*محمد بنيس
1.
الشعر لا ينام. هو في الأعماق القصية لمحيطات الكلام يتموج ليل نهار. هناك، في تلك الأعماق التي لا يراها إلا العاشقون للحرية والإبداع، يحمي المعنى ويمنحه قوة الضوء الذي لا يخبو. كذلك استقبلته اللغات عبر تاريخها، والشعوب في حضاراتها. لا نعرف لغة يغيب عنها الشعر، ولا نعرف شعباً لا يتغنى بالشعر. الشعر سيد اللغة ـ اللغات، يوحِّد بينها ويؤلف، رغم ما تعانيه الشعوب في فترات من آلام القطيعة بينها وبين شعوب أخرى بسبب الحروب والهيمنة والاستعباد. شيء ما يحيا في الشعر ولا يموت. وبه تحيا اللغات ولا تموت. قلْ هو الشعلة التي تتقد بين الكلمات، قلْ هو الماء الذي يتدفق من شفافية الإيقاع وطبقاته المحجوبة، قلْ هو الهواء الذي تتنفّسه الحروف.
كل مرة أقرأ فيها شعراً عظيماً أسأل نفسي: كيف لا أحب الشعر وأرفعه إلى الأعالي، فيما هو بدفقة مقطرة من الأنفاس في الكلمات يؤجج في دواخلي الحيرة ثم الحيرة؟ أحياناً ألاحقه فلا أقبض إلا على الجمر، وأحياناً ألتقيه فلا يبقى مما أقرأ غير الهسيس. أليس المحيّر في الشعر هو ما يقودنا إلى محاولة تحديده بصفات لا حدود لها، ثم في النهاية نصل إلى القول بالعجز عن الوصف، أو العجز عن التعريف، أو العجز عن التلخيص؟
هي تجربة امتدت عبر مراحل الحياة، حياتي. وها أنا دائماً في النقطة نفسها، مع كل شعر أكتشفه وأكتشف لانهائية اللغة فيه ولانهائية الإبداع. كما لو أنني أعاتب نفسي على ما أجرؤ عليه أحياناً من التبرؤ من الشعر، والانسياق وراء أحكام تتداولها وسائل الإعلام عن نهايته، عن لا جدواه والتبرؤ منه. أو يتبادلها المتعجلون، الهاربون من دواخلهم حتى لا يشعروا بضآلتهم في حضرة القصيدة.
2.
من أجمل ما تعلمتُه من الشعر هو ما لا ينتهي فيه. أقصد المدهش، وأقصد المجهول واللانهائي. هذا البعد الخفي، الذي يصدمنا عند قراءة كل قصيدة متفردة، هو وحده الذي يدلنا على الشعر ومعنى الشعر. على الذي نحسه فيه ولا نعرف كيف نسميه، لكنه هو نفسه الذي يدفعنا إلى الانكباب على قراءة معارف متعددة، تجتمع حول الشعر، لتدل القارئ على الجذوة التي لا تهمد فيه.
كنت في البداية أنتقل من القصيدة إلى قراءات نقدية، أدبية، بين قديمة وحديثة، علني أجد فيها ما يفتح لي باباً إضافية من أسرار الشعر المغلقة. قراءة دراسات في مجلات أدبية، ثم في كتب نقدية، أو في مقدمات دواوين وثنايا شروح وتفاسير.
ثم كان لي مع اتساع قراءاتي لقاء مع القراءات الفلسفية للشعر. لا شك أن أهمها في العصر الحديث هي التي كتبها هيدغر، ابتداءً من ثلاثينيات القرن الماضي، وقدمها في شكل محاضرات. قراءاته التي كنت عثرت عليها وأنا شاب لقصائد هلدرلين، كانت صعقة أنْستني ما تعلمتُ من قراءات سابقة عليها، فهو لم يتوقف عن اللقاء بالشعراء والربط بين تأمله الفلسفي وشعرهم. استغرقني هذا الربط، ثم أدركت أنه لم يكن يريد فهم الشعر، بل كان يريد أن يقوّض من خلاله الأنساق الفلسفية، ثم اتسعت تلك القراءات في أعماله العديدة عن شعر ريلكه وتراكل وروني شار وسواهم. لكنها تشعّبت في قراءات فلاسفة آخرين، منهم جاك دريدا، جان لوك نانسي، فيليب لاكو لا بارت. فالقراءة الفلسفية تنزع إلى تحريك قيعان الدلالة اللغوية للكلمات، ومن الكلمات إلى بناء تصورات نظرية ومواقف من الوجود. لهذا كان هيدغر يرى أن الفلسفة تتعلم من الشعر درساً لا تجده في سواه.
3.
سعة القراءة الفلسفية، الهيدغرية، أو التفكيكية، كانت علامة على شساعة العالم الشعري. عالم كان في كل فترة من التاريخ، أو في حضارة من الحضارات، يعثر على صيغة يعبر بها عن المدَى الذي لا ينتهي للشعر في اللغة، في الفنون، وفي المعارف. في الحضارة العربية ما يدل على هذه الشساعة التي لم نضع لها جغرافية بعد. فالقرآن ارتبط بالشعر، رغم موقفه النقدي من الشعر والشعراء. وفي بناء صرح الثقافة العربية كانت العلوم كما كانت الفنون تقترب من الشعر. اللغة، النحو، العروض، البلاغة، النقد، علم الكلام، التاريخ، الفلسفة، الجغرافية، ألف ليلة وليلة، المقامات. باختصار، أغمضْ عينيك وافتحْ أيَّ كتاب فستجد الشعر يستريح على ضفة من ضفاف الكلام.
وكان للفنون مع الشعر ما كان للمعارف معه. أول الفنون الموسيقى. كتاب الأغاني هو الموسوعة الشعرية التي حفظت لنا الذخيرة الغنائية التي استقت من الشعر مادتها. ومن الموسيقى إلى فنون الخط، في أكثر من تقليد ثقافي، عربي، فارسي، تركي، أندلسي، مغربي. ومنهما إلى فنون الزخرفة في العمارة واللباس والأواني. لكأننا لا نكاد ننتهي من مجال حتى يفاجئنا مجال. وهي جميعها تنقل الشعر إلى مرتبة الضوء الذي يخترق الحجب مهما كانت طبيعتها.
يمكننا أن نوسع النظرة ونرى إلى مكانة الشعر في الثقافات الآسيوية، الصينية واليابانية والهندية، وهي أكبر ثقافات آسيا. ما نقوله عن مكانة الشعر في الحضارة العربية هو نفسه الذي نجده لدى هذه الحضارات الباذخة. وفي كل حضارة مستويات من احتضان الشعر. في أنفاس الفرد كما في حياة الجماعة وطقوسها، والشعر في الحضارة اليونانية والرومانية هو نفسه ما عرفته الحضارات الأخرى. أرسطو خصه بكتاب الشعر، الذي لا يزال مرجعاً حتى العصر الحديث في تناول الشعر ودراسته. هذا الكتاب بسطٌ لما كان للشعر الدرامي والشعر الملحمي من مكانة عليا في نفوس اليونان.
4.
حضور الشعر في اللغات والحضارات يغري بالسفر في عوالمه، والانتقال بين أراضيه. عندما نستحضر علاقة الإنسان بالشعر نكاد نشك في كل ما نعرف عنه، لأن هذا الذي نعرف يظل قاصراً، محصوراً في ما نتعلمه في المدرسة أو ما نصادفه في حياتنا اليومية. الشعر أوسع من الشعر وأبعد من الشعر. أوسع لأنه يدخل إلى جميع المعارف والفنون؛ وأبعد لأنه يكثف التجربة الحياتية للإنسان في كلمات معدودات، ذات شحنة عالية من الأحاسيس. هكذا ينفرد الشعر بالقدرة على الجمع في قصيدة واحدة بين الحياة والموت، بين السماء والأرض، بين الحقيقة والخيال، بين الممكن وغير الممكن، بين المعلوم والمجهول، بين النهائي واللانهائي.
هل هناك فتك أكبر من هذا الفتك ؟ وبأي طاقة تقوى على الإمساك به؟
استكشاف هذه القارات الشاسعة للشعر في القديم يصبح أكثر إغراء في العصر الحديث. منذ القرن التاسع عشر في أروبا والولايات المتحدة، أعطى الشعر للغة كما أعطى للتجربة الإنسانية قدرة إضافية على اختراق المستحيل. أعمال فتحت الشعر على بداية تاريخ جديد. إدغار آلن بو، بودلير، رامبو، ملارمي، ت. س. إليوت، إزرا باوند، وليم بوتلر ييتس، عملوا جميعاً، على الانتقال بالشعر إلى تجارب كانت رائدة في إنجاز أعمال روائية ومسرحية، كما كانت وراء حركات تشكيلية وسينمائية ومعمارية، بدلت الرؤية إلى الإنسان والأشياء والكون في آن واحد.
وفطنت حركات التحديث الشعري في العالم العربي إلى ما يلزمها كي تتجاوز عوائقها الداخلية. ورغم الصعوبات التي حدّت من الاندفاعات المنتظرة، فإن الشاعر العربي تبنى تجربة المغامرة ولم يتخلَّ عنها. ذلك ما تحقق في المشرق والمغرب على السواء، عبر فعل له الآن ما يقرب من قرن ونصف القرن. جبران خليل جبران، أبو القاسم الشابي، بدر شاكر السياب، أدونيس، محمود درويش في مقدمة الأسماء التي فاجأ الشعر العربي بها نفسه. فما تحقق للعربية بفضل قصيدتهم لا يزال محجوباً، لأن المعرفة به نادراً ما بنت أرضية نظرية مترسخة في حوار مع الشعريات في العالم. بعكس القصيدة العربية التي قطعت المسافات تلو المسافات في أرض لها ولسواها أرض لا تنحدُّ في المكان أو الزمان.
5.
شكراً للشعر لأنه لا ينام. يطل علينا في لحظات الوحدة والغربة، أو في لحظات النشوة والشطح. هو قريب من الناس جميعاً، صديق لهم جميعاً. يصاحبهم من بعيد. لا يبحث عن استثناء في حياة أصبح من الصعب أن يجد فيها مكاناً يأنس فيه. لا يغضب من جفائنا، لأنه يعلم أننا سنعود ذات يوم إليه، في لحظة لن يسرقَ مكانه أيُّ كلام. يظل ينصت في أرضه إلى رنين أنفاسنا، يمد يداً لتائهٍ من بيننا افتقد الطريق، يوشوش في صدره بكلمات لا تشبه الكلمات. نشيد يترقرق في الصدر. والرياح تتقدم الخطوات.
وكيف لي ألا أحيي الشعراء في هذا اليوم، وفي كل يوم؟ الشعراء أبناء عائلة واحدة. بودي لو أجلس قريباً منهم، في مجلس لا تسعه سوى الصدور. شعراء من عصور ولغات. جميعهم أجدادي وإخوتي. كانوا لي بقدر ما كانوا لكل إنسان. وهم اليوم على الطرق الألف لمقاومة زمن يتنكّر للشعر. أكاد ألتقي بواحد منهم أو أكثر في كل يوم. أفتح ديواناً وأقرأ. كنْ لي أيها الشاعر صديقاً، بللْ جبهتي بصفاء كلماتك، واقبلْ بصمتي في مجلسك. كنتُ لك الوفيَّ وعلى ذلك أريدُ أن أكون، تائهاً، لا قرار لي ولا مكان.
6.
كأن الشعر من هنا يبدأ. تكاد تنبئي نفسي، في ليلة حدودها الصمت. أتفرس في تقاطعات حياة عشتها، وكان الشعر اسمها السابق على جميع الأسماء. وأنا اليوم، حينما ألتفت إلى ما يحيط بي أجدّد شكري للنشيد الذي أخذني إلى حيث لا أدري، وإلى حيث لا أريد لأحدٍ أن يدري. بيني وبينه عقد لا إلزام فيه غير الحرية. تلك هي الوديعة التي أتبادل وإياها الحوار كلما استبد المغلق بزمن ليس زمني.
الشعر والحرية جناحان مشعان في حياتي. كذلك تبعت الشعر في شعاب الدهشة ومهاوي النشوة. تبعته بأنفاس متهدجة. لا أنتَ ولا أنا. فقط هذا الرحيل الذي يبدأ دائماً، حتى لا كلام إلا نفحة الشكر التي أجدد في هذا اليوم، وفي كل يوم: شكراً للشعر.
كيف لا أحبّ الشعر؟
كل مرة أقرأ فيها شعراً عظيماً أسأل نفسي: كيف لا أحب الشعر وأرفعه إلى الأعالي، فيما هو بدفقة مقطرة من الأنفاس في الكلمات يؤجج في دواخلي الحيرة ثم الحيرة؟ أحياناً ألاحقه فلا أقبض إلا على الجمر، وأحياناً ألتقيه فلا يبقى مما أقرأ غير الهسيس. أليس المحيّر في الشعر هو ما يقودنا إلى محاولة تحديده بصفات لا حدود لها، ثم في النهاية نصل إلى القول بالعجز عن الوصف، أو العجز عن التعريف، أو العجز عن التلخيص؟
غريبان
يرنو إلى أعلى
فيبصر نجمةً
ترنو إليه!
يرنو إلى الوادي
فيبصر قبرهُ
يرنو إليه
يرنو إلى امرأةٍ،
تعذّبه وتعجبه
ولا ترنو إليه
يرنو إلى مرآته
فيرى غريباً مثله
يرنو إليه!
محمود درويش
________
*الاتحاد الثقافي