مجسات النص الروائي


*محمد العباس


الرواية بمثابة التاريخ الوجداني للمجتمع أو الأمة، ومن هنا تأتي أهمية والتباسات التماس مع ذلك التاريخ المعقد، لأن التعرف على أهم وأفضل الروايات في أي مشهد ثقافي مهمة ليست سهلة، فالمشهد الثقافي دائماً يتلوّن بأشكال المراوغة المجتمعية التي تقوم على التقديم والتأخير والتبجيل والتبخيس، بمقتضى حيل دعائية ووجاهية، ويعرض في واجهته، لأسباب لا ثقافية، ما قد تظنه المعيار الحقيقي للكفاءة الروائية، ولذلك يدخل الباحث القادم من خارج الحالة إلى غابة الأسماء والعناوين بمزيج من الفضول والارتباك والتوجس، تسبقه الإشاعات والترشيحات والترجيحات المملاة من الأصدقاء والمهتمين والرافعات الإعلامية، ليجد نفسه بعد أول الخطوات داخل متاهة فيها الكثير من التناقض والمبالغات والزيف، الأمر الذي يدفعه للسير بخريطة طريق غير مأمونة النتائج.
ليس من المنطقي أن يبدأ الباحث جولاته الاستقصائية من الصفر، فكل مشهد ثقافي فيه عدد من الروائيين الحائزين جوائز أدبية تقديرية، سواء على الصعيد المحلي، أو من خارج الحدود، وهذه محطة معقولة وممكنة للتماس مع عصارة المنجز الروائي وأفضل تجلياته الموضوعية والفنية، أو هذا ما يفترضه منطق الجوائز، فهي لا تُمنح إلا لرواية ذات مضمون متماسك وتقنية كتابية متعالية فنياً، إلا أن تقليب الروايات المتوجة بالجوائز على جمر الخبرة القرائية سرعان ما يكشف عن كذبة كبيرة تطال بعضها وليس كلها، لأن الجوائز تُوهب أيضاً للمنافقين والمتسلقين والإنتهازيين والمتطفلين على الفن الروائي، بمعنى أن الجوائز لن تكون هي المعيار الذي يمكن الاحتكام إليه والتسليم بفاعليته.
وفي كل مشهد ثقافي هناك ضجيج إعلامي صاخب حول روايات أو عدد من الروايات، وهو صراخ أبعد ما يكون عن الأدب، وأشبه ما يكون بهتافات مدرجات كرة القدم، إذ لا مقاربات أدبية واعية للرواية، بقدر ما تكون تلك المهاترات مجرد مجادلة حول أثرها الاجتماعي أو الاصطفاف إلى جانب اسم مؤلفها، وهذا مؤشر يمكن الاهتداء به أيضاً مع شيء من التحفظ والحذر، فالرواية التي تثير موجات من الجدل إلى درجة الاختلاف بها وعليها تستحق أن تكون محل قراءة، فهي بالتأكيد تحمل ما يشفع لها فنياً وموضوعياً، إلا أن فحص طيات ذلك الجدل قد تكشف أن كل ذلك الضجيج مفتعل وله أسبابه الاجتماعية والعقدية، أما الفن فلا أثر له، وهذه السجالات معروفة في كل مشهد يبحث عن قضية يتحلق حولها، وغالباً ما تكون الرواية هي الطعم،
وبأي شكل من الأشكال، وتحت أي ذريعة منهجية أو ذوقية، لا يمكن للباحث أن يغفل عن الروايات التي حققت أعلى المبيعات، ففي كل مشهد توجد روايات مدموغة بعدد من الطبعات المحيرة، ووجود تلك الأرقام المعتمدة من الناشر يعني أن الرواية لها سوقها، وربما تشي تلك العدادات بأنها تحظى فعلاً بمقروئية عالية، بمعنى أن الرواية التي تقع في هذه الدائرة قد حققت أهم هدف وهو القارئ، الأمر الذي يحتم الاطلاع عليها، وفحصها بشيء من التأمل المجرد من الأهواء والعواطف، فقد تكون بالفعل مكتوبة بحرفية أدبية، لولا أن التجارب والوقائع تقول بأن حيلة الروايات الأكثر مبيعاً ليست على تلك الدرجة من المصداقية، لأن بعض الروايات مكتوبة أصلاً للقارئ المراهق، وهذا قد يرفع من منسوب مبيعاتها، إلا أنه لا يكسبها صفة التحفة الأدبية، وأحياناً يمارس الناشر بعض الخبث التجاري لتمرير عدد من الروايات الباهتة على إيقاع وهمي بمراكمات عدد الطبعات، بالإضافة إلى حيل كثيرة، سواء من الروائي أو الناشر، الأمر الذي يجعل هذا المعيار مشكوكاً في عدالته وأدبيته.
وإذا كان الباحث لا يثق بذائقة القراء، ولا بصدقية الناشر، فلا بد أن يسمع كلمة من منتجي المعرفة في ذلك المشهد، ولذلك سيتوجه إلى النقاد ليتأمل ما كتبوه من مقاربات نقدية عن هذه الرواية أو تلك، وسيطالع بالتأكيد مجموعة من القراءات التي تتركز باتجاه رواية ما أو عدد من الروايات، وهو ما يعني أن الرواية التي كانت محط أنظار ودراسات النقاد جديرة لا بالقراءة وحسب، بل بمقاربتها كأفضل ما أنتجه هذا المجتمع من سرديات، وبمجرد أن يقترب من المنجز النقدي سيلاحظ أن النقد الروائي قليل جداً بموجب التحليل الكمي، مقارنة بجبل الروايات الهائل، كما سيلاحظ أن بعض تلك القراءات كانت منذورة لمناسبة منبرية أو ضمن رسالة جامعية، وقد يقف على مطالعات نقدية ذات منزع جمالي، ولكن المحصلة العامة لن تعطيه تلك الصورة الأمينة لأطلس الرواية، لأن معظم القراءات النقدية مناسباتية ومزاجية وتعاضدية، ولا يمكن اعتمادها لوزن إيقاعية المشهد الروائي.
وعلى جانب المشهد سيصادف الباحث بعض الروايات المترجمة إلى اللغة الإنكليزية أو إلى أكثر من لغة، وحينها سيتوهم أنه أمسك بالخيط الذي سيوصله إلى أهم وأجمل روايات المشهد، لأن (الآخر) لا يجامل على حساب القيمة الأدبية، وتأهل رواية ما إلى تعاليات الترجمة يعني أنها تجاوزت ذائقة ووعي القارئ المحلي وأقنعت القارئ القادم من وراء الحدود بجمالياتها، ولكن ذلك الوهم لن يدوم طويلاً، إذ قد يكتشف أن الرواية إنما تُرجمت بجهود وعلاقات وأموال مؤلفها، أو أنها ضمن سلسلة من الروايات المرعية رسمياً من المؤسسة الثقافية لأسباب لا علاقة لها بالعبقرية الأدبية، إلى جانب مجموعة من الأسباب والحيل التي باتت معروفة ومفضوحة.
لكل مشهد ثقافي خبراؤه الذين يحايثون المنجز الروائي أثناء تشكُّله بكل أسمائه التأسيسية وتنوّع أداءاته ومغامراته التجريبية، وهم خبراء تحتمل أحكامهم الصواب والخطأ، ولذلك لا يمكن التسليم بكل ما يرجحونه، خصوصاً أن إطلاق حكم القيمة على رواية لا يُعتمد بمجرد إشارة القبول أو الرفض، بل لا بد لهؤلاء الخبراء أن يقدموا باستمرار ما يؤكد درايتهم بالمشهد، من خلال القراءات المتوالية، وعبر المتابعات التنظيرية والتطبيقية، لأن الرواية بمعناها البنائي، وفي جوهرها كنوع أدبي، محاولة تدوينية للتاريخ والمشاعر، وبالتالي فهي لا تقبل بأن تكون داخل مدارات شفاهية، بمعنى أن كل مشهد يحتاج إلى مرجعيات تفتح الجدل على اتساعه بدون أي أحكام جاهزة، وقد لا تمنع آليات التزييف الخارجية لفرض رواية متدنية المستوى، إلا أنها تحدّ من تلك التجاوزات.
لا يمكن لروائي أن يفرض روايته على مشهد ما إلى الأبد، فما يدّبره من حيل قد تبقيه في صدارة المشهد لفترة من الزمن إلا أن ذلك لا يكفل له توطين روايته في أذهان القراء، وكذلك لا يمكن لمؤسسة ثقافية أن تحتفظ بروائييها المفضلين في حالة من التحنيط الأبدي داخل فترينة المشهد الأمامية باعتبارهم أهم من يمثل التاريخ الوجداني للمجتمع، وبالتالي فإن كل حيلة من الروائي أو الناشر أو المؤسسة أو لوبي القراء أو المرتزقة من النقاد لا تكفي لتضليل القارئ عن الرواية الحقيقية، ولا غنى لأي قارئ عن مطالعة الروايات بحس نقدي مجرد، فلا كثرة الطبعات، ولا الجوائز، ولا الشهرة، ولا الترجمة، يمكن أن تكون هي الدليل أو المدخل لفهم أي مشهد روائي، أما الرواية الحقيقية فهي التي تنجح في امتحانين عسيرين: القارئ والزمن، إذ لا بد أن تمر عمودياً بمرشحات زمنية عبر أجيال من القراء الذين بمقدورهم إما توطينها في تاريخهم الوجداني أو تناسيها.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *