ليست المكتبة ظرف مكان.. لكنها ظرف حياة


*قاسم حداد


ليست المكتبة ظرف مكان، لكنها ظرف حياة.
بهذا الشكل يمكنني اختصار تجربتي مع المكتبة. ثمة مصادفات غريبة جعلتني لا أخسر شيئاً من كتبي، مثلما حدث مع أصدقاء كثيرين، تعرض بعضهم لفقد كامل كتبهم أثناء اعتقالهم في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فقد كان هذا الأمر مألوفاً تلك الأيام، حيث البوليس السياسي حين يداهم البيت لاعتقال الشخص، وبسبب من الموقف الأمني/‏‏السياسي من الكتب، خصوصاً بسبب جهل البوليس يحدث أحياناً أن يقرر الضابط مصادرة كل الكتب الموجودة في البيت. وبهذا يخسر المعتقل مجموع كتبه التي سهر على جمعها طوال السنوات. بل إنني أعرف صديقاً كان يخسر مكتبته في كل مرة يجري اعتقاله.
لذلك كان قلقي أثناء العمل السياسي ينصب معظمه على محتويات المكتبة. وهذا ما أحب أن أتذكر، من بين ذكرياتي عن تلك الفترة، أنني لم يحدث أن خسرت كتاباً أثناء اعتقالي، ما يجعلني من بين المحظوظين في هذا الجانب.
2
هذا أمر جعل المكتبة تحتوي على صنوف مختلفة جداً من الكتب، ليس فكرياً، ولكن زمنياً، خصوصاً أنني من الذين لا يفرطون في أي كتاب مهما كان السبب. وإذا أضفنا إلى هذا هوايتي في جمع الكتب بطبعاتها القديمة، سوف تصادف في المكتبة كتباً يعود تاريخ طبعها إلى أكثر من مائة عام.
وفي هذه الصفة جانب تاريخي يتيح الحصول على كتب تعرضت للتصرف في محتوياتها في الطبعات الحديثة. وشغفي بالقديم هيأ لي اكتشاف المتناقضات في درجة الحرية التي أخذ المجتمع العربي يفقدها عاماً بعد عام، حيث يمكن التعرف إلى هذا من خلال الحجب الفادح للعديد من المؤلفات كلما جرى طبعها مجدداً في فترات لاحقة، تكون الرقابة المحافظة أكثر سطوة.
3
المكتبة إذن، هي الحياة النوعية التي تضاف إلى الحياة الطبيعية التي أعيشها. ولأن الظروف كانت تمنعني أحياناً من متابعة المستجد من الكتب والمؤلفات الصادرة، سوف أحاول تعويض ما فاتني بشراء كميات من الكتب دفعة واحدة. ولأنني انتقلت بعد الزواج إلى منازل عديدة مختلفة، سيكون نقل المكتبة واحدة من أكثر المهمات متعة، لأنني سوف أعيد اكتشاف ما لدي من الكتب فيما أعيد صف الكتب في رفوف وموقع جديدة في كل بيت.
وحين انتقلت إلى البيت الأخير، صار علينا أن نجعل الغرفة الأكبر في البيت مخصصاً للمكتبة التي ستكون هي مكان الكتابة والعمل.
4
الحياة/‏‏ المكتبة، لأن شعوراً غامضاً سيرافقني في الجلوس في المكتبة. فكل كتاب أعتبره حياة خاصة بالمؤلف. مهما كان موضوع الكتاب. ففي النص لن يختلف النوع، فالكاتب هو الشخص الحاضر.
يبقى أن تراكم الكتب بشكل فوضوي غير مصنف ولا مرتب، سيجعل الرف يحتوي على صفين متراصين من الكتب، يحجب أحدهما الآخر، فلا أكاد أعرف بسهولة ما هي عناوين الكتب في الصف الداخلي. وقد أدى هذا الأمر لأن أكتشف نفسي قد اقتنيت أحياناً أكثر من نسخة من الكتاب، بسبب عدم معرفتي بالكتب المحجوبة عن النظر وقتاً طويلاً. فعدم توافر الوقت والمجال والمكان لترتيب الكتب وتصنيفها بشكل مناسب، سيحرمني من الوصول على الكتاب المطلوب حين أحتاجه. وحدث كثيراً، حين أعمل على بحث أو دراسة أو غير ذلك، أن أضطر لاستعارة بعض الكتب من الأصدقاء، ثم أكتشف بعد حين أن الكتاب متوافر لكنه ليس في المتناول.
5
الكتب هي حيوات صديقة في البيت. والرحيل الحقيقي هو قراءة كتاب ما ينقلك إلى عوالم مختلفة وجديدة وممتعة، من الفن والمعرفة والسجال الفكري.
وأحياناً أخرى تشعر بحاجة لاستعادة الذكريات الخاصة مع كتاب معين، لكي تتذكر التفاصيل الحميمة التي رافقت اقتناء الكتاب، وظروف اكتشافه شكلاً ومضموناً. ففي كل كتاب جزء حميم من بنيتك الفكرية والإنسانية. وظني أن مثل هذه الذكريات التي تربطك بالكتب، هو الأمر الذي يحول دون فكرة التخلص أو التخلي عن الكتاب مهما كان قديماً أو مكرراً أحياناً.
6
كل كتاب طاقة مضاعفة في حياتي. المكتبة، بناء على هذا، ستشكل مصدر الطاقة الإيجابية المميزة في البيت. بالنسبة لي، أجد في كل كتاب نوعاً خاصاً من طاقة الحياة. وتجديد الحياة بفعل هذه الطاقة يمنحنا الحيوية المناسبة من أجل المزيد من المتعة، فالكتاب ليس شيئاً زائداً، وليس هو مجرد زينة في البيت، بل إنه الفعالية الحميمة التي تسهم في جعل الحياة أكثر جمالاً ومتعة وفائدة، وتدفع إلى الإقبال عليها، مع كل كتاب.
في السنوات الأخيرة، وبعد أن فاضت رفوف المكتبة في الغرفة المخصصة للكتب، وجدت حماساً ممتازاً بأن تأخذ الكتب مكانها في مواقع كثيرة في المنزل، أكثر من هذا صارت زوجتي، وهي المولعة بالقراءة والكتب، تبتكر المطارح المناسبة جمالياً لوضع الرفوف الجديدة ورصف الكتب وترتيبها عليها، ما هيأ الأمر لإطلاق الخيال من أجل أن يكون البيت برمته مشروعاً قابلاً لمكتبة كاملة.
7
الكتب أصدقاء. ومع التقدم في العمر، سوف تجد الأصدقاء يتقلصون. غير أن الكتب تظل أصدقاء، وربما تقوى علاقتك بالكتاب، فيما تضعف علاقتك بالأصدقاء، وتباعد بينكم الظروف.
الفرق بين الأصدقاء والكتب، أن الكتاب صديق غير متطلب، ما عليك سوى أن تفتح الكتاب وتتصفحه وتطفق في التوغل بين تلافيفه مثل طفل في مهده.
هذا ما يجعل المكتبة عائلة كاملة في البيت والحياة، فصداقة الكتب من شأنها أن تقوي العلاقات العائلية، إذا تيسر لحب القراءة والكتابة أن يتسرب إلى أفراد العائلة، لأن هذا سوف يجعل للمكتبة المكانة الفضلى في البيت، برضا العائلة كاملة، حيث سيعتبر كل فرد فيها أن هذه الكتب هي خاصته الشخصية. عندها ستشعر بالأمان بشكل كامل، حيث لن يتصرف أحدٌ مع أصدقائك بصلف أو تذمر، فلا شعور بالمزاحمة. الجميع يشاركك هذا الحب، وربما عمل البعض على مضاهاتك، وهذا ما يجعل الكتاب حميماً.
مكتبات السومريين
يقول د. الكسندر ستيبتشفيتش في«تاريخ الكتاب» عن السومريين ودورهم في إرساء أبجدية الكتابة والكتب والمكتبات: السومريون هم الذين قاموا أولاً باستخدام الكتابة للتعبير عن الفكر، مع أنّ هذه الفرضية تعتبر الأكثر شيوعاً. وإنّ أقدم الشواهد على الكتابة السومرية في العراق هي تلك الرُّّقُم الطينية الصغيرة التي نُقِشَت عليها الكتابة التصويرية، والتي تعود إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد.
وتمّ العثور على مئات الرُّقُم الطينية التي نُقِشَت عليها الكتابة التصويرية، وهي الأقدم التي طورها السومريون في مدينة أوروك- الوركاء- جنوب العراق اليوم، وهي ترجع إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد.
فهرس سومري
كشف عالم الآثار الأميركي س. ن. كرامر أحد النصوص المدونة على رقيم طيني محفوظ في المتحف الجامعي في فيلادلفيا- ولاية بنسلفانيا الأميركية- عبارة عن فهرس لإحدى المكتبات، يعود تاريخ هذا الرقم الطيني إلى نحو سنة «2000 قبل الميلاد»، الذي عُثِرَ عليه في بقايا مدينة نيبور، المركز الديني والثقافي للسومريين، حيث اكتشف أيضاً الكثير من الرُّقُم الطينية، إضافة إلى ورشة للكتابة ومدرسة بحالة جيدة. ووجد على الوجه الأمامي والخلفي للرقيم الطيني المُكتشف سجلاً لاثنين وستين كتاباً في موضوعات مختلفة، وأنّ الكتب الـ13 الأخيرة تنتمي إلى مجموعة «الحكمة».
________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *