*خيري منصور
على الرغم من كل ما يقال عن هيمنة الشخصنة على المفاهيم في ثقافتنا فإن نمطا واحدا من التجريد الذي لا علاقة له بالرياضيات والموسيقى والرسم، هو الذي اخترعناه ونستحق عليه براءة اختراع، وإن كانت براعته وليس براءته هي التي حققت أسلوبا في التهريب والتحايل، وهو ذو صلة عضوية بما نسميه ياء النسبة، ففي ثقافتنا السائدة ثمة تمجيد لمفاهيم مجردة، يقابله ازدراء وإقصاء لما هو متعين وواقعي، ومنه على سبيل المثال تمجيد العروبة وازدراء العربي، وإعلاء شأن الوطن والتنكيل بالمواطن، وإطراء الثقافة ودورها وإقصاء المثقف، بل تجريمه ونبذه في بعض الأحيان حتى لو غرّد داخل السّرب وليس خارجه لأنه عندئذ يكون قد أعلن العصيان على النعيق، وأخيرا مديح الحرية وعقاب الأحرار.
ولا ينافس عدد المرات التي ورد فيها تقديس فلسطين والإنشاد لحريتها ووصفها بالقضية المركزية، أو قضية القضايا كلها إلا عدد المرات التي تم فيها عقاب الفلسطيني، بحيث وجد نفسه في بعض المواقف أشبه بمثال الرجل الطائر الذي تحدث عنه ابن سينا، يطاف به من مطار إلى مطار ولا يجد ملاذا. ولا أتصور أن هناك ثقافة أعلت من شأن الشّعر وقالت إنه ديوانها كالثقافة العربية، لكنها ترجمت هذا التجريد إلى معادلات موضوعية وحسيّة فسُجن شعراء ونفي آخرون، وعاشت الأكثرية على الهامش لأن المتون كلها مطوبة لمن سمّاهم علي الوردي «وعّاظ السلاطين» ومن سمّاهم أسلافنا «التّنابلة».
هكذا هي المعادلة، يعيش العرب ويسقط العربي، ويعيش الشعر ولكن ليذهب الشعراء إلى الجحيم، وتحيا فلسطين لكن ليموت الفلسطينيون بالجملة ويتحول الفلسطيني إلى جان، فالجان آخر في رواية «البؤساء» التي لم يؤلفها فيكتور هوغو، بل ساهم في تأليفها الثالوث الذي أضلاعه جنرال مهزوم وتاجر أسلحة ومهرب دماء. براءة الاختراع الثانية هي اصطفاء نموذج واحد من صنف بهدف الترميز واستخدامه ذريعة لتبرير التنكيل بالبقية، وعلى سبيل المثال قد يكون تكريس شاعر لأسباب هي على الأغلب غير شعرية بمثابة التغطية على إقصاء الآخرين بالجملة، وتم تطوير وتحديث هذه الحيلة الترميزية لتشمل المرأة، بحيث يصبح تبني امرأة ومنحها مكانة وظيفية، أشبه بما كان يمارسه الرجل الأبيض، أو الرجل الشاحب كما يسميه الهنود الحمر عندما يختارون رجلا أسود لشغل منصب رفيع كي يوهموا السود بأن زمن العنصرية قد انتهى، والحقيقة أن النماذج التي تستخدم في هذا السياق هي العدو الجذري للفئة التي تنتمي إليها، فالمرأة التي تدرك بأن ما ظفرت به ليس منجزا لجنسها، بل هو أقرب إلى الرشوة تعوق الحراك النسائي أكثر من الذكور، وكذلك الأسوَد الذي يعقد صفقة مع سيده الأبيض فيحصل على وظيفة أو مكانة تحجب ما يعانيه أبناء جلدته في الظلام.
إن خطورة هذا الترميز الذي أدى في النهاية إلى الأيقنة هي أولا في تعويم المفاهيم والحقوق، وثانيا في تجريد ما هو محسوس ومتعين، فحين تحولت فلسطين التراب والماء والفضاء والقداسة ألى خريطة ذهبية تزين الصدور هاجرت من الجغرافيا والتاريخ معا إلى الأيقونة، وقد تكرر المشهد في تحول حنظلة الشاهد الشهيد لناجي العلي إلى قلادة.
إن لهذا الترميز بُعدين، أحدهما قد يكون إيجابيا يستهدف مقاومة النسيان، لكن البعد الآخر إفراغ للقضية أو الظاهرة من الجوهر، وهناك فارق حاسم بين المتدين الذي يدافع عن معتقده والسّادن، ولا يمكن أن نضع في السلة ذاتها متدينا منسجما مع نفسه وبائع أدوات ذات صلة بالدين، فالثاني قد يكون مجرد تاجر، لهذا فإن من يصنعون التماثيل والمصغرات للمعابد وبوصلات الصلاة في الصين مثلا لا علاقة لهم بما تعنيه، لأنها مجرد سلع معروضة للبيع من أجل الربح، ولكي تكتمل براءة هذا الاختراع لدينا مثالان طازجان الآن، هما العراق وسوريا، فما كتب باللغة العربية عن العراق منذ حصاره واحتلاله حتى تفكيكه لم يكن للعراقي نصيب منه، ولو تبرع من كتبوا عن شقاء العراقيين بعُشر ما تقاضوه من مكافآت عن مراثيهم وبكائياتهم لربّما ساهموا في إنقاذ آلاف الأطفال من براثن السّرطان، وما كتب ويكتب عن سوريا معزول عن السوريين، فهم مهاجرون بلا أنصار، وثمة من يبكي عليهم علنا لكنه يستثمرهم بأدنى الأجور سرا، وما يتم تداوله الآن عبر الميديا من الاستثمار القذر لشعب مأزوم لا حاجة بنا إلى التذكير به. كم كّنا نتمنى لو أن هذا التجريد كان من نصيب الثقافة بمعناها الحقيقي، بحيث يشمل الفن ويغلب المفاهيم على الشخصنة، لكنه وظّف لأردأ ما يمكن أن يوظف من أجله، وهو تمجيد الفكرة واضطهاد الذين يحسدونها، ولدينا في ثقافتنا مثال قديم متجدد هو الغزل بالمرأة، الذي يبدو في ظاهره شغفا بالأنوثة كمفهوم وإعلاء من شأن النساء، لكنْ ما تحت هذه القشرة المزخرفة اضطهاد ذكوري للمرأة وتهميش وإقصاء لدورها. لهذا كان وما يزال الغزل بها يتوقف عند بلوغها الأربعين رغم استحقاقها له بعد هذا الرشد الأنثوي النبيل.
_______
*القدس العربي