الجنرال في مصر


*د . يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )
كان ذلك في عام 1798 م ، حيث كانت الثورة الفرنسية تسير في طريقها ، وفي غضون سنوات قلائل ، كان ثمة ما ينم عن أنه ستقوم دكتاتورية غير عادية إلى حد بعيد ، وكانت حكومة المديرين ، التي تضم جماعة من الرجال الرسميين غير الأكفاء الذين يكونون الحكومة الفرنسية ، يضيق بها الشعب الفرنسي .
ولقد تلفتت كل الأعين لترمق نجمًا صاعدًا ، قائدًا شابًا رائعًا سوف يضفي اسمه ذات يوم العظمة والدمار على فرنسا ، ذالكم هو نابليون بونابرت .
كان مولده في (كورسيكا) عام 1769 م ، وكان ضئيل الجسم ، طوله حوالي 165 سنتيمترًا ، ولكن سرعان ما ظهرت قدرته على اكتساح الرفاق ، وعلى إلهام التابعين ، وإثارة حمية المرؤوسين ، ولقد أصبح جنرالاً بعد سلسلة من الترقيات السريعة ، لكن المركز العسكري المتفوق لم يكن بأية حال يعادل ما لديه من طموح ، لأنه وقبل كل شيء كانت لديه ثقة بنفسه ، وبقدرة تفوق حد الخيال ، وقد جعلت شخصيته الأمة الفرنسية كلها تشاركه نفس الثقة .
وفي عام 1798 م ، كان نابليون في الثامنة والعشرين من عمره ، وبعد بعض الانتصارات الحربية الباهرة في إيطاليا ، دخل مع جيشه باريس العاصمة الفرنسية دخول المنتصرين ، ولم يكن الترحيب الطبيعي التلقائي الذي لاقاه الغازي الشاب يتعارض كثيرًا مع اللامبالاة وعدم الاكتراث اللذين كانا يبديهما الشعب الفرنسي لحكومته ، وكان لا بد أن يكون لذلك أثره على حكومة المديرين ، وعلى نابليون .
كانت فتوحات نابليون آنئذ في منطقة البحر الأبيض المتوسط ، وفي إيطاليا ، وفي النمسا ، أما عدو فرنسا اللدود فكانت إنجلترا ، ولقد آمن نابليون بأنه يستطيع سحق إنجلترا ببناء فرنسا كقوة بحرية ، وبدا أن مصر توفر الموقع المثالي الذي يمكن منه أن يتحدى الجنرال / نابليون الإنجليز ، الذين كانوا 
لكن نابليون لم يقد جيشه خلال أرض مصر الخصيبة بسبب الإستراتيجية وحدها ، بل إن هناك سببين آخرين : أحدهما أن فكرة الامتداد الشرقي لفرنسا كانت قد استبدت به ، ولقد أثار خياله حلم الإمبراطورية التي تمتد من البندقية الإيطالية إلى الهند ، وبلاد الفراعنة والأهرام على طول ضفاف النيل .
أما السبب الآخر فلم يكن يعود إليه ، ولكن إلى الحكومة الفرنسية ، فلقد تنبهت حكومة المديرين إلى خطورة الشعبية التي اكتسبها نابليون ، وأحست بأن خطره عليهم سيقل في مصر عما إذا كان في فرنسا ، وهكذا غادر نابليون فرنسا انطلاقًا من ميناء طولون الفرنسي لاحتلال مصر ، فسطر صحيفة جديدة في تاريخ كل من البلدين .
اتخذ نابليون استعداداته بالعناية والطاقة القديرة التي ميزته طوال حياته ، فلقد كان يتحكم ويشرف على الإجراءات التنفيذية في تنظيم الأسلحة ، والذخيرة ، والمؤن ، والسفن ، والجنود ، والمال ، كما أنه كان يسيطر على الجهاز الحربي الذي أرسل آنذاك الجيش من إيطاليا ليدخل باريس ، ثم يرحل إلى ميناء جنوا الإيطالي وميناء طولون الفرنسي .
لكن ذلك كان أكثر من مجرد مغامرة حربية ، فلقد قدر لها أن تكون حملة تاريخية وعلمية عظيمة ، لذلك دعا نابليون العلماء ، والأثريين ، والمتخصصين في الدراسات المصرية ، والمؤرخين لينضموا إلى أسطوله ، وما أن حان شهر مايو عام 1798 م ، حتى كان كل شيء على أهبة الاستعداد ، فأقلعت 300 سفينة شحن تحرسها 13 سفينة حربية إلى مصر ، وعليها 45 ألف جندي .
وبسبب سرعة هذه الاستعدادات ، لم تفطن للأمر أجهزة الاستخبارات الإنجليزية ، ولقد احتفظ بهدف الأسطول سرًا ، وما كانت إنجلترا تتوقع الهجوم إلا عليها هي ، وعلى مستعمراتها في البحر المتوسط مثل جبل طارق ، وهكذا عبر الفرنسيون البحر الأبيض المتوسط دون أن يشاهدوا شراعًا لسفينة معادية ، وفي التاسع من شهر يونيو ، احتلت جزيرة مالطة بالكامل ، وتركت بها حامية ، وبحلول التاسع والعشرين من شهر يونيو ، كان الجنرال نابليون في مصر .
أما الأعداء الذين قدر عليه أن يواجههم ، فكانوا المماليك ، كانوا جماعة من العسكريين من سلالة شعب محارب يعيشون في مصر منذ القرن الثالث عشر الميلادي ، ولقد كانوا الحكام الفعليين لمصر ، بالرغم من أن مصر كانت تحت الحكم التركي اسميًا .
تم الاستيلاء على مدينة الإسكندرية ، واحتلت بلا صعوبة ، ولكن معركة دامية نشبت في القاهرة بين الفرنسيين وستة آلاف من المماليك ، واحتدم نضال ضار طوال اليوم ، تحت ظلال الأهرام العظيمة ، ولما خرج نابليون منتصرًا على المماليك ، ركز على الاحتلال الكامل للبلاد ، وإعادة تنظيمها من كل الجوانب .
وفي لحظة الانتصار تلك وصلت أنباء مزعجة ، فلقد تم تدمير الأسطول الفرنسي المنتظر عن طريق هجوم إنجليزي مفاجئ بقيادة الجنرال / نلسن (معركة أبي قير البحرية بالقرب من الإسكندرية) ، ولم يعد في مقدور الجيش الفرنسي العودة إلى بلاده سالمًا حتى لو أراد ذلك .
لقد أحرز نابليون النصر على المماليك في كل مكان بمصر ، ولكنه لم يكن أبدًا غازيًا قاسيًا ، فلقد تظاهر باحترام ديانة المواطنين المصريين الذي كانوا يدينون بالإسلام ، وحرم على جيشه شرب الخمر ، أو القيام بتصرفات أو سلوكيات تتنافى مع أخلاقيات الإسلام ، وشرع بنفسه في استنباط اللوائح والقوانين نحو حكومة أفضل .
لكن ذلك ما كان ليدوم ، فالمرض كان ينخر في جيشه ، وكانت الأخبار تصل من فرنسا بالهزائم المتوالية في إيطاليا ، وهولندا ، والنمسا ، لذلك قرر نابليون العودة لبلاده ، وترك الجنرال / كليبر قائدًا للجيش في مصر ، والذي قتله الشاب السوري الذي كان يدرس في الأزهر / سليمان الحلبي ، ولقد كانت مخاطرته بنفسه عظيمة ، لكنه تجنب وقوعه في أسر الإنجليز ، وعاد إلى فرنسا بطلاً .
ولا شك أنه ربما كانت الحملة الفرنسية على مصر والشام فاشلة من وجهات نظر عديدة ، لكن نابليون عاد وقد ذاع صيته ، وبلغ ذروة المجد ، فهو لم يقهر بعد ، ومن هنا نمت أسطورة بأنه الرجل الذي لا يقهر Invincible ، من اللفظ اللاتيني Vincere ، بمعنى يهزم .
والرجل الآخر الوحيد في التاريخ الحديث ، رجل الأقدار الذي لا يقهر ، كان (أدولف هتلر) ، الزعيم الألماني النازي ، وهذا يوحي بأن مثل هذه الأساطير خطيرة على الشعب الذي يخلقها ، وعلى الرجل الذي يخلقون منه الأسطورة ، ولكن هذا لا يمنع من دراسة هؤلاء الأفذاذ والتعلم منهم قدر الطاقة والإمكان .
إن أكثر النتائج أهمية لإنجازات نابليون بونابرت في مصر ، هي أن البلاد جميعها قد تم رسم خرائط تفصيلية لها لأول مرة على يد الجغرافيين الفرنسيين ، بالإضافة إلى ذلك ، فقد تم الحصول على الكثير من المعلومات عن حضارة قدماء المصريين ، فلقد اكتشف حجر رشيد الموجود الآن بالمتحف البريطاني ، والذي قام الأسطول الإنجليزي بسرقته من إحدى السفن الفرنسية التي كانت بدورها قد استولت عليه بعد اكتشافه وفك طلاسمه ، وكان ذلك في موقعة أبي قير البحرية ، التي هزم فيها الأسطول الفرنسي شر هزيمة .
وحجر رشيد الذي فك طلاسمه العلامة الفرنسي / شامبليون ، هو عبارة عن عمود من الجرانيت يحمل كتابة باللغات اليونانية ، والقبطية ، والهيروغليفية المصرية ،ولقد ساعد هذا الحجر الباحثين في حل الكثير من الغموض لترجمة الرموز الغريبة ، والإشارات المسماة بالهيروغليفية .
كما درس علماء الحياة أو البيولوجيون من علماء الحملة أنواع السمك في نهر النيل ، ولأول مرة استقصيت وبحثت طريقة الحياة التي يحياها الشعب المصري بأكمله دراسة علمية ، ولعل كتاب (وصف مصر) ذلك السفر الضخم الذي وضعه علماء الحملة أكبر وثيقة دالة على الجهد الذي بذلوه في هذا الصدد .
ولقد ذاع في إنجلترا بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر ، طراز جديد من الأثاث سمي (العودة من مصر) ، كما زخرفت المقاعد ، والمناضد ، و دبابيس الزينة (البروشات) ، والملابس ، والمنسوجات بتصميمات منقولة من الطرز المصري. 
___________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *