العـمـل الـروائي الأول .. «شمّاعة» لتبرير «الضعف» أم «موطئ قدم» في ساحة الإبداع ؟!


*بديعة زيدان


“لا يمكن الدفاع عن رداءة أي عمل أدبي، حتى لو بزعم انه الأول لصاحبه، بل على العكس يفترض دوماً ان يكون هذا العمل هو اعلان عن موهبة كاتبه، ومن ثم يتفادى ما فيه من ثغرات قدر الإمكان، لأنه يقدم صاحبه إلى الأوساط الأدبية إبداعياً ونقدياً” .. بهذه الكلمات بدأ سيد محمود، الصحافي المتخصص في الشأن الثقافي، وعضو لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) للعام 2016، حديثه حول العمل الإبداعي الأول، وخاصة الروائي، وما إذا كان مبرراً لصاحبه أو ناشره أن يطالب النقاد أو القراء بالرأفة تجاهه. 
وأضاف محمود لـ”أيام الثقافة”: في مصر على سبيل المثال هناك سلاسل ابداعية تصدرها هيئات وزارة الثقافة لكتاب ينشرون لأول مرة، ومنها الكتاب الأول، وانضممت أخيراً لهيئة تحريرها المسؤولين عن اختيار ما ينشر فيها، وظني ان مهمتنا الاولى هي فرز ما يتقدم من اعمال واختيار أفضلها، وهي مهمة صعبة، لكني اعتمد دائماً على مقولة للشاعر السوري محمد الماغوط اعتبر فيها أن “الموهبة كالفضيحة” التي يصعب تجنبها، ومن ثم فأنا اعتبر العمل الاول الاهم، وليس الأضعف، ولدينا في تاريخ الادب العربي عشرات الاسماء اكتفي أصحابها بأعمالهم الأولى او الوحيدة، بل ودخلوا تاريخ الادب بهذا الرصيدـ دون ان يتمكنوا من الكتابة مرة اخرى، ولدينا في مصر مثال لكاتب عظيم هو محمد ابراهيم مبروك ترك مجموعة قصصية اولى ووحيدة هي “عطشى لماء البحر”، لكنها جعلته عن حق أحد أبرز رموز الحداثة في القصة القصيرة في ستينيات القرن الماضي، ورغم أن الكاتب لم يتمكن من الكتابة بعدها، الا انه تعلم الاسبانية وواصل الإبداع من خلال الترجمة، وكشف لي الراحل انه وضع معياراً لم يرغب في التنازل عنه، ولم يكن نادماً على هذا الخيار. ويرى محمود أن “مناسبة طرح السؤال ترتبط بالسياق الأدبي حالياً، حيث زادت فرص النشر على نحو غيّب المعايير، وخلق سيولة واضحة بات من الصعب فيها العمل بمعيارية واضحة داخل دور النشر، التي تتنافس على النشر أكثر من تنافسها على أداء دورها كمؤسسات ابداعية فاعلة، وزاد من سوء الأوضاع أن الكثير من تلك الدور تحصل على مقابل نقدي مقابل نشر العمل، وبالتالي تتغافل عن شروط الجودة الواجب توافرها، وتدفع سنوياً بعشرات الاعمال دون تدقيق كاف، بحجة أنها أعمال اولى على متلقيها أن يبدؤوا بمنح صكوك الغفران قبل القراءة، وبعدها في حين، مع أن الواجب هو منح الاعتراف انحيازاً لموهبة يصعب تفاديها”.
وفي هذا الملف حول العمل الأدبي الأول، أو الرواية الأولى، استمزجت “أيام الثقافة” عدداً من الروائيين العرب، من أجيال مختلفة، وتجارب مختلف، ودول عدة، بعضهم له عدد كبير من الأعمال الأدبية والروائية، وبعضهم لا يتجاوز ما أصدره عدد أصابع اليد الواحدة، ومنهم من حقق شهرة لمجرد إصداره روايته الأولى. 
تختلف التجارب 
وقال الروائي السوداني الكبير أمير تاج السر: في الواقع ليست هناك علاقة كبيرة بين العمل الأول ومستواه الفني، لكن المسألة تختلف من كاتب لآخر، وأعني هنا الكتاب الموهوبين حقيقة، وليس الذين يسعون للكتابة بلا خلفيات. هناك من يكون قرأ كثيراً، وفهم وبحث وأنتج عملاً أول عن دراية بخفايا الكتابة، وبالطبع ساعدته الموهبة في الكتابة، ونجح في النهاية في إضافة جديد من عمله الأول، ووسط هؤلاء يأتي من لا يستطيع أن يكتب عملاً جديداً مساوياً لعمله الأول، مهما فعل بعد ذلك. والأمثلة كثيرة وسط الأدب العربي والآداب الأجنبية، وأحيانا يشتهر العمل الأول ويغطي على أعمال أخرى ينتجها الكاتب لاحقاً. 
وأضاف: هناك كتاب آخرون، يبدؤون من صفر الكتابة، أي يكتبون محاولات، ويحاولون تخطيها على مدى سنوات، وغالبا ما ينجحون في ذلك، حين تصبح الكتابة لعبة سهلة، واحترافية بعد ذلك، ولعل الشعراء الذين يتجهون للرواية، وكنت منهم، يأتون بملاحة الشعر، وصوره البراقة، وتقنيات قد لا يستطيع العمل السردي، استيعابها كلها، وبالتالي لا تنجح أعمالهم الأولى.
وحول تجربته الشخصية، أفاد أمير تاج السر: روايتي الأولى كان اسمها “كرمكول والحصانة القروية”، كتبتها أيام أن كنت طالباً في مصر، وجاءتني رغبة جارفة في كتابة رواية، وأيضا ألح عليّ بعض أصدقائي المثقفين، بسبب ما تحتويه قصتي من حكي.. لقد كانت رواية صغيرة، تتحدث عن قرية في شمال السودان، وضعت قانوناً لحمايتها، اقترحه مثقف يعيش فيها، هو قانون الحصانة القروية، ثم حدث فيها حادث ما عكر هدوءها، واستوجب تفعيل ذلك القانون.. كانت القصة في الحقيقة، ضائعة وسط الشعر وصوره، واستعاراته الكثيرة، لكن الرواية نجحت باعتبارها أشارت لولادة أسلوب معين في الكتابة، من أول نص، فقط تبقى قيمتها السردية ضعيفة، إذا ما قورنت بما أنتج في نهاية الثمانينيات، من القرن الماضي، ولذلك لم أقم بإعادة طباعتها، واعتبرتها مجرد إشارة في طريقي، لم تمح تماما، ولا هي واقفة مستندة.. وبعد “كرمكول” كتبت رواية أخرى، ارتدت نفس عباءة الشعر، ثم حدث أن وفقت بين الشعر والسرد، وأنتجت أسلوبي الحالي الذي أكتب به.
الرواية حدث 
واعترف الروائي الكويتي سعود السنعوسي، الفائز بجائزة “البوكر” للعام 2013 عن روايته “ساق البامبو”، وصاحب رواية “فئران أمي حصة”: لا أتبرأ من عملي الأول، رغم إدراكي لقصوره فنياً في بعض الجوانب. العمل الأول بكل سلبياته وإيجابياته جزء من التجربة الكتابية، ولولا الآراء النقدية الجادة التي تناولت العمل لما أعدتُ النظر في أدواتي الكتابية عند الشروع في كتابة العمل الثاني والثالث. 
وقال السنعوسي : اقترح عليّ البعض أن أعيد تحرير روايتي الأولى لتخرج بصورة أفضل، ولكنني أرى أنها تجربة مضت بكل ما فيها من نقص، كما أنني بشروعي بكتابة عمل آخر أكون قد خرجت تماماً من مزاج التجربة السابقة، على كل حال هي فرصة للقارئ المهتم ليتتبَّع مراحل الكتابة لدى الكاتب.
وأضاف: العناية باللغة والجنوح للشاعرية في عملي الاول أخذاني في كثير من الفصول عن الحدث الرئيسي للرواية، ولعل هذه هي الملاحظة الأهم التي تلقيتها من الناقد والقارئ، والتي أحملها معي إلى اليوم في كل نصّ أشرع في كتابته..
لا أزال أتذكر كلمة أصبحت لا تفارقني، جاءت بعد قراءة أحدهم لروايتي الأولى حيث نبَّهني: “الرواية حدث!”. نعم، الرواية إلى جانب الكثير من متطلباتها مثل العناية بالشخوص والزمن والمكان؛ هي أولا وأخيرًا.. حدث. 
هفوات جميلة 
ويحلينا الروائي الجزائري بشير مفتي إلى الشاعر الفرنسي بودلير، وقوله إنه يسبق العمل الأول الذي ينشر بطبيعة الحال أعمالاً كثيرة لا تنشر، وهي مسودات الكتابة إن صحت التسمية، أو أعمال كثيرة سيضحي بها الكاتب قبل أن يقدم على نشر عمله الأول الذي لا أقول أنه يرضيه تماماً، ولكن يشعر أنه خطوته الأولى التي يقدم بها نفسه إلى القراء، ومن هذا الباب فهو ليس الأول بمعنى من المعاني هو ربما الرابع أو الخامس. وقال مفتي لـ”أيام الثقافة”: كنت أطالع منذ فترة مذكرات الكاتب البريطاني غراهام غرين، وهالني نقده الشنيع لأعماله الروائية الأولى التي أظنه ندم على نشرها، أو اكتشف فيها كل عيوب التقليد السيئ لكتاب آخرين، وقد يكون هذا موقف كاتب نضج مع التجربة، واشتهر مع الوقت وصار يزعجه رؤية أعمال يعتقدها غير مهمة في مساره الروائي. وأضاف: بالنسبة لي كان عملي الأول هو مجموعة قصصية بعنوان “أمطار الليل” لم أعد نشرها بعد، رغم أنها ظهرت في العام 1992، ولا أخفيك أنني يوم نشرتها أهديتها لأستاذي العراقي الراحل محمد حسين الأعرجي وكان مدرسا بكلية الآداب في الجزائر، فشكرني وقال لي: على أمل أن لا تندم على نشرها عندما تكبر في الكتابة والحياة، ومع ذلك، لا أشعر أنني ندمت، فلقد كانت تلك التجربة تمثلني في مرحلة معينة، وتعبر عني بصدق في ذلك الزمن، فلماذا أندم على كوني نشرتها في مرحلة من مراحل حياتي؟ ونفس الشيء بالنسبة لروايتي الأولى “المراسيم والجنائز” في العام 1998 لا أشعر بأي نوع من الندم إزاءها، بل أعتبرها تجربتي الأولى في الكتابة الروائية، وقد نالت إعجاب القراء والنقاد في وقتها، ولا علم لي برأيهم الآن في هذا العمل، وإن كنت أفكر في إعادة نشرها من جديد دون تعديل أو إضافات جديدة، وكما قيل إن أجمل ما في الأعمال الأولى هو عدم التصنع، وتلك الهفوات والأخطاء التي أحياناً تجعل النص حميميّاً بالنسبة للكاتب، قريبا منه وليس بعيداً عنه، عندما يمر زمن طويل على ظهورها.
نشوة العمل الأول
أما الروائي والقاص والكاتب المسرحي الأردني مفلح العدوان، فقال: حين أستحضر كتابي الأول، أستعيد معه تلك الأجواء التي نقشت تلك الكلمات على رخام الورق؛ آنذاك كنت جنوبياً، أكتسي بثوب الصحراء، حيث عملي في مناجم الفوسفات مهندساً، والجنوب حكايات لا تنتهي، والجنوب حين يكون توأمه المنجم والصحراء يبقى أثره حاضراً في ذات المبدع الذي جاوره سنوات بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث كتبت في تلك الأجواء مجموعتي القصصية الأولى “الرحى”، ولعل طقوس الكتابة، والفضاءات من حولي آنذاك، تشدني الى تلك اللحظات، ومثلما الطريق الى البيت قد تكون أكثر أثرا من البيت ذاته. وأضاف: ها أنا بعد أكثر من عشرين عاماً على تلك الكتابة أعود اليها بحنين، وقلق، وألق، أتلمس حر الصحراء، غبار المنجم، عرق العمال، رائحة التراب، الطريق الصحراوي، نجوم الليل، صفاء السماء، برودة الشتاء، فتنة الأحاديث مع أهل الجنوب.. كنت هناك، وكتبت في تلك الفضاءات مجموعتي القصصية الأولى، كتابي الأول “الرحى” الذي أنتمي الى كل حرف فيه، وحين أعيد قراءته تسحبني الحروف الى سماوات وأساطير وحكايات، تعيدني الى روحي وذاتي، تحضر صور ووجوه وأحداث، وتفاصيل كثيرة تأتي مع كتابي الأول (الرحى). وتابع: لعل قصتي معه أثناء الكتابة، ولحظات الإبداع، لم تتوقف عند النشر فقط، فهذه المجموعة كانت بوابة الدخول الى الساحة الابداعية العربية؛ في تلك السنوات، أتحدث عن العام 1994 أو 1995 إلى الآن، حين نشرت ما كتبت، ولم يكن هناك لا إنترنت، ولا بريد الكتروني، كان صندوق البريد حديدي، والرسائل من حبر وورق، وبين موعد ارسال الرسالة وتلقي الرد زمن يتم حسابه أحيانا بالأيام، وفي كثير من الأوقات بالأسابيع والأشهر، وقد تضيع الرسائل قبل أن تصل أو تعود.. هذا المفتتح لحكاية البريد، بسبب أنني أودعت خمس نسخ من كتابي في طرد بريدي الى المجلس الأعلى للثقافة والفنون في مصر، لحظة نشوة ومغامرة وبهجة بالعمل الأول، وكانت مشاركتي في مسابقة جائزة محمود تيمور للقصة القصيرة، ونسيت الرسالة والمشاركة، حيث مرت عدة أشهر، وذات يوم يردني اتصال من رابطة الكتاب الأردنيين بأنني فزت بالمركز الأول في جائزة محمود تيمور للقصة القصيرة، وبعدها بأسابيع تصلني رسالة عبر البريد تأكيداً لما نشرته وكالات الانباء وأخبرني به الزملاء في رابطة الكتاب.. هذه نشوة العمل الأول، أعتز به، أعود معه الى تلك الذاكرة البكر، الى رائحة الحبر والورق، الى الجنوب حيث كتبت أجمل ما كتبت هناك!! 
ما يشبه الفخ 
الروائي الفلسطيني أكرم مسلم، استهل حديثه بالقول: العمل الاول عموما عتبة لا بد منها، قد تكون عتبة مقنعة وقد تكون نهاية الطريق. ربما يكون العمل الاول هو الأقوى إذا فشل الكاتب في تجاوز نفسه. وربما يكون الأول والاخير ويكون عملا عظيما. لا يوجد جواب مطلق على مثل هذه الأسئلة. وأضاف: بالنسبة لي كان العمل الأول درجة على السلّم، لكنها كانت درجة حقيقية وصلبة يبنى عليها، فهي كانت كافية لتمنحني الاعتراف المبكر ككاتب رواية مبشر على مستوى محلي، ثم جاءت “سيرة العقرب” لتحملني درجات. مشكلة العمل الاول انه قد يأسر كاتبه ويتحول إلى ما يشبه الفخ، فيمكث في عالمه طويلاً، ومن مشاكل العمل الأول ان كاتبه يتخيل وكأنه اكتمل. ثم أن معايير الكاتب في الرواية الاولى تكون شخصية في الغالب ومرجعيته حياته وأزماتها وعقدها، نادرا ما يستطيع الابتعاد مسافة كافية عن تجربته ويحافظ على حميمية موضوعه في آن. وشدد مسلم لـ”أيام الثقافة”: في الاعمال اللاحقة يتدرب الكاتب على رؤية العالم من مناظير مختلفة ويبتعد عن صلب سيرته. العمل الاول روائيا كثير ما يكون مونتاجا للتجربة الشخصية، وهذا ليس شتيمة بالضرورة، يحدث أن تكون عنصر قوة وخصوصية، لكنه ليس نهاية المطاف ايضا.. لم افقد محبتي لعملي الاول صراحة، لكنني عندما اجرب قراءته بعد خمسة عشر عاما اشعر بالتعب، لا أعرف لماذا تتعبني رواية “هواجس الاسكندر”، لكنني لم افقد الثقة على الاقل بشخصياتها وبخيطها السردي الخفي.. يخطر لي احيانا ان اعيد كتابتها، احس ان طينتها قادرة على خلق الكثير، ربما ستكون مغامرة مجنونة ان اعيد كتابة رواية بالكامل، او فكرة مجنونة، لكن من يدري؟ كل شيء في الرواية كما الحياة قابل للحدوث.
موطئ قدم 
وكان للروائي المغربي طارق بكاري، تجربة خاصة في هذا الإطار، فروايته الأولى “نوميديا” حققت شهرة طاغية، خاصة بعد ترشحها للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، ومنافستها على اللقب لهذا العام. وقال بكاري لـ”أيام الثقافة”: طبعاً هناك علاقة وطيدة بينَ العمل الأول ومستواه الفني، كل البدايات لا تخلو من مشاكل، سواءً على مستوى التحكم بالحبكة أو على مستوى البناء المعماري للرواية، فكل عملٍ أول هو بالضرورة مسودّة لعمل آخر أنضج. وأضاف: يختلف الروائيون في كون بعضهم يغامر بنشره، أما البعض فيمهلُ نفسه ويمهلُ العملَ رويدًا، الكاتب الكبير الذي يستهلُّ مشوارهُ بنص متوسط أو دون المتوسط هو في الأرجح قد تسرّعَ وغامرَ بنشرِ نصّهِ الأول كما هو دونَ مراجعةٍ، ودونَ أن يدعَ بينَهُ وبينَ العملِ الأول مسافةً من الزمن ليقرأ العمل بعين القارئ لا بعين الكاتب .. في الغالب العمل الأول دونَ مراجعات متكرّرة وعلى فترات متباعدة ليسَ أكثر من محاولة تفتقر للنضج، طبعاً لا يمكنُ تبرير ضعف العمل الأول المنشور بذريعةِ أنه العمل الأول لصاحبهِ نظرًا لأنّ هناكَ أعمالا أولى لصاحبها تكونُ على قدرٍ كبيرٍ من التميز، كما يمكنُ تبرير هذا بضعف الكاتب المرحلي وقت كتابتهِ لعملهِ الأول. 
وتابع صاحب “نوميديا”: الأمر ليسَ مستقبَحًا، الكل يستهلُ مشوارهُ من الضعف والكل في توقٍ دائم للكمال، العمل الأول الناجح هو في الغالب عملٌ متواضعٌ تعهّدَهُ صاحبُهُ بالتشذيب والتثقيف على نحوٍ متواصلٍ قبل أن يدفعَ به للناشر، والعمل الأول الفاشل، إذا تألق صاحبه في ما بعد، فالأرجح أنّهُ تسرعَ ولم يمهل نفسهُ من الوقتِ ما يكفي لتنضجَ التجربة ويختمرَ العمل. “أمّا عن حكايتي مع العمل الأول، وهو رواية “نوميديا” التي تحققُ حاليًا نصيبًا من النجاح، فأعتقد أنَّ السرَّ وراءَ تألقها اللافت رغمَ أنّها العمل الأول لي، يرجعُ بالأساسِ إلى أنّني لم أتسرع في نشرها، تركتُ الفكرة تختمر داخلي زمنًا ليسَ بالهيّن، كتبتُ المسودة الأولى، ثمَّ أعدتُ كتابتها كاملةً معَ حذف الزوائد، أو زيادة ما رأيتُهُ مناسبًا، وحرصتُ على رقنها بنفسي، ذلك أنّ مرحلة الرقن لم تكن مجرّد نقلٍ آلي، بل كانت مناسبةً لمراجعة العمل وتمحيصهِ ..كما كنتُ حريصًا إثر كلِّ مرحلة من المراحل آنفة الذكر على ترك مسافة زمنية بيني وبين العملِ، أهجرهُ ولا أعودُ إليهِ إلا بعدَ شهرين على أقلِّ تقدير .. هذه المسافة الزمنية بين الكاتب والعمل أعتقدُ أنها ضروريةٌ، لتفتحَ عينيهِ على ثغرات قد يراها بعينِ القارئ العادي وتغيبُ بعينِ الكاتب، كنتُ حريصاً على إخراج عملي الأول في أبهى حلة وبعد مراجعات كثيرة وصقلٍ وتثقيف، لأنني كنتُ واعيًا بأن العمل الأول فرصةُ الكاتب ليجدَ لنفسه موطئ قدم في الساحة الأدبية، وأنَّ جودة العمل لا بدَّ أن تحكمَ مستقبل علاقتهِ مع النشر. 
متلازمة وألقاب
أما الروائي المصري وليد خيري، وأطلق روايته الأولى “حارس حديقة المحبين” العام الماضي، فقال بدوره: العمل الأول نفثة من روح الكاتب ..هو العمل الذي يريد فيه الكاتب أن يقول كل شيء.. يشبه تجربة الحب الأولى التي تكون فيها مقبلا بكل جوارحك.. وربما ذلك يخسرك الحبيب، وهذا ما يحدث بالضبط مع العمل الأول، فقد يخسر جزءا من فنيته بسبب التدفق الكتابي، لذلك حين نكتب ثانية كما نحب ثانية، فإننا نكون أكثر حرصا ونضجا في الإفصاح عن مكنوناتنا، لكن الكتابة الأولى كما الحب الأول هي الأصدق على الإطلاق، الأدفق، الأدفى، لذلك نال مشاهير الكتاب شهرتهم بسبب أعمالهم الأولى، لدرجة أن بعض الكتاب كان عملهم الأول يصح أن نطلق عليه بيضة الديك، من ينسى “أرخص ليالي” ليوسف إدريس، و”تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم، و”الخبز الحافي” لمحمد شكري. واضاف لـ”أيام الثقافة”: تجربتي مع عملي الأول المجموعة القصصية “تجاوزت المقهى دون أن يراك أحدهم” مميزة، فهو ظل عملي الأول والوحيد مثل ابني مهند، ظلت هذه المتلازمة، الكتاب الواحد والابن الواحد، تطاردني في حياتي طيلة سنوات تسع هي عمر ابني مهند .. كتابي تجاوز المقهى، ولكن أكثر ما يعجبني في هذه المتلازمة، هو أن ابني الوحيد كما منحني بكل فخر لقب أب، فإن كتابي الوحيد منحني بكل فخر لقب كاتب! “وكان هذا المنطق الأرسطي يعجبني ويريح أعصاب الكتابة عندي، فكما أن إنجابي لابني الوحيد منحني لقب أب لا يستطيع أحد أن ينزعه مني فإن مجموعتي القصصية الوحيدة منحتني لقب كاتب، لا يستطيع أحد أن ينتزعه مني .. الجديد في الأمر هو إلحاح الولد والكتاب عليَّ في أن أخاوي كلا منهما، فمهند لا يتوقف عن الإلحاح في طلب أن أنجب له أخاً يلعب معه، وكتابي كلما قلبت في عدد صفحاته القليلة لا يتوقف عن مطالبتي بأخ له في شكل رواية، حتى يستند إليه في أرفف المكتبة، وهذا سبب آخر لهذه المتلازمة، فكتابي الوحيد نحيف مثل ابني الوحيد. وختم خيري: كتابي لا تتعدى صفحاته السبعين صفحة، وابني لا يتجاوز وزنه العشرين كيلو غراماً رغم سنوات عمرهما التسع.. يجيء ذلك في زمن الهوس بالأطفال والروايات “المربربة” .. مؤخراً اكتشفت أن التوقف عن إنتاج الذرية والكتب ليس شراً مطلقاً، من باب لا تحسبوه شراً لكم، لكنه نوع من الاحتشاد.. لكن بين الحين والآخر يراودني شعور كئيب بأني لن أنتج مرة أخرى، وأسائل نفسي بخوف هل اعتزلت الخلفة والكتابة وظللت أسائل نفسي متى هو؟ .. حتى صدر كتابي الثاني رواية “حارس حديقة المحبين”، وكتابي الثالث “السيرة الأبوية”، فسكنت الأسئلة. 
غرائب الإبداعات الروائية الأولى 
– أجاثا كريستي أبرز مؤلفة روايات بوليسية في التاريخ، والتي تجاوزت مبيعات أعمالها المليار نسخة، وترجمت لغالبية لغات العالم، لم يتقبل أي من الناشرين روايتها الأولى “ثلوج في الصحراء”، لكن بالرغم من ذلك استمرت لتكون الأشهر في العالم.
• الكاتب العالمي باولو كويلو صاحب رائعة “الخميائي” لم يلقَ عمله الأول “أرشيف الجحيم” أي نجاح يذكر ولم يترك أي انطباع لدى الجمهور، لكنه استمر ليصل إلى حالة من النجاح غير المسبوق ليؤكد على أن العبرة ليست دائما بالبدايات التي قد يكون هناك ما يبعدها عن دائرة الضوء أو الاهتمام. 
• كافكا بدأ الكتابة في سن الخامسة عشرة، وربما قبل ذلك بقليل، فكتب على سبيل الهواية الكثير من المقاطع النثرية الصغيرة، وشرع في عدة محاولات روائية لم يقرأها غيره، وتخلص منها واصفا إياها بـ”الناقصة”.
• عندما بدأت “جي. كي رولينج” بالكتابة لاقت رفض أكثر من عشرة ناشرين حتى قبلها أحدهم، وأعطاها الضوء الأخضر لتصبح بهذه الشهرة العالمية، عبر سلسلة رواياتها “هاري بوتر”، التي تحولت إلى سلسلة أعمال سينمائية هوليوودية، فتحولت تلك التي كانت تربي طفلتها من القليل الذي يأتي من الضمان الاجتماعي إلى أول شخص في العالم يصبح مليارديراً من الكتابة، هي التي كانت قد كتبت رواية “هاري بوتر” على آلة كاتبة قديمة. 
• توماس هاردي صاحب روايتي “عينان زرقاوان” و”علاجات يائسة”، تأخر في النشرـ بعدما فشل في نشر روايته الأولى “الرجل الفقير والسيدة”. 
• كان ستيفن كينغ في البداية كثير الاحباط من روايته الأولى “كاري” حتى أنه رمى بها في سلة المهملات .. عثرت زوجته على المخطوطة وأخرجتها، ونشرتها .. الآن ومن تسع واربعين رواية له تم بيعها، تجاوزت حاجز الـ ٣٥٠ مليون نسخة.
• عبد الرحمن منيف لم ينشر روايته الأولى “أم النذور” في حياته، ونشرت بعد وفاته. 
_________
*الأيام 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *