جوش جونز/ ترجمة أسماء يس
خاص ( ثقافات )
بعد تحوله المتطرف إلى الأناركية المسيحية، تبنى تولستوي مواقف شديدة التناقض. وكانت هجمته شديدة على الطبقة والتقاليد التي نشـأ عليها، إلى حد أن نقاداً معينين، عفَّى عليهم الزمن الآن، أمكنهم تسمية ذلك بالنضال الأوديبي. وقد عارض تولستوي تماماً المؤسسات الأبوية التي رآها تقمع الطبقات العاملة وتقيد الحياة الروحية التي اعتنقها. لقد دافع عن الثورة واعتبرها “تغيير نظرة الناس إلى السلطة” كما كتب 1907 في كُتيبه “معنى الثورة الروسية” “إن هناك تغييرا يجري الآن في روسيا، ونحن جميعاً، كشعب روسي، مشاركون في إنجازه”. بهذه الـ(نحن) يساوي تولستوي نفسه بالفلاحين الروس. مثلما فعل في منشورات أخرى، مثل صحيفة 1901- 1910 حين كتب “ثلاثة أيام في القرية”، كانت تلك المقالات وغيرها، عن الفترة القاسية للفلسفة السياسية والنقد الثقافي، تهدف إلى تأكيد صحة الفلاحين الأخلاقية، ولفت الأنظار إلى تفسخ الأرستقراطية ومؤسساتها. في واحد من تلك المقالات 1906، حمل تولستوي على شكسبير، أكثر الأسلاف الأدبيين تقديساً، قائلاً: “رأيي الراسخ في أعمال شكسبير هو على النقيض تماما من كل ما هو راسخ في العالم الأوربي كله”. وبعد تحليل مطول لمسرحية “الملك لير”، خلص تولستوي إلى أن للمسرحي الإنجليزي “أعمالاً لا ترضي مطالب كل الفنون، كما أنه يميل إلى تقديم الأدنى والأقل أخلاقية”، لكن كيف جعل العالم الغربي الكون كله معجباً بأعمال شكسبير، الكاتب الذي “ربما تكون معجباً به على أية حال، لكنه ليس فنانا. عبر ذلك قدَّم تولستوي “اقتراحا وبائيا” انتشر عن طريق الأساتذة الألمان في نهاية القرن الثامن عشر، وفي لغة القرن الحادي والعشرين يمكننا أن نقول إن عبقرية شكسبير تحولت إلى فيروس. وصّف تولستوي تبجيل شكسبير المبالغ فيه بالتطعيم الضار الذي يتلقاه الجميع رغماً عنهم: “الأفراد ذوو العقول الحرة، غير المفتونين بشكسبير، لن يكونوا موجودين بعد في مجتمعنا المسيحي”، وأضاف: “كل شخص في مجتمعنا وزمننا، كان في المرحلة الأولى من حياته، ملقحاً بفكرة أن شكسبير عبقري وشاعر ومسرحي، وأن كل أعماله هي ذروة الكمال”.
والحقيقة أن الشاعر الملحمي الموقَّر- فيما يقول تولستوي- “كاتب تافه وعديم الموهبة، وكلما أسرع الناس بتحرير أنفسهم من تمجيدهم الزائف لشكسبير كان ذلك أفضل”.
لقد شعرت بما لا يدع مجالا للشك بأن مجد العبقرية العظيمة غير المشكوك فيها الذي تمتع به شكسبير يجبر الكتاب في زماننا على تقليده، ويجبر القراء والجماهير على اكتشاف مزايا غير موجودة بالفعل عنده، وبالتالي تتشوه مفاهيمهم الجمالية والأخلاقية… وهذا شر عظيم وكذب مطلق.
ماذا لدى كاتب الكلاسيكيات الشهيرة “الحرب والسلام” و”آنا كارنينا” لينبذ كاتب “الملك لير” بهذه القوة؟ بعد أربعين عاماً فسَّر جورج أورول هجوم تولستوي في مقال بعنوان “لير، تولستوي والكذبة” 1947، فسَّر أورول اعتراضات تولستوي على شكسبير من “رثاثة مسرحياته واللغو الفارغ والمؤامرات التي لا تصدق واللغة المغالى فيها” بأنها في عمقها اعتراضات على إنسانية شكسبير الفظة، وغزارته، أو وفقاً لمصطلح التحليل النفسي استمتاعه “juissance”.
يقول أورول إن تولستوي لا يحاول، ببساطة، سلب الآخرين متعة لا يشاركهم فيها، بل يسلبهم متعتهم ولكن خلافه مع شكسبير يذهب إلى مدى أبعد من ذلك، إنه خلاف بين المواقف الدينية والإنسانية من الحياة”. يفترض أورول أن “هناك الكثير من التُّرَّهات كُتبت عن شكسبير بوصفه فيلسوفاً أو عالم نفس أو معلماً أخلاقياً عظيماً، ووهناك ما لم يُكتب”. وفي الواقع لم يكن الكاتب المسرحي “مفكراً منهجياً” ولا نعلم حتى “كم من الأعمال المنسوبة إليه هو حقاً مؤلفها”، لكنه مع ذلك استمر في إظهار أن نقد تولستوي الموجز لمسرحية الملك لير، اعتمد لغة بالغة الانحياز وأساليب مضللة، كما أن تولستوي “بالكاد تعامل مع شكسبير بوصفه شاعراً!”.
ويتساءل أورول: لماذا اختار تولستوي مسرحية “الملك لير” على وجه التحديد؟ بسبب الشخصية المرسومة بوضوح فيها، التي تشبه تولستوي نفسه “لقد تخلى لير عن عرشه، لكنه يتوقع من الجميع أن يستمروا في معاملته بوصفه ملكاً”. ألا يشبه ذلك بشكل غريب تاريخ تولستوي نفسه؟ هناك تشابه عام لا يمكن لأحد أن يغفل عن ملاحظته، إذ إن الحدث الأكثر إثارة للإعجاب في حياة تولستوي كما في حياة لير، كان خطوة التنازل عن العرش الكبيرة وغير المبررة. لقد تخلى في أواخر أيامه عن ممتلكاته ولقبه وحقوق الملكية الفكرية لأعماله، وحاول محاولة مخلصة، لكنها ليست ناجحة تماماً، التخلص من وضعه المميز، وأن يحيا كفلاح. لكن التشابه الأعمق يكمن في حقيقة أن تولستوي ولير كليهما، تصرفا بناءً على دوافع خاطئة وفشلا في الحصول على النتائج المرجوة. وفقاً لتولستوي، السعادة هي هدف كل إنسان، وهي تتحقق فقط بإعمال إرادة الله، لكن إعمال إرادة الله يعني التخلي عن كل المتع الدنيوية والطموحات والعيش فقط من أجل الآخرين. في النهاية تخلى تولستوي عن العالم، متوقعاً أن ذلك سيجعله أكثر سعادة، لكن إن كان هناك أمر مؤكد واحد في السنوات اللاحقة، فهو أنه لم يكن سعيداً.
ومع أن أورويل يشك في أن الروائي الروسي كان واعياً بذلك، أو كان سيعترف بأن أحداً قال ذلك؛ فمقاله عن شكسبير يبدو فيه كما لو أنه يتعلم درس لير شخصياً، “لم يكن تولستوي قديساً، لكنه عمل جاهداً على أن يجعل من نفسه قديساً”، والمعايير التي قدمها للأدب كانت معايير دنيوية أخرى. وعليه، فلا يمكنه القبول بـ”النزعة الدنيوية الواضحة” والعادية والأنانية عند شكسبير، لأنه، جزئياً لا يمكنه قبول تلك الصفات في نفسه شخصياً. فمن التهم الشائعة والمنتشرة أن حكم الناقد يعكس الكثير من اهتماماته الشخصية والقليل من العمل نفسه. وإضفاء طابع نفسي من هذا القبيل على دوافع الكاتب أمر غير مبرر في أغلب الأحيان. لكن في هذه الحال يبدو أورويل مضطراً إلى الكشف صراحةً عن الصراع النفسي الشخصي في مقال تولستوي عن شكسبير، وربما يضع يده على أسباب رد فعل تولستوي العنيف تجاه الملك لير على وجه التحديد، التي تشير “إلى نتائج ممارسة إنكار الذات لأسباب أنانية”.
يلفت أورويل الانتباه إلى نقطة أوسع من مجرد الاختلافات الفلسفية بين تولستوي وشكسبير: “في نهاية الأمر، إنه الموقف المسيحي المهتم بنفسه وبمتعه”. يقول تولستوي: “ولأن الهدف دوماً هو الابتعاد عن صراع الحياة الدنيوية المؤلم، والبحث عن السلام الأبدي في الجنة أو النرفانا… فغالباً هناك هدنة بين الإنساني والمعتقد في الدين، لكن في الواقع لا يمكن التوفيق بين هذين الموقفين؛ على المرء أن يختار بين هذه الدنيا والآخرة”. بخصوص هذه النقطة الأخيرة لا شك أن أورويل سيتفق مع تولستوي. وفي تحليل أورويل يمكننا القول إن مناقشة تولستوي لإنسانية شكسبير تتعدى “شحذ المتناقضات” بين الموقفين، بين إنسانيته السابقة وتدينه الحماسي التعِس في سنواته الأخيرة.