شعبان يوسف*
لا أدعي بأنني سوف أقدّم مذكرة دفاع رصينة ومحكمة عن أحقية المرأة في الحصول على كافة متطلبات الحياة، أو في ضرورة النظر إليها ككائن إنساني مثله مثل الرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأن هناك سلسلة ذهبية طويلة من الأسماء التي فعلت ذلك بجدارة وإخلاص نادرين، بالإضافة إلى التفاني والجدارة والإخلاص الذي لاحظناه على كثير من المنشغلين بقضية النساء عموماً، فإن النضال من أجل عدالة تلك القضية، كان نوعاً من الضرورة الحتمية التي لا مفر منها سوى الفناء والانسحاق والانتحار المادي والمعنوي، فكان النضال لازمة أساسية أمام مناضلي قضية النساء، ليس باعتبارها قضية خاصة ونوعية وفريدة، ولكن باعتبارها قضية عامة وعادلة، تخص جميع البشر والجماعات السياسية، وكذلك طليعة المجتمعات الناهضة والساعية نحو كافة أشكال التحرر.
وتبعاً لذلك لاحظت أن قضية المرأة الكاتبة، منذ نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وحتى اللحظة التي نحياها تقف في بؤرة القضايا النسائية وفي قلبها، ولم يكن انتحار الكاتبة الطليعية فرجينيا وولف ينفصل بأي شكل من الأشكال كافة أشكال الأزمة التي تلاحق المرأة ككائن بشري له خصوصياته الحادة، وكذلك ككائن اجتماعي يراد السيطرة عليه بفرض القوانين، وتأويل النصوص الدينية ضده بكل الطرق للدرجة التي تصل إلى حدّ التسليع الرخيص لقيمة المرأة، وتحويلها إلى متاع يملكه الرجل والمؤسسة الدينية والسلطة السياسية، ولو تأملنا كتابات وولف المتعددة، سنجدها تقف بضراوة ضد تلك النواميس المفروضة على المرأة وجسدها وصوتها الساسي والأدبي والفكري والروحي، ولذلك جاءت كتاباتها مختلفة تماماً، وضد التراث التقليدي للمنجز السردي الأوروبي، وحاولت بكل الطرق ضرب أو اختراق مفهوم الحكي التقليدي والمتعارف عليه، وبالتالي هناك نقاد قالوا عنها بأنها لا تجيد الحكي، وأنها تقف بين الشعر والسرد، فهي لم تخلق حكاية أو رواية كما اعتاد النقاد الأوربيون، ولا هي أنشأت قصيدة كما يكتب الشعراء، هذا بعض ما كان النقاد يقولونه، والأدهى من ذلك أن فرجينيا صاحبة المآسي الحياتية المتعددة، لم تتوقف عن طرح رؤاها، وإبداع الكتابة المختلفة، ولذلك فهي هاجمت الكتابة المباشرة التي كان يكتبها الاشتراكيون، والذين كانوا يلوون عنق الإبداع لحساب السياسة، فهاجمتهم بشراسة وهناك بعض هذا الهجوم في كتابها “القارئ العادي”، والذي نقلته إلى العربية الدكتورة عقيلة رمضان، وراجعته الدكتورة سهير القلماوي، ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1971، وبالتالي فلم يصمت خصومها، فهاجموها بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة، وراحوا ليعيدوا إنتاج تاريخ لحياتها وفقا لما يريدون إيصاله للرأي العام، وحاول البعض تصويرها على أنها مجنونة، ومصابة بانهيار عصبي، إنها حرب شرسة كانت تدور بين فرجينيا وخصومها، حرب على فرجينيا استخدمت فيها كل الأسلحة السياسية والفكرية والذكورية، هذه الحرب التي ألزمت فرجينيا صمتا أبديا، وأدّت في النهاية إلى انتحارها المدوّي غرقا، وإذا كانت فرجينيا أنهت حياتها بتلك الطريقة، فيظل إبداعها وكتاباتها النقدية في تواصل مع كافة الأجيال التي أتت فيما بعد، وفي كل أركان المعمورة.
ولا أريد أن تستغرقني قصة فرجينيا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولكنني أريد من تلك الإشارات العابرة، أولا قراءة وتأمل حياة وإبداعات فرجينيا وولف مرة أخري، ووفق رؤية الصراع من جميع الزوايا، دون استثناء من احتكروا منصة الطليعيين في العالم حسب مواصفات أيديولوجية ثابتة ورائجة، وأخصّ هنا الاشتراكيين المزعومين في كل الدنيا، هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم دعاة للحق والحقيقة، والفضل والفضيلة، وللأسف كان بعضهم يروّج لأنظمة مستبدة وما زالوا بشكل معلن ومستتر في الوقت نفسه، أما الأمر الآخر فهو الربط القائم والضروري بين قصة فرجينيا ككاتبة وامرأة ومناضلة ضد القبح بشكل عام، وبين نظيراتها في شرقنا العربي، فلا توجد فروق جوهرية بين انتحار فرجينيا وولف في مطلع الأربعينيات، وبين انتحار عنايات الزيات في الستينيات، ودرّية شفيق في السبعينيات، وأروي صالح في التسعينيات، الفروق تكمن في التفاصيل، وفي الزمان والمكان.
وبعيدا عن النهايات التي دفعت الكثيرات لقرار الانتحار، فهناك نهايات مؤسفة لكثيرات من الكاتبات والمبدعات البارزات في الأدب والسياسة والفن، لأن المقدمات الاجتماعية التي أحاطت بهن، كانت تنطوي على أشكال من الخلل، ثم الملابسات الاجتماعية التي حدثت في حياتهن، كانت لا بد أن تؤدي إلى تلك النهايات، فكاتبة موهوبة، وعالمة في الرياضة، وأستاذة أكاديمية، وكانت رابطة الوصل بين الحركة الطلابية المصرية، والحركة الطلابية والشبابية في فرنسا عام 1968، وهي القاصة لها خمس مجموعات قصصيةليلي الشربيني، وقد حدث لها بعض الخلل النفسي، وانتهت حياتها في عزلة تامة دون أن يعرف أحد عنها أي شئ، كذلك المناضلة الطلابية سهام صبري، وكانت أبرز قيادات الحركة الطلابية في السبعينيات، والتي تركت علامات إيجابية واسعة في جيل كامل، وانتهت حياتها على عتبات زواج فاشل، لتلحق بليلي الشربيني، وتنتابها الأعراض النفسية ذاتها، وقد وردت سيرتها بشكل واسع في رواية “فرح” للكاتبة الراحلة رضوي عاشور، وكذلك صدر كتاب كامل عنها أعدّه وحرره الكاتب الروائي فتحي امبابي وكذلك هذه نماذج قليلة من كاتبات تعرضت حياتهن لعواصف من المحرمات والممنوعات، وقد ناضلن ضد تلك المحرمات، ولكن كانت صخرة التخلف والرجعية أقوى.
وعندما أتأمل النهايات التي جعلت صديقتي الراحلة ابتهال سالم، والتي ماتت وحيدة، ولم يدركها الآخرون إلا بعد ثلاثة أيام، وإصابة نعمات البحيري بمرض السرطان وهي في عزّ العطاء الفني، أعرف أن تلك النهايات موصولة بشكل أكيد بالملابسات والبدايات التي أدّت إلى ذلك، ومهما كانت أشكال المقاومة التي أبدتها الكاتبات لغزو المرض، إلا أنهن كن لابد أن يعشن حياة كريمة، وظروفا أكثر إيجابية، واهتمامات فعّالة بما يكتبن ويبدعن ويقدمن من مجهودات إيجابية متنوعة.
ما تتعرض له المرأة الكاتبة في عالمنا العربي، ليس مفصولا بأي شكل من الأشكال عن الأيديولوجيا السائدة والمسيطرة، والتي تتحكم بقوة في تنظيم أو تفريق المجتمع، تأملوا ما حدث للشاعرة ملك حفني ناصف “باحثة البادية”، والتي قاومت وكتبت في بدايات القرن كتابات مازالت تصلح حتى الآن للتفعيل، توفاها الله وهي في الثانية والثلاثين من عمرها، وكانت قد تزوجت من حمد الباسل الذي يكبرها بعقود من السنين وتعامل معها بصفتها الزوجة الثانية والأقلّ أهمية، وكان قد زعم قبل الزواج غير كل اتضح بعد الزواج، وقد ذكر تفاصيل معاناة ملك شقيقها مجد، وذلك في كتابه “تحرير المرأة في الإسلام”، والذي صدر عام 1924، وذكر فيه كل الحقائق التي أحاطت بحياة ملك، وجدير بالذكر أن هذا الكتاب لم يطبع مرة أخري، والكلام الذي ورد عن ملك بهذا المعني، لم يرد بشكل مفصل في الأعمال الكاملة التي صدرت لباحثة البادية في الستينيات، وقدّمت لها الدكتورة سهير القلماوي بمقدمة نقدية شاملة، وسوف نتناول ماتعرضت له ملك بشكل تفصيلي فيما بعد، وما كتبته هي في ذلك الشأن، وحاولت أن تحيل شأنها الخاص إلى شأن عام.
كذلك ما أحاط بمي زيادة، لا يقل بأي درجة من الدرجات عما تعرضت له فرجينيا وولف، رغم التدليل المتعدد الذي كانت تحظي به من الأدباء والكتّاب والمفكرين وكبار الساسة، ولكن عندما بدأت كتاباتها تثير بعض القلاقل، راحت المعاول جميعها تعمل ضدها، ولتحطيمها، وتركها الجميع تعيش محنتها ووحدتها وعزلتها في “العصفورية” ببيروت، وأصبحت نهبا لأهلها وفق خدعة مقيتة وقعت فيها، وشارك فيها خصوم لأفكارها، ماعدا صديقها أمين الريحاني الذي أنقذها من تلك المحنة الشرسة، وعادت إلى القاهرة لتموت ببطء شديد، تحت عين وبصر كل الذين كانوا يحرقون البخور لجمالها ولأنوثتها، ويكتبون المطولات الشعرية والنثرية في حضرتها، وفي أول منعطف حضاري وسياسي عميق، تركوها تموت شبه مختلة، وفاقدة للأمل في أي شيء.
أيضا هناك الكاتبة أوليفيا عبد الشهيد الأقصرية، والتي أصدرت كتابا في غاية الأهمية عام 1912، اسمه “كتاب العائلة”، وهو كتاب ينطوي على نثر وشعر من إنشائها، ولا يقل عن كل ماكان يكتبه كبار الشعراء والناثرين في ذلك الوقت، ولكنها طوردت بأشكال دينية وقبلية وعائلية، فانتحلت اسم “الزهراء” لتستكمل به إبداعاتها العديدة، وشاركت في إنشاء مجلات كثيرة بهذا الاسم، وكانت تحرر غالبية المادة التحريرية والأدبية والفكرية لمجلة “فتاة الشرق”، التي كانت تديرها وتملكها لبيبة هاشم، وهذا ينطبق عليه المثل الشعبي القديم، الذي يقول “الفعل لطوبة والاسم لأمشير”، لأن الزهراء كانت تعمل في شبه خفاء، وكل المجد الأدبي كانت تحصل عليه لبيبة هاشم، بالإضافة إلى ترجمات لها عن اللغتين الانجليزية والفرنسية كانت باسم الزهراء، وواصلت عملها الصحفي والأدبي طويلا في مجلة روز اليوسف، ذلك الجهد الذي لا بد من التنويه عنه.
ولا ننسى في هذا السياق السيدة نبوية موسي، التي ظلمت ظلما بيّنا من مجايليها، ومن الذين أتوا بعدها، ومن كاتب سيرتها الباحث والدكتور محمد أبو الإسعاد، الذي كاد يصمها بالعمالة للإنجليز، وراح يؤكد علاقتها المشبوهة بدنلوب باشا، رغم أن نبوية موسي لها كتابات في غاية الثورية كانت تكتبها في جريدة “البلاغ الأسبوعية”، تلك الجريدة الوفدية، التي أعطت إدارتها القسم النسائي في الجريدة لتترأسه نبوية موسي، وفي هذا القسم، بدت وطنية نبوية بشكل مذهل، ومحاربتها للانجليز في ذلك الوقت، وظهرت وطنيتها المصرية في مسرحيتها “الفضيلة المضطهدة”، والتي صدرت عام 1932، وقد أنقذنا تلك المسرحية من الضياع والنسيان، ونشرناها في مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة.
النماذج كثيرة، وتاريخنا الفكري والسياسي والأدبي يزدحم بالفعل بهن، ولكن ذلك التاريخ لا أمل في شفائه قريبا، والذين يراوغون في كتابته كثيرون كذلك، كان ذلك حسن النيّة أو غير ذلك، وهنا لا بد أن أذكر واقعة شهيرة كنا كتبنا عنها سابقا في سياق آخر، وهي تتعلق بالرائدة النسائية درية شفيق، عندما تشكلت لجنة الدستور عام 1954 برئاسة على ماهر، قامت السيدة درية شفيق ومعها تسع سيدات أخر بالاعتصام في مبني نقابة الصحفيين، وأثار ذلك كثيرا من المنتصرين جدا لثورة يوليو، وعلي رأسهم الدكتور طه حسين، فكتب مقالا شديد اللهجة يوم 16 مارس في جريدة الجمهورية تحت عنوان “العابثات”، ولكم أن تتخيلوا ما الذي سوف يأتي تحت هذا العنوان، وقد تذرع العميد بأن البلاد لا تحتمل في هذا المنعطف التاريخي أي قلاقل أو خزعبلات من هذا النوع، وسرعان ما ردّ عليه اثنان من كبار الكتاب والصحفيين في ذلك الوقت، وهما حسين فهمي وعميد الإمام، ولاما الدكتور طه حسين على ذلك المقال، وعلي هذا الموقف، وهو النصير الأول لحرية الرأي والدفاع عنها، فما كان من طه حسين إلا وكتب مقالا آخر يوم 18 مارس تحت عنوان “العابثات 2”، أي أنه كان مصرّا على هذا الوصف، وكذلك على موقفه، ثم بعده ببضعة أيام كتب الكاتب الشاب أحمد بهاء الدين مقالا قصيرا تحت عنوان “الصائمات”، وفعل مثلما فعل عميد الإمام وحسين فهمي، وأوضح أن من حق النساء أن يعبرن عن رأيهن، ووجّه كذلك اللوم إلى العميد، وفي العدد ذاته كتبت السيدة درية شفيق مقالا لتوضيح موقفها، وحقها في اتخاذ الموقف الطبيعي من أجل إحلال حقوق النساء في الدستور الجديد، ولكن طه حسين لم يصمت، ولكنه كتب مقالا حادا إلى درجة بعيدة، وكأن ثأرا بينه وبين أحمد بهاء الدين ودرية شفيق، والأدهي من ذلك أن هذا المقال كتبه على هيئة رسالة، ووجهها إلى رئيس التحرير إحسان عبد القدوس، وإمعانا في الإهانة لم يذكر اسم درية شفيق، ولا أحمد بهاء الدين، بل إنه أورد إشارة تعني بأن علي كاتبة هذا المقال أن تبحث عن كاتب أفضل من الذي كتب لها هذا المقال.
وأيا كانت ملاحظاتنا على مسيرة وبعض مواقف درية شفيق، فما كان من طه حسين اتخاذ هذا الموقف العصبي، والذي تضافرت فيه سلطته السياسية والأدبية والفكرية والذكورية الواضحة في أوصافه التي أطلقها على درية شفيق ورفيقاتها في الإضراب.
وإذا كان طه حسين المنتصر للسلطة السياسية آنذاك اتخذ ذلك الموقف المعادي لدرية شفيق ورفيقاتها في التعبير عن أنفسهن، وعن حقهن الطبيعي في الاعتصام والإضراب، فلم يكن موقف بعض اليساريين أفضل منه، خاصة على مستوي الأدب والثقافة، ولأن الأمثلة كثيرة، سوف أورد بعضا قليلا هنا للإشارة فقط، تاركا التفصيل فيما بعد، وعلي سبيل المثال صدر كتاب يضم قصصا لكتاب كثيرين، وذلك عام 1956 وصدر الكتاب عن دار النديم “الطليعية”، وضم قصصا ليوسف السباعي ومصطفي محمود ويوسف إدريس وأحمد رشدي صالح ولطفي الخولي وغيرهم من نجوم الأدب في ذلك الوقت، وكتب مقدمة عامة لهذا الكتاب الدكتور طه حسين، وكتب دراسة نقدية رصينة وممتعة ومطولة الناقد محمود أمين العالم، ولكن الكتاب لم ينطو على قصة واحدة لكاتبة، رغم أن الحياة الثقافية لم تخل من كاتبات جادات في ذلك الوقت، منهمن جاذبية صدقي وصوفي عبدالله وأسما حليم وجميلة العلايلي ولطيفة الزيات، وغيرهن كن ملء السمع والبصر، وهذا لم يكن كتابا وحيدا، ولكن كانت السمة في تلك الفترة الخمسينية الكتب التي تجمع قصصا لمصريين ولكتاب عرب، ولكن كتابة المرأة لم تكن ممثلة بأي شكل من الأشكال.
ولا نتوقف عند ذلك كثيرا، ولكن اللافت للنظر هو استمرار ذلك الموقف الاستبعادي، ولن أقول المعادي، أو السلطوي، فحتى الشاعر والقاص والمسرحي والمترجم عبد الغفار مكاوي، أصدر كتابا ضمن كتبه المهمة والكثيرة، عنوانه “البلد البعيد”، وهو عبارة عن دراسات في كتابات جوتة وشيلر وبرخت وتشيكوف وألبير كامي وبيراندللو وغيرهم، ولم يتضمن الكتاب دراسة واحدة عن أديبة غربية، رغم أن الأدب العالمي، الذي يعرفه أستاذنا الجليل، لا يخلو من عبقريات أدبية نسائية، ولا أستطيع أن أصف ذلك إلا بالاستبعاد التعسفي، وكأن هناك بالفعل موقفا مزمنا، وربما يكون هذا الموقف غير مدرك.
وعندما رحت أتأمل إحدي المجلات الطليعية المصرية، والتي نفخر بها ونعتز بكل ما جاء فيها، وهي مجلة “جاليري 68”، والتي صدر عددها الأول في مايو 1968، لم أجد نصّا قصصيا أو شعريا واحدا لكاتبة، وكأن الساحة خلت تماما إلا من الذكور، وبالطبع فهيئة التحرير المزدحمة لم تضم كاتبة واحدة، ولا أعتقد كذلك أن الحياة الثقافية كانت قفرا تماما من الكاتبات، وهذا موقف تعسفي، وللتأريخ والتوثيق، عثرت على اسم المترجمة نادية كامل، والتي نشرت لها المجلة ترجمة لإحدي قصائد أبولونير، وذلك في العدد الثالث من المجلة.
وعندما كتب المسرحي الكبير الراحل كتابا كان ينشر حلقاته في الصحف، وصدر الكتاب تحت عنوان “مع الرواد”، وضم عددا كبيرا من الفنانين والكتّاب والشعراء، منهم نجيب الريحاني وسلامة ونجيب سرور ومحمود حسن اسماعيل وجورج أبيض وغيرهم من الشخصيات التاريخية، إلا أن الكتاب خلا تماما من اسم فنانة أو أديبة أو كاتبة، ولا نستطيع أن نحسب نعمان عاشور على جبهة اليمين بأي شكل من الأشكال، ولكنها العقلية الاستبعادية التي كانت تهيمن بشكل مباشر أو غير مباشر، وجعلت المرأة بعيدة عن مواقع التأثير الثقافية، وهذا لا يخص اليمين فقط، بل يلاحق مسيرة اليسار كذلك، وفي الكتاب المهم الذي نقله إلى العربية جورج طرابيشي، وهو كتاب “قضية النساء” تقول جيزيل حليمي”:(لا مناص بأن الاعتراف بأن النساء في الاتحاد السوفيتي والديمقراطيات الشعبية، وحتى في الصين، لم يصلن قط إلى سدة السلطة السياسية بنفس نسبة الرجال، فاشتراكية الدولة قد نسخت المخططات القديمة..كم عدد النساء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي؟وعلي رأس الجمهورية الصينية؟أو بكل بساطة في الأحزاب التي يفترض فيها أن تجسّد سلفا في طرائقها وبناها وغاياتها الغد اللاطبقي الذي لا تعاني فيه النساء من التمييز والتفرقة؟)، وترصد جيزيل عدد النساء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي، امرأة واحدة بين عشرة رجال، كذلك تضم الأمانة القومية للحزب الاشتراكي الفرنسي أحد عشر عضوا ليس بينهم امرأة واحدة، وتتدارك جيزيل ذاكرة الدور الذي أوكله الشيوعيون للنساء في تظاهرات 1968 “توزيع المنشورات وصنع المغلفات، وكما هي العادة، إعداد وجبات الطعام والقهوة وتنظيف المقرات”.
لا أريد أن أصوّر الأمر على أنه حرب بين ملائكة وشياطين، ولكنني أطمح في هذه الحلقات لرصد المشهد الأدبي النسائي، عبر كافة الكتابات التي كان لها حضور فاعل في القرن العشرين، حتى الآن، تلك الكتابات التي تعرضت لقضية النساء في الوجود البشري والاجتماعي والسياسي والأدبي، ولكن ذلك المشهد يتم تغييبه ومطاردته، والتقليل والتهوين من شأنه، منذ مي زيادة وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية، وصولا إلى لطيفة الزيات ونجيبة العسال الشقيقة الكبري لفتحية وفوزية مهران ونوال السعداوي وسعاد زهير وسلوي بكر ونعمات البحيري واعتدال عثمان وإيمان مرسال وسهير المصادفة وأمينة زيدان وإيمان حميدان يونس ورجاء نعمة، وغيرهن من اللاتي صنعن جدارية عظيمة للدفاع عن الحياة والجمال والحرية.
* أخبار الأدب.
شاهد أيضاً
ليتني بعض ما يتمنى المدى
(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …