*غادة السمان
المقاومة الحقة لا كذريعة: خبر حصول المعلمة الفلسطينية حنان الحروب على لقب «أفضل معلم» من بين العشرة الأوائل في مسابقة دولية أعلنتها مؤسسة «فاركي» التي تعمل على «تحسين معايير التعليم للأطفال الفقراء في العالم» أثلج قلبي ولم يدهشني. فالمرأة الفلسطينية كنز من «المقاومة» الحضارية بالمعنى الحقيقي للكلمة ودونما التباس وأقنعة.
طفلة المخيم تقاوم: نتعلم قتلكم!
عاشت «حنان الحروب» في مخيم اللاجئين قرب «بيت لحم» وبعدها إلى «رام الله» (التي زرتها ذات يوم برفقة الشهيد كمال ناصر وتعارفت مع أمه وأخته) وكلنا نشارك حنان سرورها بالجائزة وحزنها على الطالبة/الطالب الفلسطيني الذي يعيش في مناخات أليمة ويشاهد على شاشات التلفزيون العنف الاحتلالي الإسرائيلي وينحو صوب ردة فعل مشابهة. وهو أمر إنساني متوقع ولكل فعل ردة فعل مضادة ومعادلة للأذى ونلاحظ المفارقة في اسم الفائزة، فاسمها «حنان» والبقية «حروب»..
والعدو الإسرائيلي لا يستحق «لحظة حنان» من تلك التي تغمر بها تلامذتها تحت شعارها «نلعب لنتعلم».
والمؤسف أن العدو الإسرائيلي يعلم العرب جميعاً شعاره: «نتعلم قتلكم»!
متى أراها على أغلفة المجلات؟
مبدعة استثنائية أخرى أتمنى مشاهدة صورها أيضاً على أغلفة المجلات العربية وقراءة حوار مطول معها كحنان الحروب، وبالذات على بعض الأغلفة المنشغلة بالجميلات من (النجمات) فضائحهن السخيفة التي لا تعني الكثيرين حقاً! … واسم تلك الفلسطينية الرائعة الأخرى ريم البنا. وكم سرني حصولها مؤخراً على جائزة فلسطينية مرموقة، وتقدير معنوي فازت به قبلها الكبيرة الصديقة الرائعة فيروز، فهذه الشابة تجسد «روح المقاومة» حتى بالمعنى الفني الإبداعي للكلمة. ها نحن أمام شابة فلسطينية مطربة جميلة أصيبت بالمرض الذي لا يقال اسمه أي «هيداك المرض» كما ندعوه والمقصود به مرض «السرطان». نعم السرطان! كلمة كريهة لكنها يمكن أن تحدث لكل منا في أي لحظة. حدث لريم البنا وهي في ميعة الصبا، ولم تختبئ أو تكذب أو تخفي تساقط الشعر بسبب العلاج الكيميائي الأليم بفعل المرض، بل أعلنت علينا الشجاعة والصدق والمقاومة له، ونشرت صورتها وقد أضطرت لحلاقة شعر رأسها وبدت لي أكثر جمالاً من أي نجمة هوليوودية أو عربية بأكوام من المساحيق والعمليات التجميلية.. والشعر المستعار.
أحببت شجاعتها ومقاومتها
واعترف بأنني كل عام أذهب إلى موعد الفحص الروتيني لسرطان الثدي وأنا أرتجف كقط مبتل.. والمخاوف تساورني.. وأذكر أنني يوم وصلت إلى باريس من زمان أصبت بالذعر لأن خبيرة الصور الشعاعية أعادت تصوير بعض المواضع ثانية وتوجست شراً ثم أطل الطبيب العجوز الذي كان على وشك التقاعد وقال لي: «فحصناك بدقة، وأنت بخير حال». وعلى نحو عفوي كدت أقفز وأقبله وكبحتني تربيتي الشامية، لكنه اعتاد ذلك فقال لي بظرف (فولتيري) فرنسي ولحيته البيضاء ترتجف وقد حدس ما كدت (اقترفه): إذن، أهذا كل ما ينبغي أن يقوله المرء للنساء ليقمن بتقبيله؟ وانفجرنا ضحكاً ومضيت!
وربما لذلك أقوم ثانية وبلا تحفظ بتمجيد روح الشجاعة لدى ريم البنا الفلسطينية الشابة الجميلة التي اعترف بأنني لم أستمع إلى أغنية واحدة منها لإقامتي في الغرب منذ ألف عام والوطن مقيم في قلبي، ولكنني أجد في سلوكها سيمفونية رائعة للشجاعة.. بل ورمزاً فلسطينياً لروح المقاومة.. ألا يقاوم الفلسطينيون في الوطن والمنفى محاولات تهشيمهم وتدميرهم بالسرطان الإسرائيلي دون جدوى؟ ألا تمثل ريم البنا وسواها «روح المقاومة» بالمعنى الحقيقي للكلمة بعدما صارت ملتبسة بفعل بعض الممارسات الخاطئة لكثيرين يرتدون قناع هذا الشعار؟
الفلسطينيات المبدعات المقاومات
تاريخ المــــرأة الفلسطينية في المقاومة بكل أنمـــاطها يستحق إفراد كتاب لأشكال تلك (المقاومات) كلها من هادئة وعنيفة وأبجــــدية، لا ننسى فيه المبدعة الكبيرة صديقتي الأبجدية فدوى طوقان وأستاذتي التي تكرمــــت بإهدائي قصيدة في أحد دواوينها، وثملت بذلك، والتي اتهمها أحد الكتب (الهزلية) مع محمود درويش بالكتابات (الإسرائيلية) على أمل نيل الشهرة من مهاجمة رمزين كبيرين لا تصل حروف الهجوم عليهما إلى كعب حذائيهما…
وأحب اليوم التوقف أيضاً مع مبدعة قصصية فلسطينية كبيرة مقاومة منذ البداية وهي شبه منسية هي سميرة عزام التي قال غسان كنفاني إنها أستاذته في فن القصة القصيرة تماماً كما قال محمود درويش بوفاء في تكريم فدوى طوقان أنها أستاذته شعرياً..
سميرة عزام كتبت القصة القصيرة التي ترسم أحزان فلسطينيي عام 1948 في (المنفى) العربي، بكثير من الصرامة الأدبية البعيدة عن الشكوى المبتذلة أو التزلف.
جمالية إبداعهن مقاومة للبشاعة الصهيونية
سميرة هي التي عرفتني على الكثير من الفلسطينيين في لبنان وكانت تعمل في مطلع الستينيات في مؤسسة فرانكلين للترجمة ومعها د. إحسان عباس ود. محمد يوسف نجم ومروان الجابري، وشقيقتها سهام عزام. وكنت قد وصلت إلى بيروت لمتابعة دراستي في الجامعة الأمريكية.
سميرة كانت أديبة كبيرة مبدعة في فن القصة القصيرة كسواها من المبدعات الفلسطينيات العديدات اللواتي أجد في عطائهن روح المقاومة بجمالية الإبداع والصمود والشجاعة وحصانة الذاكرة الفلسطينية.. ولن أنسى يوماً أستاذتي الشعرية الرائعة فدوى طوقان التي تجسد حتى بسلوكها الشخصي روح المقاومة حين حرمها والدها من العلم لأن صبياً معجباً رمى لها في درب المدرسة بوردة وتولى شقيقها الشاعر إبراهيم طوقان رعاية إبداعها بفضل روح المقاومة لديها، وتلك حكاية أخرى تطول..
________
*القدس العربي