الفلسفة روح الموسيقى


نصير شما

كما أن للموسيقى فلسفة، كذلك للغناء فلسفة جمالية تبنيه وتؤطر قوامه بالمعرفة ممتزجة بمتعة الإحساس بالجمال ونشوة الروح.

وفلسفة الغناء تستند إلى دعائم متعددة ولا تكتفي بركيزة، بل تشمل كل الأغنية منذ مستهلها وحتى خاتمتها، وتنسحب فلسفة الغناء على الموسيقي ذاته، وعلى المطرب الذي سيؤدي الأغنية، وعلى الشاعر الذي يكتب كلمات الأغنية، فإنها تبني فلسفتها معا، فلسفة وجودها وأسباب هذا الوجود، وعندما لا يكون للشاعر جمالياته في الكتابة، وعمق تناوله للنص وأبعاده القابلة للتأويل، فإن الكلمات قد تسقط في بحر السطحية، وتصبح أداة عابرة لا تمتلك مقومات أساسية للعيش، أي تصبح كعابر سبيل ما أن يحط رحاله على أرض إلا ويسري نحو غيرها، ويأتي الملحن ليبني فلسفته مع الكلمات، فإن كان الملحن يبني جملا موسيقية بلا هدف، أي بلا فلسفة جمالية لوجودها يقع هو الآخر في مطب البناء السريع، الذي يوشك أن يقع على أصحابه ويذهب هباء.
والمطرب الذي يغني أي لحن وأي كلمات، من دون قيمة حقيقية لنص متقن ودقيق في تناوله الجديد والمختلف، يقع في المطب نفسه، فيصبح صوتا يستقي حضوره من منابع متعددة، لكنه أبدا لا يرسم شخصية وجوده، كذلك المتلقي فإنه عندما لا يمتلك روحا جمالية لانتقاء ما يريد أن يستمع إليه وما يريد أن يتجاهله وتطوير ذائقته في التلقي يصبح هامشيا،لا حكم له.
أهم أشكال الجمال هي الفلسفة، فكل ما يخلق من دونها يصبح هباء وعدما، وفلسفة الجمال هي التي تبني إحساسنا بالأشياء التي حولنا، لكنها فلسفة أيضا تبني نفسها من الواقع الذي نتربى به ونعتاش منه وعليه.
سأتوقف عبر هذه الكلمات على الفلسفة الجمالية عند الموسيقي وهو يلحن أغنية ما. أبدأ بسؤال لأجيب عليه: ما الذي يفعله الموسيقي عندما يريد أن يلحن أغنية؟ وكيف يبني تصوراته في كل جملة موسيقية؟ لا بد أن تتوافر للموسيقي قريحة الإحساس بالجمال، ولابد أن يرتكز هذا الاحساس إلى داخل مبني عليه، إلى جانب يستشعره، فقد يقرأ الكلمات نفسها أكثر من ملحن، وقد تجد ملحنا بعينه يسارع إلى أداته الموسيقية ويبدأ نفسيا وقبل أن تصل أصابعه إلى نقطة العزف في تحويل الكلمات إلى موسيقى، وتحويلها إلى صور في المخيلة، بل تحويلها أيضا إلى شريط سينمائي يرى فيه المشهد كاملا.
لابد أن يفتح الملحن عينيه وأذنيه وقلبه للكلمات، ولابد أن يعيشها في خياله، ويعانقها حرفا حرفا، فالموسيقى التي تتحول إلى مجرد خلفية ساذجة للكلمات، لا تستطيع أن تلفت انتباه متلق ذكي، لأنها لا تستطيع أن ترسم ذاكرة في مخيلته ولا صورة في عينيه.
ومثلما يرى الملحن المشهد، عليه أن يحوله إلى صورة عبر الموسيقى يستطيع المتلقي أن يعيشها ويراها حتى لو تخلّى عن الكلمات واستمع إلى اللحن فقط، كذلك المطرب الذي يؤدي الأغنية من دون إحساس عال وإظهار روح الجملة الموسيقية وجمالها، سيبدو مؤديا عاديا ولن يصدقه المتلقي أبدا.
الأغنية التي تعيش هي الأغنية التي تملك أسباب وجودها لتبقى، وهي الأغنية التي ترسم خيالا وتبني علاقة وثيقة مع الروح، لا مع الجسد فقط، كإيقاع للتمايل عليه.
حينما يلحن الموسيقي الأغنية، عليه أن يرسمها بالفرشاة والألوان، أن يكون ضليعا بأهمية اللون وسحره، وما يمثله من إحساس، وعالماً ايضا بما يمثله المقام من ألوان يستطيع تلوين عمله بها، فلكل مقام موسيقي لون، ولكل لون وتر يضرب في مكان معين من النفس، فلون مقام الرست، يختلف عن لون مقام النهاوند، أو عن لون مقام البيات…. وهكذا.
فلسفة الأغنية، فلسفة تبني نفسها بثقافة عالية، ولابد أن تتوفر في كل ركائزها خبرة الإحساس بالجمال وفلسفته، وخبرة بناء الجمال أيضا لا التمتع به وحسب.
مثالنا في ذلك ما قدمه الموسيقار رياض السنباطي في قصيدة الأطلال، البناء الشعري للقصيدة ثم الموسيقي ثم اللحني، وضع السنباطي رؤيته على ما أظن لكامل العمل قبل الانطلاق بتلحينه، بمعنى قراءته للقصيدة أخذت وقتاً لا بأس به، ثم فكّر بطريقة البناء.
والفنان الحقيقي، عندما يحلم بعمل ويفكر به كثيراً تلعب أحلام اليقظة دورها لدرجة تصبح فيها الأصوات مسموعة قبل الإمساك بالآلة والشروع بالتلحين، ثم يتتبع أحلام يقظته لتصبح دليله لما يتمنى من تدفق البناء اللحني. قد تبدو الفكرة غريبة لكنها الحقيقة مع الكبار، أصحاب المواهب الكبرى.
من أول نغمة في الأطلال يضعنا السنباطي في حالة القصيدة قبل بدء الغناء ويمهد لقبول معاني النص، ثم يضع بناءه من مقام رئيسي كبير قابل للتفرع وهو السيكاه، يتفرع منه ويعود إليه مع الحفاظ على تماسك العمل، رغم مدته الطويلة، بل وصل فيه لذروة غير مسبوقة على الإطلاق في الغناء العربي، رؤية الموسيقار ووعيه وثقافته الموسيقية والأدبية جعلته قادرًا على فهم قصيدة الشاعر إبراهيم ناجي وتعمق في استنطاق روحها وقوتها واستلهم منها روح الموسيقى وفلسفتها التي جعلت من العمل واحداً من أفضل مئة عمل في القرن العشرين على مستوى العالم.
عندما تمتلك أغنية ما فلسفتها يعني أنها ذهبت إلى العمق وابتعدت عن القشرة.
في النهاية سيؤشر تاريخنا لما امتلك أسباب الوجود الحقيقية وسيتناسى تماما ما وجد على السطح.
القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *