة صافيناز كاظم، ‮ ‬ولكن جاء كتاب‮ “‬باحثة البادية‮ ‬للأسف ناقصا، حيث إن المقدمة التي كتبها وأنصفها بقوة‮ ‬يعقوب صروف، ‮ ‬لم نجد لها أثرا في هذه الطبعة الجديدة، وهي مقدمة في‮ ‬غاية الأهمية، ‮ ‬حيث‮ ‬يرسم صرّوف صورة رائعة وإيجابية لمي زيادة عام‮ ‬1920، ‮ ‬والظروف التي كلفّها فيها بكتابة أبحاث الكتاب لتنشرها في مجلته‮ “‬المقتطف‮ “‬، ‮ ‬وربما تكون تلك المقدمة، هي أحد الدفاعات والقراءات الفريدة والأصح لدور مي في ذلك الوقت، ‮ ‬كما أن الكتاب حذفت منه عدة مراسلات بين مي وباحثة البادية، ونأمل في إعادة الطبعة الأصلية والكاملة من جديد‮.‬

وفي هذه الطبعة الجديدة، أشارت صافيناز إلى المراسلات التي كانت بين مي وأدباء عصرها مثل العقاد وجبران خليل جبران، ولكنها لاحظت بأسف شديد أن تركيز كثيرين على هذه المراسلات، ‮ ‬وكأنها هي النشاط الأدبي والحياتي الوحيد لهذه الأديبة الجادة، ‮ ‬واستطردت‮:” ‬وكأنها لم تكن سوي تلك العاشقة أو المعشوقة، وهذا‮ ‬يرجع إلى الأقلام التي تجاوزت في تحليلها لتلك المراسلات الحدود الواقعية إلى خيالات الظن المؤدية إلى دروب الكذب والزور والبهتان‮”.‬

وتلك الملاحظة كانت قد ساقتها كذلك الدكتورة ألفت الروبي في بحث لها عن كتاب‮ “‬عائشة التيمورية‮”‬، ‮ ‬واستهلت ألفت بحثها بأن مي زيادة ارتبط اسمها بصالونها الأدبي الذي جاء نشاطه بين عامي‮ ‬1913‮ ‬حتي‮ ‬1933، وكان‮ ‬يحضره عدد كبير من نجوم المجتمع الثقافي والسياسي والأدبي آنذاك، لذلك تكتب ألفت الروبي‮: “‬طغت شخصية مي بوصفها شخصية نسائية نادرة في تلك الفترة المبكرة من عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ‮ ‬ومن ثم شغل كثير ممن كتبوا عنها بكل ماهو شخصي‮ ‬حقيقي أو متوهم فكتبوا عن الرجال الذين حولها، أو عرفتهم من بعيد، ‮ ‬ووقعوا في حبها، كما كتبوا عن محنتها الأخيرة التي انتهت بوفاتها‮”.‬

كذلك أراد الكاتب والأديب طاهر الطناحي أن‮ ‬يقدّمها في كتابه‮ “أ‬طياف من حياة مي‮ “ ‬وراح‮ ‬يسرد كثيرا من لقاءاته معها، ‮ ‬تلك اللقاءات التي كانت بلا شهود، ‮ ‬وبالتالي نشر رسائل بينها وبين أحمد لطفي السيد، وبينها وبين العقاد، ‮ ‬وجدير بالذكر‮ ‬هنا أنه لابد من التنويه عن أن عددا من الباحثين تحدثوا عن مرجع عنوانه‮ “‬رسائل مي‮” ‬صدر عام‮ ‬1948للسيدة مادلين مرقش، واعتبروا أنه عبارة عن رسائل مي زيادة، ‮ ‬وهذا المرجع ذكره الكاتب الكبير وديع فلسطين ضمن مراجعه في كتابه‮ “‬مي زيادة وصالونها الأدبي، ‮ ‬وذكرته الكاتبة وداد سكاكيني في كتابها مي في حياتها وآثارها، ‮ ‬وذكره حسين عمر حمادة في كتابه أحاديث مي زيادة وأسرار‮ ‬غير متداولة عن حياتها، ‮ ‬وذكره كذلك خالد محمد‮ ‬غازي في كتابه‮ “‬جنون امرأة‮”‬، ‮ ‬وغير ذلك من كتابات أخري، وللأسف عندما عثرت على الكتاب، ‮ ‬وجدته عبارة عن رواية متخيلة، ‮ ‬تدور بين شخصية تدعي‮ “‬مي‮”‬، وابنتها‮ “‬سعاد‮”‬، ‮ ‬ولو بذل أحد من الباحثين بعض الجهد في الاطلاع على الكتاب، ‮ ‬لما انتشر هذا الكتاب كأحد المراجع المعتمدة عن مي زيادة، وللأسف فما‮ ‬يخص ذلك الكتاب، ‮ ‬يخص معلومات كثيرة وردت في كتابات كتّاب وباحثين، وعلى رأسهم الراحل طاهر الطناحي الذي صنع لنا حوارات متخيلة بينه وبين مي زيادة، وكتب أنها ولدت عام‮ ‬1895، ‮ ‬رغم أن كل المراجع تقول بأنها ولدت عام‮ ‬1886، ‮ ‬وقال إن اسمها‮ “‬مريم‮ “ ‬رغم أن اسمها كان‮ “ ‬ماري‮ “ ‬بالإضافة إلى تلخيصها في مجرد معشوقة، وصاحبة صالون‮.‬

ولأن‮ “‬ميّ‮ “ ‬لم تجد أحدا من الذين رافقوها في مسيرة الأدب والثقافة‮ ‬يدافعون عنها، أو‮ ‬يكتبون الوجه الحقيقي لها، ‮ ‬جاء الذين تلوهم من أجيال لتثبت عندهم صورة مي، ‮ ‬صاحبة الصالون، وصاحبة الوجه الأنثوي الذي عشقه الجميع، ‮ ‬ثم المجنونة في نهاية حياتها، ‮ ‬ولم تتورع بعض الكتب الموضوعة عنها وفي مسيرتها، أن تتصدرها عناوين مثيرة، كعناوين الروايات البوليسية‮.‬

وللأسف فإن كثيرا من رفاقها، ورفاق رحلتها الثقافية، أشاحوا عن رؤية مجهودها الفكري والأدبي، ‮ ‬ففي التأبين الذي أقامته السيدة هدي هانم شعراوي بعد رحيلها مباشرة، نجدا أحد أقطاب الفكر والثقافة مثل طه حسين‮ ‬يقول‮:”..‬أريد أن أسجّل شيئين اثنين، أحدهما أن الأدب العربي مدين‮ “‬لميّ‮” ‬لا بآثارها الأدبية التي أنتجتها، ولكن بما هو أبعد من هذه الآثار وأعمق في حياتنا الأدبية الجديدة، فميّ‮ ‬هي التي أسّست لأول مرة في تاريخنا الحديث هذا الصالون الذي استؤنفت فيه الحياة الأدبية المشتركة بين الرجال والنساء بعد أن انقضت عصور بغداد والأندلس‮”.‬

ولم تحظ ميّ‮ ‬زيادة بأي كتابة عنها من الدكتور العميد على وجه الإطلاق، ‮ ‬وفي هذا التأبين اعتذر عن أنه لم‮ ‬يجهّز شيئا عن ذلك، ‮ ‬ولا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يقول عنها سوي ذلك في هذا المقام الخاص، وربما لم تحظ‮ “‬كاتبات وأديبات‮ “‬أخريات من السيد العميد، ‮ ‬إلا من كتبن بالفرنسية، ‮ ‬وهن السيدات قوت القلوب الدمرداشية، وجان أرقش، ‮ ‬والسيدة صقيلي، وقد نلن ثلاثتهن التقريظ المبالغ‮ ‬فيه، ‮ ‬رغم أنني أشك في قيمة بعض كتابتهن‮.‬

كذلك كتب العقاد في مقاله‮ “‬رجال حول مي” باللغة نفسها، ‮ ‬تلك اللغة التي تستبعد النظر إلى ميّ‮ ‬ككاتبة ذات توجه فكري وأدبي خاص، ‮ ‬ولكنه انشغل بالأحاديث التي كانت تدور في صالونها، ‮ ‬وبعض الفكاهات التي كان‮ ‬يتداولها البعض بين الحين والآخر، ‮ ‬ولم تكن تلك الطرافات سوى حرف النظر‮ ‬عن عمد للقيمة العليا للكاتبة والشاعرة مي زيادة‮.‬

وهناك تجربة تكاد تكون مجهولة، وصفحة شبه‮ ‬غائبة عن كافة الأبحاث التي كتبت عنها، ‮ ‬وهي ترؤسها للقسم النسوي في صحيفة‮ “‬البلاغ‮ ‬الأسبوعية‮ “‬، ‮ ‬ولها في ذلك الشأن مقالات وأبحاث ومتابعات مهمة، وأعتقد أن تلك التجربة لو جمعت في كتاب، ‮ ‬سوف تعطي صورة جديدة عن مي زيادة، ‮ ‬تلك الكاتبة العظيمة، التي صنع رفاقها والذين كانوا حولها، مأساتها بامتياز‮.‬
* أخبار الأدب.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *