*عبدالله بن عمر
“جودي بلانكو”، كاتبة وناشرة وأخصائية علاقات عامة في مجال النشر بالولايات المتحدة، تُعلّم فن النشر في جامعتي نيويورك وشيكاغو، ألفت بضعة كتب، نقل منها إلى العربية سيرتها الروائية “أرجوكم لا تسخروا مني”.
يمكن أن نصف القراء أحياناً، دون أن نظلم أو نطغى، بأنهم المتنعمون بالمصائب التي تتوالى على قوم آخرين فلا يجدون مهرباً عنها إلا إلى الكتابة!، وصديقتنا “جودي بلانكو” واحدة من أولئك القوم الآخرين كانت حياتها في المدرسة جحيماً صنع منها كاتبة، وأتوناً قاسياً نضجت فيه موهبتها الأدبية، فقد كانت على مر تاريخها المدرسي طالبة منبوذة، خارج إطار “الشّلل” المعتاد تكوينها في المدارس في تلك البلاد، والتي ينضم الطالب إليها فتصبح ملجأه وتتكون في إطارها صداقاته وعداواته.
القواعد في المدرسة بسيطة: إما تسخر، وإما أن تكون موضع السخرية! من لا يكن ذئبا تأكله الذئاب! لذا، وفي سبيل العثور على بيئة اجتماعية، يتنازل الأطفال المهذبون عن تهذيبهم، فذلك ثمن يمكن دفعه لكي يكون المرء محبوباً، وكان على “جودي” أن تختار بين خسارة نفسها وقيمها التي تؤمن بها أشد الإيمان، وبين خسارة صداقاتها التي كوّنتها في المدرسة بصعوبة بالغة، وكان عليها أن تعيش عناء الانفصام عن الذات، أو تحيا عناء الوحدة والحياة منبوذة كقطعة علك مستعملة حتى يؤذن لها بالتخرج، وكان على والديها أن يأخذا بحظهما من الحيرة، فلم يكن ممتعاً لهما أن تأتي “جودي” من مدرستها كل يوم باكية، كما لم يكن صائباً في نظرهما أن ينقلا البنت من المدرسة إلى مدرسة أخرى، حتى لا يغرسا في وجدانها الهرب من المشكلات بدل مواجهتها وتجاوزها.
الأمر لا يكاد يحتمل، مرت سنوات الدراسة على “جودي” مرور اللئام الثقال من الزوار، كانت اللحظة فيها أثقل من أحد، تقلبت “جودي” بين أوجاع وآلام نفسية وجسمية، حتى شارفت البلوغ، وهناك كانت باقعة أخرى! فقد نما ثدياها على نحو غير متناسق، فاضطرت المسكينة إلى ارتداء حمالة صدر مفصلة خصيصاً لتخفي ذلك العيب في جسدها، وكانت مسألة وقت قبل أن تُكتشف المسألة في المدرسة، وتصبح “جودي” الفتاة المشوهة القبيحة كما يتردد بين الزميلات والزملاء.
ما المخرج ل”جودي” من ذلك العناء، وتلك الوحدة، وهاته النفس المهشمة؟! لقد وجدت المسكينة أنه لا مخرج إلا بالموت! فهو الحل السحري والعلاج الناجع، حتى إنها لتدعو ذات يوم: “يا رب! بدل أن تأخذ أعمار أولئك الذين يحبون الحياة رغم إصابتهم بالسرطان، خذ روحي أنا”!، ولكنها اكتشفت ذات حظٍ منفذاً آخر من أوجاعها، ذلك هو الكتابة! فاتخذت الورق والقلم صديقين حميمين، تبثهما كل ما تعاني من ألم وإحباط ومرارة، فإذا فرغت من حصتها الكتابية شعرت براحة إنسانٍ أثقله همه فذهب يشكو بثه وحزنه إلي صديق كتوم، ينصت بعناية ويستمع بتعاطف.
ذلك الشعر الذي برعت في كتابته، كان ملاذها، وكان نتاج تلك الانفعالات الفظيعة والمشاعر المريعة، قصائد معبرة مؤثرة، نافست “جودي” ببعضها في مسابقة محلية، فنالت جائزة مقدارها بضع عشرة ليلة في حلقة دراسية خاصة بالكتابة، تعقد في الصيف المقبل، ومكانها جامعة إلينوي الشرقية.
وفي أثناء تلك الحلقة الدراسية تكتشف “جودي” أن زملاءها وزميلاتها في تلك الحلقة الدراسية، وهم مشروعات كُتاب وكاتبات، كلهم “مراهقون سيئو التكيف اجتماعياً”، كلهم كان يعاني فلجأ إلى الكتابة، أولئك المعذبون في الأرض، التفتت إليهم جامعة نيويورك، فأنشأت لهم برنامجاً دراسياً جديداً للفنون الحرة، وضع خصيصاً للطلاب المهتمين بالكتابة الحرة والتاريخ، وهو برنامج يضم في الدفعة الواحدة خمسة عشر طالباً وحسب!
هناك تصيح “جودي” فرحة في حضرة والديها: “أرأيتما؟ قلت لكما: خُلقت للدخول إلى جامعة نيويورك”.. وربما يصدق أن نقول، إن هذه الأقلام خُلقت لأولئك الذين اكتظت جوانحهم بالأشجان حتى ما عادوا يجدون ملجأً عدا الكتابة.
_________
*الرياض