من كراسات بيسوا


*فرناندو بيسوا/ ترجمة: أحمد شافعي

طالما كانت أفعالي بداخلي … لم ألمس الحياة قط … وما شرعت أتلمَّس فعلا من الأفعال إلا وأتممته في أحلامي، وببطولة … ذلك أن السيف أثقل من فكرة السيف … كنت على رؤوس جيوش هائلة، وظفرت بمعارك عظيمة، وذقت مرارة هزائم قاسية، كلها بداخلي … نعمت بالمشي وحدي في حدائق خضر وعبر ردهات عريضة، آمرًا الشجر متحديا البورتريهات … في الردهة المعتمة العريضة في خلفية القصر الذي كثيرا ما كنت أمشي فيه برفقة حبيبتي … لم تكن لي قط خطيبة حقيقية … لم أعرف قط كيف أحب … عرفت فقط كيف أحلم بالحب … ولو أنني كان يروق لي أن أرتدي خواتم النساء في أصابعي فما ذلك إلا لأنني كنت أفترض أحيانا أن يديَّ كانتا لأميرة وأنني، في حركات يدي على الأقل، كنت المرأة التي وقعت في غرامها … شوهدت يوما في ثياب ملكة … كنت أحلم أنني أنا زوجتي الملكية … كان يروق لي أن أرى وجهي في المرآة فأحلم أنه وجه غيري، وجه محبوبتي على وجه التحديد، لما كانت في الوجه الذي يطالعني قسمات أنثوية … وما أكثر ما لامست شفتاي شفتيَّ في المرآة! … وما أكثر ما عانقت إحدى يديّ الأخرى، أو تخللت إحداهما شعري كأنها يد غريبة، كأنها يد حبيبتي التي تلمسني … وما أنا بالذي يحكي لكم الآن ما أحكيه … فما يكلمكم إلا البقية الباقية مني.

***
لما كنت ثابتا على الإيمان بلا شيء ومن ثم على القبول، مبدئيا، بصلاحية كل الآراء (مهما يكن ما تذهب إليه) واعتبار أن قيمة النظرية من قيمة صاحب النظرية، وقيمة الشعور من قيمة المعبر عن الشعور، فإنني لم أستطع يوما أن أتعامل بجدية مع الدوجما الأدبية التي تتألف من استعمال الشخصية. الشخصية ضرب من الإيمان، وكأي إيمان، يستحيل أن يقبله عاقل.
وما أقصر المسافة بين الإيمان بحقيقة خارجية والإيمان بحقيقة داخلية، بين القبول بصدق مفهوم عن العالم والقبول بصدق مفهوم عن الذات. ولست أقطع بسيولة كل شيء، فسيكون ذلك قطعا بشيء، ولكن السائل حقا هو فهمنا لكل شيء، والحقيقة، إذ تتكشف لنا في حقائق متعددة، تختفي، لأن الحقيقة لا يمكن أن تتعدد.
***
كل فكرة بداخلي، مهما حرصت على عدم المساس بها، مصيرها آجلا أم عاجلا أن تستحيل خيالا. فإن أردت أن أعرض أسبابا أو أطلق قطارا من الحجج، إذا الذي يخرج مني جملٌ تكون في مبدء الأمر تعبيرا عن الفكرة ذاتها، ثم عبارات تنفرع عن هذه الجمل المبدئية، ثم في نهاية المطاف ظلال وتنويعات على العبارات التابعة. أبدأ بالتأمل في وجود الرب ثم إذا بي أتكلم عن الحدائق النائية، والأنهار التي تجري بلا صوت يذكر أسفل شبابيك تأملي … وأجد أني أتكلم عنها لأنني أجد أني أراها، وأحسها، وتأتي على وجهي لحظة عابرة فإذا به يلفحه نسيم حقيقي طالع من سطح نهر أحلامي عبر المجازات.
أحب أن أفكر، لأنني أعلم أنه لن يمر وقت طويل قبل أن أكف عن التفكير. نقطة الانطلاق هي أن التفكير يبهجني ـ ميناء معدني بارد يبدأ منه الإبحار باتجاه الجنوب الشاسع. أحاول في بعض الأحيان أن أحمل عقلي على التركيز في مشكلة اجتماعية أو ميتافيزيقية هائلة، لأنني أعلم أن ثمة في خفايا صوت عقلي الأجش ذيول طواويس متأهبة للانفتاح أمام عينيّ بمجرد أن أنسى أنني أفكر، ولأنني أعلم أن الإنسانية باب في جدار لا وجود له، فبوسعي أن أفتحه إلى ما يعنّ لي من حدائق.
وأحمد الله أنْ وَضَعَ عنصر السخرية في مصائر البشر فهو يجعل الأحلام مزاجا للتفكير لدى الفقراء في الحياة، حتى وهو يجعل الحياة مزاجا للتفكير ، أو التفكير مزاجا للحياة ـ لفقراء الأحلام.
لكن حتى الأحلام المنسابة في التفكير تصيبني في نهاية المطاف بالضجر. فإذا بي عند أي نقطة أفتح عيني بعيدا عن الحلم، وأقصد الشباك، وأنقل أحلامي إلى الشوارع والأسطح. وفي تأملي المشتت والعميق في كل هذه البلاطات إذ تنقسم إلى أسطح تغطِّي عدوى البشر النجمية في الشوارع، في ذلك التأمل بالذات تنفصل روحي عني انفصالا حقيقيا، فلا أفكر ولا أحلم، ولا أرى، ولا أحتاج. وحينئذ أتأمل حقا في تجريد الطبيعة، تجريد الطبيعة، في الفارق بين الإنسان والإله.
***
ما أكثر ما أصاب مذنَّب ضال، في منحنى العوالم الزماني الهائل، فأتى على الأرض! كارثة على هذا القدر من المادية هي التي ستحدد مصير ما لا حصر له من المشاريع العقلية والروحية. الموت يتجسس علينا، كأنه شقيقة الروح، والقدر ..
الموت هو ذات وجودنا في خضوعها لشيء ما خارج علينا، ونحن، في كل لحظة في حياتنا، لسنا غير انعكاسات وعواقب لما يحيط بنا.
والموت كامن في كل فعل حي. موتى ولدنا، موتى نعيش، وموتى مسبقا نلج الموت. مؤلَّفين من خلايا تعيش تحللها، مجبولون من الموت.
***
كنت في طفولتي أدَّخر كرات القطن القديمة. كنت أحبها حبا حزينا ـ وما أوضح الذكرى ـ وكونها غير حقيقية كان يملأني شفقة … وذات يوم وضعت يدي على بضع قطع مختلفة من الشطرنج، فيا لها من سعادة! فكرت على الفور في أسماء لها جميعا، وانتقلت إلى أحلامي.
صارت لكل تلك الشخصيات قسمات محددة. صارت لها حيوات متمايزة. بينها من قررت أنه مشاكس محب للرياضة، يعيش في علبة فوق خزانة ثيابي، يمر فيها كل يوم القطار لحظة الرجوع من المدرسة، رجوعي أنا في أول الأمر ثم رجوعه هو بعد ذلك. ذلك القطار كان مصنوعا من علب ثقاب، ربطت بعضها إلى بعض. وكان يثب إلى أعلى وإلى أسفل كلما تحرك القطار. آه يا طفولتي الميتة! جثة دائمة الحياة في صدري!
أتذكر تلك الدمى التي كانت لديّ وأنا صبي بدأ يكبر، فيملأ عينيّ إحساس الدموع بالدفء، ويأكلني توق ضار ويائس كأنه الندم. كل ذلك حدث فظل متجمدا مرئيا ـ يدركه البصر ـ في ماضيّ، في فكرتي الدائمة عن غرفة النوم من ذلك الحين، مبسوطة حول شخص طفولتي (الذي لا يدركه البصر إلا من داخله) وهو يمضي عن خزانة ثيابي إلى المنضدة المجاورة لسريري، ومن المنضدة المجاورة لسريري إلى سريري، سائقا في الهواء قطاري البدائي الذي كنت أتخيله جزءا من شبكة المواصلات في المدينة يعيد زملائي الخشبيين السخفاء من المدرسة إلى بيوتهم.
منحت لبعضهم عادات سيئة، كالتدخين أو السرقة، ولكنني لست ذا نزعة جنسية، فما كان يروق لهم في هذا الاتجاه إلا تقبيل الفتيات والتلصص على سيقانهن، وما كان ذلك في نظري إلا لعبا. كنت أجعلهم يدخنون ورقا ملفوفا وراء صندوق كبير موضوع فوق حقيبة سفر. وكان يحدث في بعض الأحيان أن يمر بهم أحد المعلِّمين. فكنت، بكل ما فيهم من قلق، أرغم نفسي على الإحساس به، أسارع إلى إخفاء السجائر الزائفة، وأضع المدخن منهم، والذي كان يفاجئني دوما بثبات مريب ـ في الركن وأنتظر المرور المحتوم للمعلم، فيلقي عليه التحية لا أتذكر بأي طريقة بالضبط … في بعض الأحيان كانت الشخصيات تقع على مسافة مني بحيث لا أستطيع أن أحرك إحداها بذراع والأخرى بالآخر. فكنت أحركها بالتبادل. 
وكان ذلك يؤلمني مثلما يؤلمني اليوم أن أعجز عن منح التعبير لحياة …
آه، ولكن لم أتذكر هذا؟ لماذا لم أبق طفلا إلى الأبد؟ لماذا لم أمت هناك، في إحدى تلك اللحظات المشحونة بمكائد زملائي في المدرسة ووصول المعلمين كأنما على غير توقع؟ أنا اليوم عاجز عن هذا … اليوم ليس لدي إلا الواقع، الذي لا أستطيع اللعب به … ولد صغير مسكين منفي في رجولته! لماذا كان حتما عليّ أن أكبر؟
اليوم، حينما أتذكر هذا، أشعر بالحنين إلى ما هو أكثر منه. شيء ما مات بي، أكثر مما مات في الماضي.
***
ما كان القدماء يرون أنفسهم تقريبا. ونحن اليوم نرى أنفسنا في كل الأوضاع. ومن هنا خوفنا من أنفسنا، وتقززنا منها.
يحتاج كل إنسان، لتتسنى له الحياة والحب، أن يصبغ بالمثالية نفسه (ثم من يحبهم في نهاية المطاف). ولذلك نحب. ولكنني ما أكاد أرى نفسي وأقارنها بمثال ـ غير رفيع، بل دنيء ـ للجمال البشري، حتى أ عدل عن الحياة والحب.
حساسية الإغريق الجمالية الزائفة … ما أتعس قوما يرون هذه التماثيل وهم (حتما) معيبون جسمانيا، شأن كل البشر الحقيقيين!
لا بد أن ذلك كان يشقي الإغريق لو أن ذلك ما كانوا يشعرون به. ولكن ما من أثر لذلك الإحساس في أدبهم. فذلك، في واقع الأمر، إحساس حديث محض.
حتى الجميلات لا يُشبعن قدر تمثال. فالمرأة الجميلة، شأن أي من الأشياء المادية والمعنوية، ليست الجمال. بينما التمثال هو الجمال فقط. (هو حجر أيضا، ولكن الحجر لا يعنينا، فنتجاهله، ناظرين فقط إلى الجمال).
***
فعل شيء مغاير لما يفعله الجميع يكاد يكون في مثل سوء فعل شيء لأن الجميع يفعلونه. فهو أيضا يشي بانشغال مماثل بالآخرين، واهتمام مماثل بآرائهم، وهو علامة أكيدة على الدونية المطلقة.
لذلك أمقت أمثال أوسكار وايلد ممن يعمدون أن يكونوا سيئي السمعة منعدمي الأخلاق، يهرفون بالمفارقات والآراء الانفعالية. ما من رجل سام يخلع على آراء الآخرين من الأهمية ما يجعله يعنى بمناقضتها.
فالآخرون، في نظر الرجل السامي، لا وجود لهم. هو آخر نفسه. وإن شاء أن يحاكي أحدا، فنفسه هي التي يحاول أن يحاكيها. وإن أراد أن يناقض أحدا، فنفسه هي التي ينشد مناقضتها. وهو يناضل من أجل إيذاء نفسه. ويكيد لآرائه. ويقيم محاورات طوالا مع حساسيات يستشعرها، يكلمها، و …
كل إنسان موجود هو أنا. المجتمع كله بداخلي. أنا أفضل أصحابي وأعدى أعدائي. ما عدا ذلك، من تلال وسهول وناس و… ليس إلا الأفق…
أكبر عيوب العمل والجهد أنه قد يتحول إلى عادة. ونفس العيب قائم في اللافعل. فهو أيضا قد يتحول إلى عادة. وسبيل الرجل السامي الصحيح إلى مغايرة هذا وذاك هو إحجامه عن الاعتياد، فلا تكون له عادات، أو آراء، أو شخصية محددة مرسومة.
وليس ذلك ازدراء مني للآراء والعادات بقدر ما هو ابتسامة أبتسمها لآراء الآخرين وعاداتهم …
من تكن له شخصية ثابتة، وعادات منتظمة، وآراء دائمة، إنما هو منتمٍ إلى ذاته. وعلينا دائما أن نغير آراءنا، وشخصياتنا، ونوايانا، وبغير ذلك، قد يتفق الرأي … مع آراء الآخرين.
ينبغي أن تنصب جهود الرجل الأسمى دائما على محاولة نسيان أن العالم الخارجي موجود.
***
أحبك حد الحرج من ذلك. ثمة شتى أنواع الأسباب الداعية لأن لا أحبك، وليس من بينها أنني لا أحبك، لأنني أحبك. ما أروع أن نشعر بما لا نريد الشعور به! ما أروع أن يكون للمرء قلب مستقل.
***
أعظم انتصارات الإنسان أن يتوصل إلى قناعة بأن سخافته لا توجد إلا للآخرين، ولا توجد إلا إن أرادها الآخرون أن توجد. حينئذ لا يبالي الإنسان بسخافته، التي لا يملك إبطالها، فهي فيه.
ولكي ينعم الإنسان الأسمى بسموه، فلا بد أن يعلِّم نفسه ثلاثة أشياء: السخافة والعمل والتفاني.
فحين لا يتفانى المرء في أحد، لا يطلب التفاني من أحد. وبالاتزان، والطهر، والاقتصاد، ولمس الحياة بأقل قدر ممكن، يجنِّب المرء نفسه الضيق والاقتراب أكثر مما ينبغي من الأشياء، بما يحطم قدرتها على أن تكون مواضيع للحلم، ويعزل نفسه تكييفا لكبريائه وتحرره من الوهم. ويتعلم كيف يشعر بكل شيء دون أن يشعر به شعورا مباشرا، ففي الشعور المباشر خضوع، خضوع من المرء لفعل الشعور بالشيء.
وها هو ويتمن الأولمبي، بل بروتس الفهم، يعيش أحزان الناس وأفراحهم دون أن يعيشها حقا وصدقا. وبوسعه أن شاء أن يبحر ويقيم في الوقت نفسه حينما ترحل السفن، وبوسعه أن يقيم أو يبحر في الوقت نفسه، بما أنه لا يبحر ولا يقيم. هو مع كل فرد في كل إحساس وفي كل ساعة من الحياة. يرى بعيني أبطاله وقلوبهم، يشهد كل مأساة تجري وقائعها على وجه الأرض. هو مع المنكرين منكر، وفي المعارك كلها قتيل، وفي كل نصر هو المنتصر.
ظفر بفرحه وحزنه لما ظفر بكل فرح العالم وحزنه.
يتذكر صوته الصائح وسط اليهود المجتمعين: «أطلق لنا باراباس!»، فلما فكر في تلك اللحظة، ذكّره اسم باراباس أنه كان من قبل باراباس، مثلما كان يسوعا الذي لم يرده الناس. ولما مضى يحاول أن يعرف أيَّ الناس كانه من تلك الجموع، أدرك أنه كان من الجموع كلَّ واحد فيهم. فلما رفع عينيه قليلا رأى على جبين حبيبته شعر مريم الأسود، شعر أم يسوع. واستشعر النهود. فلما ساق ذلك عقله صوب الغريزة الجنسية، بكى فجأة لما عرف أنه كان المجدلية أيضا. ومدَّ يديه في محبة لولا أنه تذكر إذ غسلهما بيلاطس من كل مسؤولية، واستقام قوامه، حاكما رومانيًّا في عباءة حلمية تلتف برقة حول جلده يحسها أتمَّ الإحساس. أغمض عينيه، عيني حلمه الحقيقيتين، على كل ما شعر به من وهن، في رد فعل أخير، قبل أن تذوي حساسيته، وقبل أن تمضي رايات كل شيء أحسَّ به، بما عليها من نسور وعقبان، في غبشة امتلأت جبالا خضرا بعيدة في آخر الأفق.
ساقه الوهن والضجر من كل تلك الأحاسيس المبعثرة إلى الاكتئاب، والاكتئاب ملأه بمشاعر الاكتئاب، ومن بينها، في أقصى درجات الوهن، إحساس بالحنان، بل الشفة الدامعة على الآخرين: بتهويدة تتردد على ألسن الكثيرين في جنح الليل، حينما يلتقي المسكين البائس على الطريق بسيدتنا العذراء وقد ارتدت ثياب راعية، فتأخذ بيده إلى ملكوت السماء.
وتفتح طفولته حينما يتذكرها بابا إلى المسيح، ويدخل ملكوت السماء عبر إحساسه بكل دمعة لم تذرف بعد.
* * *
كل شخص نراه فيثير اهتمامنا، علينا أن نبدع سيرة لماضيه ومستقبله. وإن من سمات الحكيم العقلية قدرته على التزيِّي بالآخرين، وإلباسهم من الثياب ما يراه الأمثل لهم مثلما يراهم في أحلامه.
الحفلات التنكرية تفضح الأرواح. فما دام لا يرانا أحد، بوسعنا أن نحكي أدق دقائق حياتنا وأشدها حميمية. وإنني أتأمل أحيانا في مخطط قصة، عن رجل ابتلي بمأساة شخصية إذ ولد وفيه من الحياء أشده … وذات يوم، وفيما يرتدي قناعا حيث لا أدري، إذا به يحكي لقناع آخر أخصَّ ما في مأساة حياته، وأعصاه على التفكير، وأشقَّه على الحكي. ولما لم تكن ثمة تفصيلة خارجية واحدة تشي بشخصيته، فقد تنكر حتى بصوته، ولما كان قد راعى ألا يلاحظ شيئا عمن حكى له حكايته، فقد صار له أن يهنأ بذلك الإحساس الهائل بأن ثمة على وجه هذه الأرض من يعرفه كما لا يعرفه أقرب أصدقائه وأخلص خلصائه. فكان إن سار في شارع يسأل نفسه عن هذا الشخص، أم ذاك، أم ذلك الذي هنالك، أيكون أي من أولئك هو الشخص الذي حكى له ذات يوم وهو مرتد القناع أخص ما في حياته؟ فوُلِد فيه من ذلك اهتمام بكل شخص، إذ ربما يكون أي شخص هو المؤتمن الوحيد في هذا العالم على سره. ومجده الحق المؤزر لا يتحقق إلا إن كان كل ذلك الذي حكاه من حياته الشقية الحزينة من أولها إلى آخره زيفا مطلقا.
***
الحياة في جوهرها رتابة، والسعادة من ثم تعتمد على تكيف حصيف مع رتابة الحياة. وبتحلينا بالرتابة، نجعل أنفسنا مساوين للحياة. فنعيش الحياة بتمامها. ومن يعش الحياة بتمامها هو السعيد.
والأرواح السقيمة غير المنطقية تسخر من السعادة البرجوازية، من حياة البرجوازي الرتيبة إذ ينصاع لروتين يومي ……، ولزوجته إذ تنفق يومها في الحفاظ على نظام البيت، وتبذل حياتها في الاعتناء بالأطفال، ومحادثة الجيران والمعارف. غير أن هذه هي السعادة. قد يبدو للوهلة الأولى أن الأشياء الجديدة هي التي تمنح السعادة للعقل، ولكن ليس ثمة الكثير من الأشياء الجديدة، وكل جديد لا يكون جديدا إلا لمرة. والأهم من ذلك أن لحساسيتنا حدودا، فلن تظل تتذبذب إلى الأبد. وإن زادت الأشياء الجديدة عن الحد فسوف تصيبنا في نهاية المطاف بالملل، لأن حساسيتنا لن تستطيع أن تلاحق كل المحفزات التي تستقبلها.
إسلام المرء نفسه للرتابة يعني معايشة كل شيء وكأنه جديد إلى الأبد. ومن هنا فرؤية البرجوازي للحياة هي الرؤية العلمية، إذ إن كل شيء في حقيقة الأمر جديد أبدا، وقبل يومنا هذا، لم يكن ليومنا هذا وجود.
ولكنه بالطبع لن يقول شيئا من هذا. ولو أمكنه القول لقال إنه لا يمكن أن يكون سعيدا. وكلامي لا يستنفر فيه سوى الابتسام، وابتسامه هو الذي يجلب لي كل تلك الرؤى، بكل تلك التفاصيل، فأدوّن، عسى أن تتأمل الأجيال القادمة.
_________
*نشرت هذه المقاطع مترجمة إلى الإنجليزية في أكتوبر 2009 بمجلة Poetry الأمريكية، وقد ترجمها إلى الإنجليزية رتشارد زينث / مجلة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *