في إشبيلية .. أميغو


*طاهر رياض

أطلق عليها الفينيقيون اسم “سبالوس”، وحوّره الرومان ليصبح “هسباليا”، ويسمونها اليوم “سيبيليا”، أما نحن العرب فنعرفها بإشبيلية، المدينة الأندلسية التي بقيت تحت الحكم العربي أزيد من خمسة قرون. كانت العاصمة الأولى للأندلس قبل قرطبة. مدينة الملك الشاعر المعتمد بن عبّاد. المدينة التي نضج فيها فنّ الفلامنكو، بحرارته وشجنه وعنفوانه، منحدراً عن فنّ الغناء المصقول الذي أدخله علي بن نافع المعروف بزرياب. مدينة زئر النساء الأشهر دون خوان وقصصه الماجنة. مدينة “حلاق إشبيلية”، الأوبرا الهزلية الممتعة لروسيني. قرأت كثيراً عنها، وحلمت أكثر بزيارتها. 

في صحبة صديقٍ إسباني سألتُ عن الجمال، فقال لي: الجمال الذي تقصده ويحدّثون عنه تجده في إشبيلية، في إشبيلية أميغو. 
أنا في إشبيلية في نزلٍ عريقٍ بمبناه وأثاثه، بدفئه وحميميته، استقبلتني موظفة الاستقبال مرحبة. قلتُ في نفسي وأنا أنظر إليها: هذا أوّل الغيث. 
أنا في أزقة إشبيلية القديمة؛ لا إحساس بالغربة. هذه دمشق باب توما ودمشق باب شرقي. الأزقة نفسها بتعرجاتها وامتداداتها المتداخلة، النوافذ والمشربيات والأبواب وعتبات البيوت ذاتها. ربّما هي هنا أكثر نظافة وأناقة وعناية، لكنك لن تخطئ العبق الواحد الممتدّ عبر ألف سنة، معششًا في شقوق الجدران، في وجوه المارّة، في حجارة الممرات، في البيوت والقصور والمساجد، أو ما بقي منها. 
بعد تجوال طويل، جرى معظمه في الروح والمشاعر، أصادفني في “ساحة البرتقال”، أمام منارة “الخيرالدا”. ساحة واسعة مزينة بأشجار البرتقال والنارنج، تتوسّطها نافورة ماء حجرية، هي كلّ ما تبقى من صحن مسجد المدينة، الجامع الذي أنشئ في نهايات القرن الثاني عشر للميلاد، من تصميم أحد عباقرة المعماريين في ذلك العصر أحمد بن باسة. أزيل المسجد برمّته، ما عدا مئذنته التي استبدل قسمها الأعلى الذي كان مغطّى بالذهب الخالص، ببرج للنواقيس يسمّى الخيرالدا، أي الدوّارة، نسبة إلى تمثال مؤشر الريح الدوّار في أعلاها. 
كان المساء قد حل صيفياً لطيفاً. أركن إلى طاولة صغيرة في زاوية مطعم مفتوح للفضاء، متأمّلاً جمال هذه المئذنة – المنارة وأناقتها. تأتي النادلة لتلبّي طلبي. ها نحن ذا وصلنا، إذا كان صديقي الفنّان قصد أحداً معينًا لتمثيل الجمال بكامل نقائه وحيويته، فلا شكّ أن صورة هذه الصبية هي ما كانت في ذهنه، بسنوات عمرها التي تعدّت العشرين بقليل، بشعرها الفاحم الغزير الأجعد، بقامتها الرشيقة، بملامح وجهها الأنيسة، وقد أقول الأليفة الواثقة المثيرة، بابتسامة رقيقة غير متكلفة، تشي بروحٍ تسبح في العذوبة، ابتسامة تجعلك تهوي في أخفى أعماقك، متعثراً بأعتى أشواقها. 
لم أنظر في قائمة الطعام والشراب، كنت في حالة انجذاب عجيبة إلى عينيها السوداوين العميقتين: “انصحيني بوجبة ونبيذ على أن يكونا محليين”. 
اتسعت ابتسامتها وازدادت عذوبة، وهي تسجّل في دفترها قائلة: “سأختار طبق ذيل الثور المطهو على الطريقة التقليدية، وزجاجة نبيذ أحمر مما أفضّل، أرجو أن يروقا لك”. 
دقائق وكانت روح النبيذ تنسكب على مهلٍ في كأسي، بيد تلك الفاتنة. رشفةً بعد رشفة، أخذت تستيقظ في روحي ملذّات كنت أحسبها بادت. وعلى مدى ساعة كنتُ خارج الزمان، أو في الأقلّ خارج تصنيفاته وأوقاته. أنا في إشبيلية، في ساحة شهدت قبلي مئات الشعراء والعشاق، أمام الخيرالدا المُنارة بحنان مبهج، تتدلّى حولي وفوقي قناديل البرتقالي، بعبقه، بكبريائه، بألقه الخافت الخجول. 
التاريخ أكذوبة، والجغرافيا احتيال، كنت أهمس لنفسي، المتعة البكر التي لا قبلها متع ولا بعدها، تشهقني الآن، في هذا المطعم البسيط، حيث أتابع بنظري الدائخ حركة هذه الصبية فائقة الجمال والأنوثة، وهي تدور بين الطاولات، كأنها نورٌ حريري، وترمقني، في رواحها ومجيئها، بنظرة متمهلة، مصحوبة بابتسامة غامضة، لم أدر كيف أفسرهما. 
أنهيت وجبتي وطلبت الحساب. وبإنكليزية مقتضبة وشيءٍ من خفرٍ يليق بصباها الفائر سألتني وكأنها تعتذر: “هل أنت عربي؟ “. “عربي؟! لماذا عربي تحديدًا، لعلي أي جنسية أخرى”. “فقط أجبني لو سمحت”. “نعم أنا عربي”. 
قلتها بشيء من ارتياب. وقبل أن أدرك سبب ريبتي، واجهتني بنبرة لا تردّد فيها، وبشيء من حماسة: “أنا عربية، 
جدي الأكبر كان عربياً، جاء من حمص، أتعرف حمص؟ كثير من أهل إشبيلية أصلهم من حمص. لا أعرف أين تقع تحديداً. أعرف أنها في بلاد العرب”. بذهول من سقط بارداً في وعاء ساخن تلقّفت كلماتها. 
في شبه غيبوبة سرت إلى النزل. تداعى إلى ذهني ما كنت قرأته عن تاريخ فتح الأندلس. خرج جند من بقاع الشام كافّة، بمساندة من أهالي شمال أفريقيا، وكان أن جند حمص هم من فتحوا إشبيلية، وأحبوها واستوطنوها لما وجدوا بينها وبين حمص بلاد الشام من شبهٍ في التضاريس والمناخ، حتّى أنها كانت تسمّى حمص الأندلس في أدبياتهم. 
استلقيت على سريري، مشمولاً بنشوة حائرة. كلّ ما شاهدته في ذلك النهار لم يعد غير ظلال وأصداء لبوح تلك الصبية. وأرسلت تحية لصديقي الإسباني: نعم أميغو .. الجمال موجود في إشبيلية، لقد وجدته، وكان حمصياً.
_______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *