*حبيب سروري
خلق الإنسانُ الكمبيوترَ على شاكلته، بِبُنية دماغِه، وأرادهُ منذ بداية البدايات أن يكون جهازاً ذكيّاً يستطيع أن يتعلّم لوحده، يستنتج لوحده، ينتصر في الألعاب ويصنع النظريات لوحده…
مثل كلِّ أبٍ عاشقٍ لابنه، أراده أن يكون يوماً أذكى وأقدر منه!
ففي عام 1956، والكمبيوتر طفلٌ رضيع، اجتمع علماء الذكاء الاصطناعي (ذكاء الكمبيوتر) في MIT وقرّروا أن يكون للكمبيوتر بعد أقل من نصف قرنٍ (في عام 2000) ذكاء يتجاوز ذكاء الإنسان!
قرارٌ لا يخلو من الطوباوية: يصعبُ مقاربة دماغٍ تشكّل خلال ملايين السنين من التطور والانتقاء، فما بالكم بتجاوزه في نصف قَرن!
بدأت بعدها بين ذكاء الإنسان والذكاء الاصطناعي حربٌ غرامية شعواء بين عاشقين حميمين.
كل قلاع الأوّل تتساقط قلعةً إثر قلعة، لصالح الثاني.
من ينسى أحزان كازباروف، قبل حوالي عقدين من اليوم، في 1997 تحديداً، بعد أن هزمه برنامج IBM: ديب بلو؟
قبلها كانت مباريات العالَم في الشطرنج تمثِّل لحظات الذكاء المطلق. يتابعها الإنسان بخشوع، ويعتبر أبطالها من فيشر إلى كاربوف وكازباروف أيقونات الذكاء البشري!
بعد 10 سنين فقط من انتصار ديب بلو، لم يعد كازباروف وأمثاله قادرين على مواجهة برنامج شطرنج مجاني على أي كمبيوتر منزلي!
صارت المباراة بين بطلي العالم البشري والكمبيوتري، أشبه بمباراة بين بطل العالم في الملاكمة بوزن الريشة، وبطل العالم بالوزن الثقيل.
السبب: دماغ الكمبيوتر يتطوّر بسرعة العِلم، أي بسرعة الضوء. يكتسح كلّ المسافات.
ما هي موازين القوى في هذا الصراع الأصم بين الأب والابن؟
الدماغ البشري (الأب) والكمبيوتر (الابن) ماكِنتان لهما بنيتان متشابهتان.
الملَكة الأولى: الذاكرة أصغر عند الأب من الابن بكثير، لا سيما إذا كان الأخير بحجم كمبيوتر عملاق.
الثانية: سرعة إجراء العمليات الأولية أكبر عند الأب بكثير من سرعة حسابات كمبيوترٍ شخصيٍّ منزلي، لكنها أقلّ بكثير من كمبيوتر عملاق تتراص فيه فيالق من “وحدات المعالجات المركزية” (بروسيسور)، أو من شبكة هائلةٍ من الكمبيوترات التي تعمل معاً ككمبيوتر واحد.
غير أن قوّة الأب وجبروته اليوم تكمن في الملَكة الثالثة: خوارزميات (طرائق عمل آلية) شبكات عصبونات دماغه التي تشكّلت خلال 7 ملايين سنة من التطوّر البيولوجي للإنسان، ويجهل العلم حتى الآن معظم أسرار عملها.
لزم أن ينتصر الابن على الأب، في البدء، بفضل الملَكتين الأولى والثانية فقط، وبفضل ما يتيسّر له من كشف أسرار الثالثة التي تتجلّى له يوماً بعد يوم.
ففي لعبة “الأواليه” الأفريقية مثلاً (12 ثقباً على وعاء مستطيل، و48 حصاة) انتصر الكمبيوتر على الإنسان بفضل ملَكتيه السابقتين فقط: فلقد برمج وحسَبَ خلال 51 ساعة “شجرة كل النقلات” الممكنة بين أي لاعبين في هذه اللعبة، واحتفظ بها في ذاكرته.
تحتوي هذه الشجرة الضخمة على كل الافتتاحيات الممكنة، وكل الردود الممكنة على كل افتتاحية، وكل الردود الممكنة على كل رد، وهكذا دواليك.
وعندما لعب الكمبيوتر، بعد تشييد تلك الشجرة العملاقة والاحتفاظ بها في ذاكرته اللانهائية، مع بطل العالَم في الأواليه، كان يرد على نقلاته عابراً فرعاً من تلك الشجرة يقوده إلى النصر أو التعادل في أسوأ الاحتمالات.
اختلف الأمر مع الشطرنج:
لم يكن ممكناً حساب شجرة كل النقلات الممكنة في الشطرنج لضخامتها: تحتاج لأبديّةٍ وعددٍ لا نهائيٍّ من الكمبيوترات لحسابها. إذ إن عدد النقلات الممكنة في الشجرة يفوق عدد ذرات الكون: أكثر من 120 صفرا على يمين الواحد!
لجأ الكمبيوتر إلى استخدام استراتيجيات تسمح له باختيار فروعٍ مهمّة فقط من تلك الشجرة، في ضوء مجموع النقلات الممكنة لهذه القطعة الشطرنجية المهمة أو تلك، ومحاولة استشراف سلسلة النقلات والنقلات المضادة مسبقاً انطلاقاً من كل نقلة، بعد التوغّل في أعماق تلك الفروع المهمّة مسافات تتجاوز مقدرة دماغ الإنسان الاستشرافية.
انتصر الذكاء الاصطناعي هكذا بفضل ملَكتيه الأولى والثانية، وبفضل بعض الاستراتيجيات الذكية.
بقيت أمامه لعبةٌ واحدة أجّل الخوض فيها للعقود القادمة نظراً لصعوبتها وأهميتها: لعبة “الغو” حيث تمثل شجرة أوضاع الشطرنج بالنسبة لها قطرة في محيط.
إذ تفوّق حجمُ شجرة كل النقلات الممكنة في “الغو” حجمَ شجرة نقلات الشطرنج الممكنة بواحد وعلى يمينه خمسون صفراً من المرّات!
ثمّ ها هو، في منتصف مارس/ آذار 2016، ينتصر على الكوري لي سيدول، بطل العالم في “الغو”، بشكل مفاجئ لكلِّ التوقعات، فاتحاً صفحة جديدة من تاريخ الصراع بين الذكاء الإنساني وذكاء الكمبيوتر، ليس فقط لأن لعبة الغو آخر القلاع التي لم تكن مبرمجةً للسقوط قبل زمن من الآن، لكن لأن انتصاره هذا “نوعيٌّ” جدا: مارس فعلاً للوصول إليه ملَكات الإنسان نفسه: “التعلُّم العميق” التي سنعود لها في مقال قادم.
ماذا تبقّى للإنسان؟ أن يمارس لعبة كرة القدم وينام؟!
حتّى هذه المباريات لن يتركها الكمبيوتر للإنسان مستقبلاً.
ففي بعض المؤتمرات العلمية تدور مسابقات سنوية في كرة القدم بين فرق الروبوتات الذكية التابعة للمختبرات العلمية الدولية! لعل مصير كبار لاعبي كرة القدم مستقبلاً سيشبه مصير كازباروف وهو ينهزم من برنامج مجاني في كمبيوتر منزلي!
هل يعني كل هذا أن ذكاء الكمبيوتر تجاوز ذكاء الإنسان اليوم في كلِّ المجالات؟
كلا، لم نصل بعد في هذه اللحظة التاريخية التي هرمنا في انتظارها، والممكنة جداً ذات يومٍ قد يكون أقرب ممّا نتصوّره!
ربما تجاوز الكمبيوترُ الإنسانَ اليوم في “الذكاء الموجّه”، القادر على أداء هذه المهمة النبيلة أو تلك: مباراة ألعاب تقليدية، قيادة سيارة بدون سائق، تشخيص أمراض وعطل آلات، أداء مهامٍ منزليّة أو عمليات جراحية معقّدة… أو غير النبيلة كالروبوتات القاتلة التي انتفض شومسكي وبيل غيتس وستيفان هوينغ في بيان وقّعه كثيرون أيضاً لمنع إنتاجها.
أمّا في “الذكاء غير الموجّه”، فما زال الذكاء الاصطناعي في بدايات جنينية بالمقارنة بالإنسان. أقصد بالذكاء غير الموجه ذاك الذي يكتشف به الروبوتُ الكمبيوتري محيطَه الجغرافي والاجتماعي، ويتعلّم كل شيء لوحده دون تدخلٍ مسبقٍ من الإنسان.
باستعارةٍ موجزة، في مسابقةٍ لاحتلال جبلٍ مجهولٍ ما، يستطيع الذكاء الاصطناعي حالياً أن يوجّه مقدراته ويطير للوصول إلى قمة الجبل ويحتلّه أسرع من الإنسان، لكن الإنسان وحده يستطيع احتلال الجبل حجرةً حجرة، والتنقّل في سفوحه وكهوفه وأدغاله قبل الوصول ببطءٍ إلى القمة.
لذلك، ما زلنا بعيدِين عن العصر الذي ينزل فيه الروبوت إلى الشارع لِيكتشف العالم لوحده، يتعلّم من كل ما يراه، ويكتب روايةً أدبيّة من عمق أعماق تجاربهِ ومخيّلته الشخصية!
لا أدري متى سيكتب الروبوت روايتَه الأولى هذه، ومتى سيبدأ عصر جوائز البوكر التي لا تُعطى إلا للروبوتات الأدبية، لأن ملَكات الخيال الإنساني بالنسبة لها بمثابة ملكات كازباروف العجوز المندحر أمام برنامج كمبيوتر منزلي.
في 2045؟ في 2127؟…
كل ما أعرفه هو أن العِلم يتقدم بسرعة الضوء، بدون ضجيج، وأننا نقترب فعلاً من عصرٍ القابضُ فيه على جهله كالقابض على جمرة!.
________
*العربي الجديد