*جويس كارول أوتس/ترجمة: أماني لازار
تراقبني أمي بطرف عينها الشبيهة بعين «السمك الفضي»** لترى إذا ما كنت نائمة. أنا لست نائمة، بل يقظة تماماً.
أتيت لأقيم مع ماما، ولو أني لم أعد أعيش هنا الآن.
كنت في عمر الثانية عشرة عندما هربت لأول مرة.
أقمت عند صديقتي سادي، لكني لم أخبرهم عن السبب، أو لم أخبرهم به على وجه الدقة. لم أستطع إخبار أحد عن السبب بالضبط لأنهم يستعملون كلماتك ضدك كما لو أنهم يمسحون وجهك بخرقة قذرة قائلين بأنها قذارتك، تستحقها.
أعادني شرطي في ذلك الحين. ماما وإفاندر أخفَيا غضبهما الشديد لأني تسببت لهما بالإحراج، ضرباني بقسوة بعد مغادرة الشرطي.
رحل إيفاندر الآن. تقول ماما إنه ترك ابنه الصغير كما قد تترك علجوماً زنجياً قبيحاً.
عائلة ماما مشمئزة منها لأنها أنجبت هذا المولود الجديد الذي ينتحب طوال الوقت. بعينيّ علجوم متورمتين، ولون جلده شبيه بلون جلد علجوم، وفم صغير يسيل لعابه باستمرار، وذراعين ضعيفتين وساقين كما لو أنهما خاليتان من العظام.
تلقفتني ماما وعانقتني عندما دخلت هذه المرة.
مخفيةً وجهها الدافئ في عنقي حتى أبعدتها عني وأنا أشتمُّ رائحة أنفاسها. ليس أمراً سوياً أن تدفن امرأة ناضجة وجهها في ابنتها ذات الثلاثة عشر عاماً وتبكي على هذه الشاكلة.
نحن متساويتان في الطول الآن، لكن ماما تفوقني وزناً بأربعين باوند، وجلدها حار محرق.
وضعتني الحكومة المحلية في «بيت للرعاية» لكن عند خالتي التي هي أخت أمي الكبرى، الأخت غير الشقيقة لأن خالتي كلوي وأمي من أبوين مختلفين.
في المدرسة طلبت مني المدرِّسة أن أساعد في درس الرياضيات. كنت عند السبورة أرتدي وشاحاً عليه نقوش حمراء معقوداً عند العنق، ذلك كان وشاح خالتي كلوي. في مرة أخرى، كان شعري ذو اللون النحاسي مجدولاً جدائل أفريقية جدلتها الخالة كلوي. أنا فتاة ناضجة بعمر الثالثة عشرة. طويلة القامة. لا أسكت على إهانة أحد ولا حتى الفتية الكبار، بل أنظر إليهم عيناً بعين. أنا التي تعرف حل المسائل الرياضية وليس هم.
من هي هذه الفتاة؟ قالت مدرِّسة أخرى في القاعة وهي تنظر إلى داخل الغرفة، لقد أخطأت الظن بأني مساعدة المدرسة من الكلية. ضحكت فقط ولم أتكلم سريعاً أو بانفعال، لكن بهدوء كما تعلمت ولاقيت عينيها بنظرة ثاقبة.
تورّد وجهي خجلاً. كانوا ينظرون إليّ بقسوة شديدة. لكني لم أقل لهم أبداً أي شيء عن ماما، أو عن أخي الأصغر بيبي تود. حتى عندما سألوا، ومسوا معصمي ليُظهروا حُسن نيّتهم ورغبتهم بالمساعدة، إذا ما كنت بحاجة إلى المساعدة. لم أقل أبداً شيئاً حقيقياً، بل فقط الأمور بخير في البيت. الأمور جيدة. ثم أضحك، لأظهر أني على خير ما يرام. إذا مسّوا معصمي أتخلص من اللمسة بتهذيب. من كان هذا الذي ضرب والدي حتى الموت؟ لا أعرف. أخبرت ماما الشرطة بأنها لم تر أي وجه ولم تسمع أي صوت، وعندما خرجت من المخبأ كان كل شيء قد انتهى.
كنت أبلغ من العمر حينها ثلاث سنوات. لا أتذكر شيئاً من ذلك الزمن أو حتى مكان حدوثه، لكني أعرف أنه حدث في مكان آخر، وليس حيث تعيش ماما الآن. إن ذلك الوقت يشبه جداراً رُشَّ بخرطوم للمياه. ما كان هناك خبا وبَهُتَ، وحتى إذا ما تتبعته بأصابعك لتقرأه، لا تستطيع.
لم تتقصد ماما إيذاء بيبي تود، لكن ماما تشعر بحزن شديد وبالتعب أحياناً. وتفوح أنفاس ماما برائحة كريهة، في تلك الأوقات العصيبة. أحياناً، ماما غاضبة. لماذا هذه حياتي؟ هذه ليست حياتي. ماما تقول لو أني استطعت إزالة ذلك في الدقيقة التي ألصقه بي فيها. حينها لما كنت لأنجب بيبي تود هذا الزنجي القبيح. ولا كنت هنا في هذا المكان تحت سطح البحر. تنظر ماما إليَّ بعينيها الوامضتين مثل «سمكة فضية» وجفنين بالكاد مشقوقين.
تخيفني ماما عندما تتحدث بهذه الطريقة. أتمنى لو أنها لا تفعل. تقول ماما إنه طفل أكبر من أن تتسع له رحم امرأة. من الأفضل أن تملك بيوضاً تفقس مثل طيور أو أفاعٍ، حتى إنه لم يجب عليك أن تكون هناك.
بعد رحيل إيفاندر، عانت ماما من حوادث مع بيبي تود. رمته على الدرج حيث تعثرت، واحترق المصباح. قالوا في غرفة الطوارئ إن رأس بيبي تود أصيب بكدمات شديدة وارتجاج في المخ حيث طرحوا عليّ أسئلة لأن ماما احتاجت إلى أن أصحبها، وقلت لهم إن أخي الرضيع تلوى وركل وانفلت من ذراعَي ماما وسقط، ربما صدقوني، أو ربما لا.
عندما نظروا إلى بيبي تود بشعره الداكن والكثيف وبشرته المرقشة، عرفوا أنه رضيع من عرق مختلط. إذا اتخذوا موقفاً من ماما فلم يظهروه كما فعلت عائلة ماما.
تسميه ماما علاجاً ذاتياً. تقول إنها تمنع أفكارها من التحول إلى أفكار سيئة. مثل مجارير مسدودة، على النحو الذي يمكن لأفكارك أن تخنقك في نومك.
الليلة الماضية هنا في بيت ماما. نظرت إليّ بغرابة كما لو أنها تريد أن تصرخ في وجهي: لمَ أنتِ هنا، لا أحتاج إليك؟! ساعدت ماما في إعداد العشاء وتنظيف المطبخ. وحملت بيبي تود إلى السرير، محاولة حينها أن أبقى يقظة أشاهد فيلم السهرة على التلفزيون. وبيبي تود يهتاج ويركل في مهده. وماما ترى أن عينيّ مغلقتان وتغامر في النهوض عن الأريكة وتمشي حافية بهدوء إلى الحمام لتملأ الحوض وتجلب بيبي تود إلى الحمام معها لأنها لا ترغب أن تكون وحيدة. لا أستطيع أن أدع ماما تغلق الباب، سوف يكون عليّ أن أقرع الباب وأكسره لو كان في وسعي ذلك. وحينها قميص نوم ماما ندي وحفاض بيبي تود مبتل ويجب تغييره. يداي ترتجفان، وعدت ماما بأني سأحميه لأنه ما من أحد آخر.
أنا أخت بيبي تود الوحيدة. أكبره باثنتي عشرة سنة وأظن بأنه سوف لن يعرفني حقاً أبداً، سأكون دوماً أخته الكبرى. ولون بشرتي مختلف عن لون بشرته. ستصير هذه الأيام نسياً منسياً لأن لون بشرته سيُبعده عنا ليعيش مع أبناء جلدته وليس معنا، تقول ماما.
سوف لن تسمحي بحدوث هذا، أليس كذلك؟ ماما ترجوني.
لأن ماما لا تريد أن تؤذي بيبي تود.
نحن نستلقي على سرير ماما، والطفل بيننا. مجدداً أنا خائفة من النوم بالرغم من أني مرهقة كثيراً.
كانت ماما تشرب، لذا ماما سعيدة. لكن مزاج ماما يمكن أن يتغير، عندما تكون سعيدة. ماما تقول إني أستطيع أن أتخلص من واحد منكما فقط، أيكما سيكون؟
اللعنة، ماما! هذا ليس مضحكاً.
ماما تضحك وتنتفض. وجهي هو المضحك فقط فيَّ.
لكن بصدق، ماما لا تريد أن تؤذي بيبي تود.
عدا أن بيبي تود يصرخ بصوت مرتفع. سوف لن يخطر لك بأن مثل هذا الطفل الصغير يمكنه أن يصرخ بصوت مرتفع، أفكارك مجلجلة مثل بازلاء جافة تهتز داخل فنجان. وحينها تصبح ماما عصبية المزاج وقلقة.
بقيت يقظة تلك الأوقات. أقرص خدي، أقضم باطن فمي حتى يدمى.
لا يمكنك أن تمنع جفنيك من الانغلاق. كما لا يمكنك أن تمنع الظلمة من أن تنقشع عن الأرض.
ماما، توقفي! أجاهد مع ماما لإخراج الطفل من الحوض. الماء يطفح، ويغلي. ينسكب على الأرض. صفعتني ماما فوقعت على الأرض الزلقة محاولة أن أستعيد توازني، وهناك كان بيبي تود على الأرض لا يبكي ولا يركل. مبلل تماماً ويسيل منه الماء. يبدو بيبي تود صغيراً جداً مثل لعبة لدنة. هادئ ولا يتلوى، لا يركل أو يصرخ. رفعته ماما بسرعة وهزته ومع ذلك لم يبكِ. أخذت بيبي تود من ماما وأنا أصرخ في وجهها، اختطفته من بين يديها وعصرت صدره الصغير عاجزة وغير مدركة ماذا أفعل. أعدت بيبي تود إلى الأرض الطافحة بالماء ومددته على ظهره، أضغط فمي على فمه الشبيه بالحلزون الصغير وأنفخ، أتنفس وأنفخ بقوة وعميقاً في الفم حتى بدأ بيبي تود أخيراً بالحركة، والإثارة والبكاء. يمكنك أن تسمع صوت بيبي تود يرضع الهواء. صرخات بيبي تود الهادرة التي قالت ماما إنها ثقبت قلبها، لكن ماما تبكي الآن أيضاً. جاثية على ركبتيها على أرض الحمام. شعر ماما المبلل على وجهها، وأنا متفاجئة أني رأيت أن ماما أيضاً فتاة ــ فتاة مثلي لكن أكبر سناً، وجلدها حار مثل الشمس الحارقة. عانقتني وبدأت تبكي، سيباركك الله، لقد حميت أخاك الرضيع من غضب الله.
وهكذا بعدئذٍ، سأتهيّب النوم طوال حياتي. إنها لغواية رهيبة أن تغلق عينيك، وتنام. لكن صرخات بيبي تود ستوقظني، ستوقظني صرخات بيبي تود في الظلمة طويلاً بعد أن يمضي بيبي تود في حياته. وبعد أن ترحل ماما وسوف أكون امرأة مسنّة.
* تعني الطفل ــ العلجوم، ولكني آثرت عدم ترجمتها لأنها مستخدمة في النص مثل اسم علم.
** Silverfish السمك الفضي أو لاحسات السكر هي حشرة صغيرة من رتبة ذوات الذنب الشعري. تعيش سنين عدة في الأماكن الرطبة الباردة وتكثر في المكتبات القديمة حيث تتغذى على ورق الكتب.
كلمات
العدد ٢٨٦٤