انقطاعات الإبداع



*غيث خوري


يرى الكثيرون من الكتاب أن المهمة أو الجزء الأصعب من الكتابة هي البداية. حيث يجهد الكاتب مسترجعاً قراءاته وتفاصيل حياته في سبيل إيجاد الشرارة التي يمكن أن تنطلق بالعمل الإبداعي. عندما سئل إرنست هيمنغواي عن أكثر شيء مرعب واجهه، قال: «ورقة بيضاء فارغة». يعتقد كتاب آخرون أن الأفكار سهلة، إلّا أن العمل الشاق يبدأ مع تنفيذ هذه الأفكار، ونقلها حيز الأدب، فعليك أن تحفر يومياً، وببطء، تعطي شكلاً لأفكارك، محاولاً إيجاد الكلمات الصحيحة، باحثاً عن أنسب العبارات، حتى يتحول كل ذلك إلى شيء حقيقي، ثم يأتي دور الانتظار لتكشف رجع الصدى وأثر ما كتبت، تقول الروائية التشيلية إيزابيل الليندي: «أن تكتب كتاباً، كأن تضع رسالة داخل زجاجة وترميها في المحيط، فأنت لا تعرف ما إذا كانت ستصل إلى أية شواطئ».


إذن، كيف يمكن للكاتب مواجهة الصفحات البيضاء، أو إعادة صياغة وتشكيل أفكاره وتوجيه النتيجة النهائية نحو الشاطئ؟
ينصح إرنست هيمنغواي بأن كل يوم عمل يجب أن ينتهي عندما يعرف الكاتب من أين سيبدأ في اليوم التالي، الأمر الذي يخفف عنه مشقة وعناء مواجهة الصفحة البيضاء. في حوار له مع مجلة «باريس ريفيو» يجيب هيمنغواي عن أسئلة تتعلق بطريقته في العمل والكتابة، وهنا جزء من الحوار:
المحاور: كم مرة تعيد تصحيح ما كتبت؟
هيمنغواي: لا يوجد عدد محدد، لقد أعدت كتابة الصفحة الأخيرة من رواية «وداعاً للسلاح» تسعاً وثلاثين مرة، قبل أن أكون راضياً عنها.
المحاور: هل كان هناك مشاكل تقنية؟ ما الذي جعلك في حيرة؟
هيمنغواي: إيجاد الكلمات المثلى.
المحاور: هل تقترح العنوان خلال كتابة القصة؟
هيمنغواي: لا، فإني أضع قائمة بالعناوين بعد أن أنهي القصة، أحياناً يصل عددها للمئة، ثم أبدأ بالاختيار والحذف، وأحياناً استبعدها كلها.

الكتابة والحياة
في مقالة (تأملات في الكتابة) يستعرض هنري ميللر، العوامل النفسية، والعاطفية، والاجتماعية التي صنعت منه كاتباً فيقول:
«الكتابة كالحياة ذاتها، رحلة استكشاف أشبه بمغامرة ميتافيزيقية، وهي وسيلة تقربك من حقيقة الحياة بشكل غير مباشر، لأخذ نظرة كلية على الحياة بدلاً من النظرة الجزئية. يعيش الكاتب بين عالمين، الواقعي والميتافيزيقي، ويأخذ مساره بينهما ليتحدا أخيراً (هو والمسار) ويصبحا كياناً واحدًا.
انطلاقتي كانت من القاع حيث الفوضى والظلام، في مستنقع من الأفكار والعواطف والتجارب قبل أن أصل إلى ما وصلت إليه، وحتى الآن فأنا لا أعتبر نفسي كاتباً بالطريقة التي يعرف بها الكاتب. أنا مجرد شخص يسرد قصة حياته، وكلما تقدمت في العمر اتضح لي أنها مصدر لا ينضب لسرد القصص، وعرض التجارب، وأنها لا تنتهي كتطور الكون. هي كالسباحة عكس التيار، إنها بالأحرى رحلة في بُعد آخر غير تلك الأبعاد المتعارف عليها. والتي تدرك فيها، وفي إحدى المراحل بأن ما يترتب عليك سرده، وما يتم بالفعل يفقد أهميته مقارنةً بعملية السرد ذاتها. إنها نوع من الفن، الفن الذي يضيف مسحة من الميتافيزيقية لجميع أنواع الفنون، وهي التي تضع الفن في موضع القدسية، بعيدًا عن حدود الزمان والمكان وتدمجه مع الكون نفسه. هذا هو الفن الذي يُعد مذهلاً ومهمًا وشافيًا وخالداً».
وفي وصفه لفشل محاولاته الأولية في الكتابة، يقول ميللر: «فشلي الكبير كان بمثابة عُصارة تجاربي. كان الفشل في حقيقة الأمر عملية صقل محكمة. توجب عليّ أن أحصد المعرفة بكل ما يتبعها من سوء، أن أدرك عبثية كل شيء، وأن أحطم كل شيء، أن أجني اليأس، أن أتذلل، ثم أعود ثانيةً لأنقي نفسي من كل ما هو مقيت، وأن أحتفظ بما تبقى، لأستعيد أصالتي. توجّب علي أن أصل إلى الحافة، وأن أقفز في الظلام نحو المجهول».

جلد الكاتب
ينظر الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، إلى تجاربه الأولى في الكتابة، مستعيداً شريط الذكريات ومحاولاته إيجاد السبل لاختراق عالم الرواية، فيقول:
«عندما أرجع النظر أرى أنه كان طبيعياً تماماً أن أعجز عن إنتاج رواية جيدة. كانت غلطة كبيرة أن يفترض شخص مثلي، لم يكتب من قبل أي شيء على الإطلاق، أنه قادر على الخروج بشيء عبقري على الفور. كنت أحاول تحقيق المحال. فقلت لنفسي، دعك من محاولة كتابة شيء معقد. انسَ كل الأفكار المعقدة عن «الرواية» و«الأدب» واجلس؛ فدوّن مشاعرك وأفكارك حسبما تأتيك، بحرية تامة، وعلى النحو الذي يروق لك.
وفي حين كان من السهل الكلام عن تدوين المشاعر بحرية، لم يكن تنفيذ ذلك بالبساطة نفسها. وكان ذلك شاقاً بصفة خاصة على مبتدئ مثلي. وللبدء من جديد، كأن أول ما ينبغي أن أفعله هو التخلص من الورق وقلم الحبر. فطالما بقيت أمامي، كان ما أفعله يبدو شبيهاً ب «الأدب»».
كما يطرح موراكامي قضية أساسية في حياة كل كاتب، وهي؛ التركيز والصبر على العمل، والتي تعد من أهم المهارات التي يجب أن يتمتع بها أي كاتب، مهما كان مجاله شعراً أم رواية أم كتاباً تقنياً، يقول: «في مراسلاته الخاصة يعترف كاتب القصص البوليسي الكبير ريموند شاندلر، أنه حتى ولو لم يكتب أي شيء، كان يحرص على الجلوس على مكتبه كل يوم في حالة من التركيز. يمكنني أن أفهم السبب وراء هذا الفعل، فبهذه الطريقة استطاع شاندلر أن يمنح نفسه القدرة على التحمل والجلد الذي يحتاجه الكاتب المحترف، وأن يعزز من قوة إرادته، هذا النوع من التدريب اليومي كان أمراً أساسياً ولا غنى عنه بالنسبة له».
ابذل قصارى جهدك
بكلماته الحذقة وخبرته التي لا تنضب، يروي الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي حكمته حول الكتابة: «أعتقد أن الكاتب الجيد ليس بحاجة لإخباره بأي شيء سوى أن يستمر بالكتابة. فقط فكر في العمل الذي وضعته نصب عينيك، وقم به قدر ما تستطيع، وحين تكون قد فعلت كل ما تستطيع حقيقةً، عندها يمكنك أن تظهره للناس. لكنني أجد وبشكل متزايد أن هذا ليس حال الكُتاب الشباب، فهم يضعون المسودة الأولى ويبحثون عمن ينهيها لهم مع نصيحة جيدة. لذا فإني أناور للخروج من هذا الأمر، وأقول لنفسي استمر.
لقد نشأت مدركاً أنه لا يوجد أي شخص يسدي إليّ النصح، وأنه عليك بذل قصار جهدك، وإذا لم يكن ذلك كافياً، فسيأتي يوم وتتصالح مع الأمر».
مهنة الوحدة
خاضت الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي الكثير من التجارب الحياتية التي شكلت جوهر فعلها الإبداعي، فقد ولدْتُ، على حد تعبيرها، في مجتمع متقشّف، اختلطت فيه جينات المهاجرين القشتاليّين والباسكيّين بدماء الهنود القاتمة، وشدّة وعورة سلاسل جبال الأنديز مع عواصف المحيط الهادي، ما منح التشيليين مزاجاً رصيناً وحذراً، لكنّه أحياناً يكون فظّاً وخشنا. تركت وفاة ابنتها باولا أثراً عميقاً في نفسها، وجعلتها تتوقف عن الكتابة فترة طويلة، وفي كلمات الليندي التالية تكمن خلاصة تجربتها في عالم الكتابة:
«مهنتي مهنة صبر وصمت ووحدة، فأحفادي الذين ينظرون إليّ ولساعات لا تنتهي، وأنا أمام الحاسوب يعتقدون أنّني في عقاب. لِم أقوم بذلك؟ لا أدري… إنها وظيفة عضوية مثل النّوم والأمومة. أن أحكي وأحكي… إنّه الشّيء الوحيد الذي أريد القيام به. عليّ أن أُبدع قليلاً، لأنّ الحياة أروع من أي خيال سخيف تفرزه مخيّلتي. في أفضل الحالات، الكتابة تحاول أن تكون صوت من لا صوت له، أو أن تكون صوت الذين تم إسكاتهم، لكن عندما أقوم بذلك، فأنا لا أُمثّل أحداً، ولا أقدّم رسالة، ولا أفسّر أسرار الكون، بكلّ بساطة أحاول أن أحكي أحاديث ذات صبغة خاصّة، سعياً منّي؛ كي لا أنسى المرح والحنان، العنصرين الضّروريين لكي أمنح الحياة للشّخصيات.
الروايات التي أكتبها لا أحملها في ذهني، وإنّما تنمو في أحشائي، ولا أختار مواضيعها، وإنّما هي من تختارني، كلّ عملي يكمن في أن أخصّص الوقت الكافي والهدوء ونظاماً للكتابة، لكي تظهر الشّخصيات بشكل تامّ وتتحدث عن نفسها، فأنا لا أختلقها، إنّها مخلوقات توجد في بُعْد آخر، وتنتظر فقط من يجلبها إلى عالمنا. وبالتالي فأنا لست سوى أداة، كالمذياع مثلاً، فإذا استطعت أن أضبط التردّد بدقّة، فربما ستظهر هذه الشّخصيات وتحكي لي عن حياتها».
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *