خلاف على ملح الطعام


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
لم يتوقّع عبد الودود أن ينشب خلاف بينه وبين زوجته في مثل هذا الوقت من رحلة العمر. اعتقد أن تفاهماً راسخاً نشأ بينه وبينها على امتداد سنوات طويلة قضياها معاً. بهية، زوجة عبد الودود فوجئت هي الأخرى بما وقع، لاعتقادها أن لا شيء يمكنه أن يفسد العلاقة بينها وبين زوجها الذي عاشت معه الحلوة والمرّة كما يقال. والسبب متعلّق أساساً بخلاف على ملح الطعام. عبد الودود يعتبر هذا الخلاف جوهرياً وله مساس بأمنه وسلامته، وبهية تعتبره خلافاً سخيفاً لا يستأهل أي اهتمام.
عبد الودود له رأيه الخاص الذي لا يتزحزح عنه، ذلك أنه منذ اعتقال الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وهو يعيش كابوساً لا يُحتمل. قالت له بهية غير مرة: أمرك عجيب يا عبد الودود! على بال مين انته يا آدمي؟ يغضب عبد الودود من أسلوبها الفجّ في التعبير عن رأيها، يمتنع عن الكلام معها يومين أو ثلاثة أيام، ويحاول بالشرح المستفيض أن يوضّح لها مَنْ هو زوجها عبد الودود. يدخل معها في سجال متشعّب، طالباً منها أن تجلس في رأس الرئيس بوش لكي تراه على النحو المطلوب. ولكي يقرّب المسألة العويصة من ذهنها البسيط، (لأن من غير المعقول أن تتكهن برأي الرئيس في زوجها من دون مفاتيح مناسبة)، ذكّرها بحقيقة أنه ذهب قبل عام في وفد من فلسطين إلى بغداد، ضمّ شخصيات اجتماعية وعدداً من المشتغلين في الحقل السياسي، للتعبير عن تأييدهم للرئيس وإصرارهم على عدم التخلّي عنه تحت أي ظرف (لأن الدم لا يمكن أن يصير ماء)، وحيث أن عبد الودود لا يصنّف نفسه ضمن المشتغلين في الحقل السياسي، فإنه يكتفي بالوصف الذي أغدقته عليه الصحف ومحطات التلفزة، باعتباره من الشخصيات الاجتماعية. يتأمل وجه زوجته بنظرات فيها ظفر واستعلاء، ويسألها: والآن، كيف تظنين أن الرئيس بوش سينظر إليّ؟ تظل الزوجة صامتة حائرة لا تجيب، ويتطوّع عبد الودود بالإجابة نيابة عنها: المسألة واضحة يا بهية ولا تحتاج إلى تفكير زائد، فأنا إرهابي، ولا يُستبعد أن توجّه لي تهمة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، التي تهدّد أمن أمريكا والعالم.
عند هذه النقطة من السجال، يتجه عبد الودود فوراً إلى المطبخ والحمّام، ومعه كيس كبير من البلاستيك، يبدأ عملية غربلة دقيقة لمحتويات المطبخ والحمام، أمام عيني زوجته وعلى وقع إجاباتها المواربة التي لا تخلو من تذمّر:
_ ما هذا يا بهية؟
_كبريت يا عبد الودود، لا بيت في الحي يخلو من الكبريت.
يقذف دزّينة الكبريت داخل الكيس وهو يعلق:
_ بالنسبة لي، الأمر مختلف يا بهية، ولا واحد من أهل الحي زار الرئيس، أنا زرته.
_ يعني خربت الدنيا إذا زرته؟
_ وما هذا يا بهية؟ 
_ معجون لتنظيف الصحون والطناجر، وهذا كمان خطر؟
_ يا سلام! طبعاً خطر، هذا معجون كيماوي.
_ وما هذا الذي في خزانة الإسعاف؟
_ هذا يود، اشتريته لمّا طلع لك دمّل في قفاك.
_ اليود مادة كيماوية. (وبعد لحظة) أنا طلع لي دمل في قفاي؟
_ والا أنا اللي طلع لي؟ نسيت؟
_ وما هذا؟
_ شَرْبة ملح انجليزي!
_ أف والعياذ بالله. يصنعون المواد الخطرة ثم يحمّلوننا مسؤوليتها.
_ وهذا الذي في الحمام؟ 
_ مسحوق غسيل للغسالة، شو فيه خطر هذا؟
_ أف! كل الخطر، مسحوق كيماوي.
يمتلئ الكيس بموادّ كيمياوية ومساحيق وزجاجات فيها أدوية وسوائل، ويعود عبد الودود إلى التدقيق مرة أخرى في محتويات المطبخ للتأكّد من أنه لم ينس شيئاً من المواد التي تُصنف في باب ما يمكن استخدامه لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، أو الدخول في تركيبتها التي لا يعرف عبد الودود عنها شيئاً. يعثر على كيس ورقي مدحور بمهارة في زاوية إحدى خزائن المطبخ، يرمي نظرة ساخرة نحو زوجته اعتقاداً منه أنها تخفي عن ناظريه بعض المواد الخطرة، وللإيحاء لها بأنه بارع في التفتيش، لا يقلّ براعة في ذلك عن هانز بليكس ومحمد البرادعي. يقبض على الكيس ويسأل:
_ وما هذا يا بهية؟ 
_ كيس ملح، هذا ملح نرشه على الطبيخ. 
يهمّ عبد الودود بقذف الملح داخل الكيس البلاستيكي، تتلقّفه زوجته قبل أن يستقرّ داخل الكيس، تحتجّ بصوت نزق:
_ مالك انت؟ بتفكره ملح بارود؟ 
_ اسمعي، أنا بدّي الرئيس بوش يكون مبسوط مني، فاهمة؟
_ جهنم وراك وورا الرئيس بوش، وهاي أنا بقول لك: إياك تمد إيدك على الملح، سامع؟
احتدم الخلاف بين عبد الودود وزوجته، وتحت وطأة هذا الخلاف، كتب رسالة منمّقة من عشرة أسطر إلى برنامج “منبر المشاهدين” الذي تبثه إحدى الفضائيات مرّة كل أسبوع، وضع في الرسالة كل خبرته في كتابة موضوعات الإنشاء. وللحقيقة، وإنصافاً لعبد الودود، فليست هذه هي المرة الأولى التي يتوجه فيها إلى هذا البرنامج الذي تشرف عليه فتاة شابة بارعة الجمال. شارك عبد الودود قبل ذلك في هذا البرنامج، وقرأ على المشاهدين العرب من المحيط إلى الخليج خاطرة كتبها بمناسبة يوم المعلم. قرأ الرسالة كلها من دون أن يتعرّض لأية مقاطعة من المذيعة الشابة، كما أن اسمه ظهر على الشاشة أثناء تلاوته لخاطرته التي أنهاها ببيت الشعر المعروف: قم للمعلم وفّه التبجيلا. شكرته المذيعة بكلام عذب زادته عذوبةً شفتاها وهما تتلفّظان باسمه، فلم ينم عبد الودود تلك الليلة، اعتقد جازماً أن المذيعة وقعت في غرامه رغم أنها لا تراه، ويا للمفارقة! هو يراها ويعجب بفتنتها وهي لا تراه وإنما تكتفي بالتلفّظ باسمه، ويبدو أن اسمه، بما له من وقع خاص ومن جَرْس ورنين، أوقع في قلبها حبّاً من ذلك النوع الذي يأتي من أول لفظة (ثمة حب من أول نظرة، فلماذا لا تتنوع المسالك المفضية إلى الحب؟) وما عليه سوى المواظبة على الاشتراك في هذا المنبر الرشيق، لعله يحظى بالمزيد من إعجاب المذيعة، ولعله كذلك، يكرّس نفسه مع مرور الزمن باعتباره واحداً من أبرز المشاهدين العرب، وفي ذلك ما فيه من البرستيج والشهرة وعلوّ الشأن. 
قضى يومين وهو في حالة خصام مع زوجته، استثمرهما في التدرّب على قراءة الرسالة بأسلوب رصين، وقضى يومين آخرين وهو ينتظر على أحرّ من الجمر موعد البرنامج المنتظر. تنفّس الصعداء حينما شاهد المذيعة الفاتنة تظهر على ملايين المشاهدين العرب بزيٍّ خمري يكشف نحرها الرقيق ورقبتها الطويلة الأنيقة. اعتقد أن رسالته السابقة مارست عليها سحراً تظهر دلائله من دون حاجة إلى تمحيص، فقد دلّها قلبها على أن ثمة من يبدي إعجاباً بها يصل درجة سامية من درجات الحب، لذلك لم تبخل عليه بأخذ زينتها على أكمل وجه لإدخال مزيد من المتعة إلى نفسه المعذّبة، استعذب عبد الودود منظرها الآسر وشعر بالغيرة في الوقت نفسه (من حقه بالطبع أن يشعر بالغيرة لظهور فتاته أمام هذه الحشود الكبيرة من المشاهدين على هذا النحو المثير). 
انكبّ على الهاتف يدير أرقامه المطلوبة مدّة نصف ساعة، سمع بعدها صوت المذيعة الشابّة:
_ آلو! مين معي؟ 
_ عبد الودود محمد، من مدينة الحب والسلام.
_ أهلاً بك يا أخ عبد الودود، (أخ!) أتحفنا بما لديك.
_ أيتها العزيزة أميمة، (العزيزة وليست الأخت) رسالتي إليك وإلى المشاهدين العرب، تتمحور حول ملح الطعام وعلاقته بأسلحة الدمار الشامل.
شرع عبد الودود في قراءة رسالته التي اتسمت بالطول والاستطراد، واشتملت في الوقت نفسه على إيحاءات بعضها خفيّ وبعضها مكشوف عن مشاعره تجاه المذيعة نفسها، عبّر عنها في البيت التالي من الشعر العربي القديم:كليني لهمٍّ يا أمَيمةُ ناصبِِ/ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِِ. بدا الملل واضحاً على محيّا المذيعة بسبب إصرار عبد الودود على تطفيش المشاهدين كما يبدو، أحكمت قبضتها من جديد على زمام البرنامج، قالت وهي تقاطع عبد الودود خلافاً لتوقّعاته:
_ شكراً لك يا أخ عبد الودود، وصلت الفكرة.
غاب اسم عبد الودود عن الشاشة، وذاب صوته كأنه لم يكن. امتعض وأدرك أن آماله تحطّمت مرّة واحدة. وحينما اطمأنّت المذيعة إلى أنها أقصت صوته من مجالها الحيوي، علّقت بفتور:
_ الذي أعرفه أن لا علاقة لملح الطعام بأسلحة الدمار الشامل.
ازداد امتعاض عبد الودود، وحمد الله في سرّه لأن زوجته ذهبت إلى السرير قبل بدء البرنامج، وإلا لاتخذت من رأي المذيعة حجة تجابهه بها كلما قام بحملة تفتيش في أرجاء المطبخ، بحثاً عن المواد الخطرة لإتلافها في الحال، خوفاً من الرئيس بوش، وحفاظاً على علاقة سليمة معه، إذ ألقت حادثة اعتقال صدام حسين رعباً في قلب عبد الودود، وضاعف من هذا الرعب، الطريقة التي أظهرها الإعلام الأمريكي لصورة الرئيس السابق وهو رهن الاعتقال. الصورة قُصد بها تماماً توجيه رسائل واضحة لمن يعنيهم أو قد يعنيهم الأمر. عبد الودود صنّف نفسه في قائمة من قد يعنيهم الأمر. لذلك، وتحت وطأة التأثيرات النفسية للصورة، راح الكره الذي يكنّه عبد الودود للرئيس بوش بسبب سياساته المتغطرسة، يتحوّل إلى حب جارف.
قبل هذه الحادثة، أظهر عبد الودود (في أحلام يقظته) ميلاً متزايداً لتحدّي الأمريكان، أوهمهم بعدد من الحيل التي سرّبها إليهم بهذا الشكل أو ذاك، بأنه يمتلك قنبلة قذرة قادرة على إبادة عشرة آلاف جندي. عبد الودود فعل ذلك مدفوعاً بحافزين اثنين، الأول: ردع الأمريكان وتخويفهم وكسب المعركة معهم من دون إراقة قطرة دم واحدة، والثاني: دخول التاريخ فيما إذا جازف الأمريكان بمهاجمته (سيطلق على حربه معهم اسم “أم المواقف”، تيمّناً بأم المعارك) عبد الودود لا يمتلك أية أسلحة فتاكة يواجه بها الأمريكان، لكنه سيحظى بمكانة مرموقة على صفحات التاريخ، حينما يُسجَّل له، قيام مئة ألف جندي أمريكي بشن الحرب عليه. 
بعد القبض على صدام، اختلف الحال مع عبد الودود، لأنه لا يحتمل الظهور على شاشة التلفاز بشعر منفوش ولحية كثّة شاردة في كل اتجاه، ولا يحتمل قيام فرق المارينز بتطويق بيته تحت جنح الظلام، لاعتقاله بتهمة إقامة علاقة من نوع ما مع الرئيس السابق، وبسبب حيازته بعض مواد قد تستخدم في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. ولأن عبد الودود عاجز تماماً عن مواجهة جبروت أمريكا، فليس أمامه سوى الانصياع لرغباتها ومشيئتها، والتحوّل إلى موالاة الرئيس والثناء على سياساته، والنظر إليها باعتبارها عين الحكمة والصواب.
راح عبد الودود يقضي الليالي الطوال متأرّقاً إلى جوار زوجته الغاطسة في سابع نومة، مفكراً في أسلم الوسائل لكسب ودّ الرئيس ورضاه، واشتط به الخيال حدّ التفكير بتقديم اقتراح للرئيس كي يعيّنه مستشاراً له لشؤون مطابخ العالم، تمهيداً لتجريدها من المواد التي قد تُستخدم لإنتاج أسلحة الدمار الشامل. المطابخ مشكلة فعلية في العالم. ألم يشاهد عبد الودود ذات مساء برنامجاً بثه التلفاز، يحذر من خطر الغازات التي تنشرها ثلاجات المطابخ في الفضاء، لما لها من آثار ضارة تتسبّب في تخريب البيئة وتمزيق طبقة الأوزون؟ سيقترح عبد الودود على الرئيس إلغاء المطابخ في العالم كله بقرار من البيت الأبيض أو من وزارة الدفاع، ومن ثم تخويل مطاعم مكدونالدز الأمريكية بتقديم وجبات سريعة بأسعار مناسبة، لسكان هذا العالم على اختلاف مشاربهم وأذواقهم. وسيجري التخلّص من الغسّالات وما تتطلّبه من مساحيق خطرة، بتدابير مشابهة، إذ يمكن تأسيس شركة أمريكية تقوم بغسل ملابس الناس في شتى أنحاء هذا الكوكب كل يوم تقريباً وبانتظام.
أعجب عبد الودود بما توصّل إليه من أفكار، ولم يجد بُدّاً من إيقاظ زوجته لكي يُشركها معه في تحمّل قسط من عبء الفرح الذي ينوء به قلبه. قبّل خديها ورقبتها وصدرها السابح في العرق. قال بلهفة ورجاء:
_ بهية، سنجد حلاً للخلاف على ملح الطعام، ولكن، أرجوك، اسمعيني حتى النهاية. 
استمعت له، ثم قالت بكلام غامض:
_ نم هالحين، وفي الصباح يفرجها الله. 
اعتقد عبد الودود أنها تلمّح إلى شيء له علاقة بخلافهما المحتدم على ملح الطعام، ولم يعرف حقيقة موقفها إلا حينما رأى طبيب الحي قرب سريره، يفحص جسده وهو ما زال في الفراش. صاح مستغرباً: 
_ ما الذي تفعله؟ أنا لست مريضاً.
أقنعه الطبيب بعد طول جدال أنه مُجْهدٌ متوتّر الأعصاب، ولا بدّ من خضوعه لعلاج طويل قد يقتضي نقله إلى المستشفى. خاف عبد الودود وبدا مستسلماً لإرادة الطبيب، ولم يبدر منه أي اعتراض إلا حينما أخرج الطبيب كبسولة من حقيبته الجلدية السوداء، قال:
_ خذ هذه الكبسولة الآن.
دقق عبد الودود النظر في الكبسولة ثم تلبسته حالةُ مُحاورٍ من الطراز الأول، قال:
_ أيها الأخ الطبيب، ربنا ما شافوه بالعقل عرفوه.
_ صحيح.
_ إذاً، قل لي الصحيح، ما هذا؟
_ هذا دواء للأعصاب.
_ جيد، وما هي المواد التي يتكوّن منها هذا الدواء؟
_ مواد كيمياوية! هذا أمر معروف.
_ وقعتَ أيها الطبيب، أوقعتَ نفسك بلسانك.
خبأ الكبسولة في جيب بيجامته، قفز من سريره وهو يهدّد الطبيب:
_ الآن رايح ارفع اسمك للرئيس.
ثم قالها بلغة فصيحة مدوية:
_ الآن الآن وليس غداً، سيكون اسمك بين يدي الرئيس.
وانطلق يمشي على غير هدى في الطرقات، بعيداً عن البيت.
____
2004 
_______
*قاص وروائي فلسطيني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *