*عصام شرتح
خاص ( ثقافات )
لا شك في أن للرؤيا الشعرية قيمتها المثلى في الكشف عن الرؤى الفاعلة التي ترتكز عليها مجموعة ( أولئك أصحابي ) لحميد سعيد من كثافة المنظورات والمحركات الشعرية،وهي ترتكز أساساً على الواقع الفني الرؤيوي الجديد الذي تدخل فيه الشخصيات الروائية في النسق الشعري، ولذلك لاترتقي الرؤيا الشعرية في (أولئك أصحابي) إلا بمنجزات الحركة الجمالية التي تدخل فيها الشخصية الروائية بحدث جديد ورؤية جديدة،وهذا ما اشتغلت عليه قصائد المجموعة في تحقيق منجزها الإبداعي. وهذا ما سندلل عليه من خلال سلسلة القصائد المدروسة التالية:
أولاً- البعد الرؤيوي لقصيدة(لم تشرق الشمس ثانية):
تحكي هذه القصيدة أجواء المغتربين الذين أبعدتهم الحروب عن بلادهم إلى بلدان أخرى بعد الحرب العالمية الأولى؛ وهي تخلق جوها القصصي والفني من خلال الصراع بين جاك وكون على امرأة واحدة لعوب تدعى (بريت)؛ إذ إن (بريت ) امرأة متحررة طُلِقَت مرتين؛ وهي ما تزال متعطشة للرجال -إلى حد بعيد- لدرجة أنها كانت تقيم علاقة عاطفية مع كل رجل تشاهده، أو تعرفه؛ وقد اكتشف جون أنها كانت على علاقة عاطفية ب(كون) في باريس قبل أن يذهبوا برحلة إلى مدريد لحضور صراع الثيران؛ وقد أكلت قلبه نيران الغيرة ليتشاجر كل من كون مع جاك مع مصارع الثيران على بريت، تنتهي أحداث القصة ؛ ويتفرق كل واحد عن الآخر، وتبقى بريت تتلاعب بمشاعر (جون)، و(كون)، ومصارع الثيران لتبقى على علاقة بهم جميعاً ؛ يعودون إلى بلادهم، وتبقى بريت رمزاً للمرأة المتحررة اللعوب التي جسدت ذروة الحدث الدرامي في الرواية والقصيدة معاً ؛ ولعل ولع الشاعر بهذه القصيدة دليل أنها تذكره برحلاته الماضية إلى إسبانيا، وأثر تلك الرحلات على فضاءات قصائده، و مداليلها الشعرية.
ولعل أبرز البنى والمؤثرات التقنية التي تحكم سيرورة هذه القصيدة ما يلي:
1- ترسيم الأحداث، والمشاهد، والرؤى، والمواقف المحتدمة:
إن أبرز ما تحفل به القصيدة -على المستوى الرؤيوي- بلاغة الرؤيا التي تثيرها المشاهد، والأحداث، والرؤى، والمواقف المحتدمة من خلال الجو الاصطراعي التوتري؛ الذي تثيره شخصية بريت من احتدام، وفق ما يلي:
“غيرُ بعيدً عن توليدو
كان الصيفُ القشتاليُّ يلمُّ بقاياهُ
ويدعونا لنرافِقهُ
. . . . . .
. . . . . .
في النزل الريفيِّ تعارفنا
رسامٌ بوليفيٌ ومصارعُ ثيرانٍ معتزلٌ..
وأنا وامرأةٌ سمراءْ
تقولُ..
رأيتكَ من قبلُ بمقهى في الدار البيضاءْ
وتُشيرُ إلى طاولَةٍ في أقصى الصالةِ..
كان هنا يجلسُ همنغواي.. ليكتبَ في كلِّ مساءْ
صفحاتٍ..”(1).
إن أبرز ما يثير القارئ إلى شعرية القصيدة، تكثيف الرؤى والأحداث والمنظورات الرؤيوية الخلاقة، فصراع الأحداث،واصطراعها وتوترها هو ما يحقق أعلى درجات الشعرية،بالإضافة إلى رؤى عميقة؛ تثيرها بالمنظورات الرؤيوية الخلاقة؛ومن هذا المنطلق، تعزز شعرية القصيدة الأحداث والمتخيلات الشعرية المبدعة، وهذا ما يضمن حراكها الرؤيوي،وتكثيفها الشعوري.على شاكلة المقطع التالي:
“تَتَشَكَّلُ فيها قاراتٌ.. يتخيَّلها
مدنٌ صاخبةٌ .. حاناتٌ وفنادقُ..
أنهارٌ.. غاباتٌ وجبالٌ وموانئُ..
بحارّونَ .. نساءْ
ذاتَ ضحىً.. يستقبلنا بدرو روميرو.. فتحدَّثْنا عن بدرو روميرو
فيقول..
مَنْ هو هذا لا أعرفُهُ
وتحدَّثنا عن همنغواي..
فقالَ..
هذا الأمريكيُّ المتَطَفِّلُ.. “(2).
إن القارئ للنص الشعري سرعان ما يلحظ وعي الشاعر بتفعيل الأحداث،والرؤى الجزئية، والنص الشعري الفاعل هو الذي يتحرك برؤاه، ومؤثراته الاغترابية،ومن هنا، بدا الشاعر متحركاً في تكثيف الأحداث،واعتصار مداليلها، فالشاعر حميد سعيد يحرك شخصياته، برؤى الشاعر الاغترابية،ولهذا، تحتفي شخصياته بالقوة الدلالية، وتعدد الأدوار،وهذا ما يكسبها قوة في تكثيف الرؤى الفاعلة في الدلالة على الاغتراب، والدقة في ربط الأحداث،وهذا يزيد من شعرية الحدث المتعلق بالشخصية ،كما في قوله:
. . . . . .
. . . . . .
كُنتُ قريباً منهُ.. فيسألُني
هلْ صَدَّقت الأمريكيَّ المتَطَفِّلَ .. في ما قالَ؟
أحقاً.. تعنيكَ مصارعةَ الثيران؟!
وتلكَ المُدمنةُ العجفاءْ
يتقاسمُها في الليلِ سكارى فقراءْ
فيجعلُ منها امرأةً..
تتهادى بينَ رجالٍ ورجالٍ .. في خُيَلاءْ
. . . . . .
. . . . . .”(3).
إن القارئ ،هنا، أمام سلسلة رؤى تطرحها القصيدة مشتقة من الطقس الرؤيوي للرواية ذاتها؛ وكأن القارئ أمام حيثيات الرواية يتحدث الروائي عن الصراع الوجودي المحتدم في بعض جوانب الحياة،وهي الصراع من أجل الظفر بالأنثى اللعوب، أو الأنثى الجذابة،التي يتقاتل عليها الجميع ليظفروا بليلة مصطهجة مع جسدها الفتان المغري؛وهنا،ينقل الشاعر هذه الصورة من الحدث الروائي إلى حياة شخصياته الروائية،واصطراع الأبطال على حلبة صراع الثيران ؛ كلهم يمني النفس بصحبة امرأة جميلة لعوب تدعى (بريت)؛ وهذه المرأة تتجاذبها نظرات الجميع ؛ نظراً لأنوثتها المفرطة؛ ومشيتها المختالة أمامهم بخيلاء، وكبر، وجاذبية، وأنوثة،وجمال؛ وهو يصف الجو الإسباني؛ والطقوس الإسبانية؛ ومما لا يدع مجالاً للشك احتفاء الشاعر برسم الأجواء،والمشاهد، والطبيعة الإسبانية، وما فيها من مشاهد، وأحداث مقتطعة من رحلاته إلى إسبانيا؛ وليس طقس الرواية فحسب؛ وهذا ما جعل رسمه للمشاهد بتفصيل، وإمتاع ملحوظ؛ وهو ما يحسب للشاعر، في رسم أجواء الغيرة، والاحتدام الدائر، والمنافسة على معاشرة(بريت)؛ والاستمتاع معها؛ بليلة حميمة على فراش أنوثتها البضة،وينوعها الخصب الجميل؛ سواء من قبل عشيقها الأول (الرسام البوليفي مصارع ثيران معتزل )أم من( كون) ؛ أم (جون ) أم (رومترو)؛ وهذا ما تظهره الأحداث المحتدمة التالية:
إنَّ امرأةً أُخرى..
تظهرُ لي بين ذؤابةِ سيفٍ مسلولْ
وضَراعةِ ثورٍ مخذولْ
ترقصُ في غابات النارْ
فيجثو.. كبناءٍ ينهارْ
كنتُ أراها مُفردَةً في الجمعِ..
تُناديني
وكما النجمةُ تصعدُ من خلف الأسوارِ..
تُحَييّني”(4).
إن هذه القوة في الكشف عن حدة الصراع من خلال تحريك الشخصية من الداخل ،تدلل على براعة رصد المشهد وتكثيف الأحداث وإثارة حراكها الجمالي ضمن النسق،كما في قوله:
فإذا انفضَّ المُحتفلونْ
أَفَلَتْ..
وأنا مُذْ غادرتُ الميدانْ
أَبحثُ عنها في كلِّ مكانْ
هلْ كنتُ أراها؟!
أمْ كانتْ روحاً تحميني..
من خطرٍ يتراءى لي.. أتفاداهُ
وتدفعُ عنّي الموتَ.. وكنتُ أراهُ”(5)
إن القارئ يلحظ حالة الاحتدام الماثلة على حلبة الصراع الروائي،كما واقع الحياة، لينقل لنا حالة صراع الثيران إلى مشهد صراع العشاق على المرأة اللعوب (بريت) على أرض الواقع- تلك المرأة التي لعبت بعقولهم جميعاً وانتصرت عليهم ؛ وأخذت ما تتمناه منهم جميعاً بدهاء المكر والخديعة في حين بقوا هم ما يزالون في حلبة الصراع إلى مالا نهاية؛ وكأن حالة الصراع انتقلت من الثيران إلى النفوس العاشقة المتمردة معلنة صوت الأنا المحموم والشهوة العارمة ؛كل واحد منهم يريد معاشرتها؛ وكأنها الصوت الشبقي الخفي في نفوسهم، ودفعهم إلى حلبة الصراع ومعمعتها اللامتناهية واللامضمونة النتائج .وهذا يدلنا أن القصيدة تحاول أن تكرس نظرة الاحتدام بين النفوس البشرية للظفر بالأنثى، وهي كانت، وما تزال رمز الصراع بين الرجال إلى قيام الساعة ؛ ولهذا، يقال عن الجمال الساحر (الجمال الفتان) ؛ لأنه مصدر الفتنة والصراع بين النفوس البشرية، للنيل من عبير هذا الجمال، وعبقه الذي يدفع النفوس إلى التناحر والتنافس للنيل منه.
2- السرد الوصفي/ و تكثيف الأحداث:
إن أكثر التقنيات المعتمدة في القصيدة تكديس الأحداث والمشاهد والرؤى الملتقطة؛ خاصة بتراكم عدد من الرؤى والدلالات المكثفة التي تدل على نقل هذا الصراع من حلبة الثيران إلى النفوس البشرية؛ وكأن اصطراع الثور انقلب إلى صراع العشاق؛ وهذا ما أكسب القصيدة مشاهدها المحتدمة والمتداخلة والمتصارعة في نسق سردي يفيض بالرؤى، والمواقف، والمنظورات المحتدة؛ وهذا، بالتأكيد، دليل تكثيف لغة السرد وتنامي حدتها وأثرها في النسق الشعري الذي تدخله، وهذا ما نلحظه في قوله:
يقولُ الرسامُ البوليفيُّ..
وكنتَ محاطاً بالرسامينَ وبالشعراءْ؟
فيصمتُ.. ثمَّ يقولُ..
لا أَتذكَّرُ إنّي كنتُ محاطاً بالرسامين وبالشعراءْ
أنا رجلٌ.. أعرفُ كيف أربي الثيرانَ..
وأعرفُ كيفَ أقاتلها
فيقول الرسام البوليفيُّ.. تربّي الثيرانَ وتَقتلُها
أقتُلها..
أقتُلُها..
إنْ لم أقتلها تقتلني .. أو يقتُلُها غيري،
أوْ يقتلها القصّابُ .. لتأكلها
. . . . . .
. . . . . .”(6).
إن اعتماد السرد القصصي دفع الشاعر إلى تكثيف القص أو السرد المروي رغبة في رصد الأحداث التي مرت بها شخصية بريت ؛ وكيف يتحدث عن علاقاته الاجتماعية، وما حدث من مشاهدات ورؤى ذاتية في تربية الثيران وقتلها؛ وكأنه يتحدث على لسان المصارع في مغامرته مع الثيران والمرأة الجميلة التي كانت تشده من بين الجموع (بريت)؛ وهو يتحدث بلسان الشخص المروي وكأنه يتحدث عن سيرة ذاتية؛ ومشاهدته للمرأة الجميلة(بريت)؛وهذا ما أشار إليه في قوله:
“في الليلِ نرى امرأةً.. ولّتْ شمسُ أنوثتها..
في بار النزل الريفيِّ..
وحدَّثنا النادلُ عنها.. إذْ تأتي حين يحلُّ الصيفُ
وتسألُ عن رجلٍ كان هنا..
تحكي عنه إذا سكرتْ
فإذا قيلَ لها لنْ يأتي.. امتعضتْ
تُخرجُ من طيّاتِ حقيبتها.. صوراً وقصاصات من صحف الأمسِ..
تُحَدِّثُ مَنْ فيها..
أتكونُ المرأةُ تبحثُ عما كنّا نبحثُ عنهُ ..
. . . . . .
. . . . . .”(7).
إن القارئ يعكس من خلال السرد القصصي حال بريت بعدما مضت بها السنون؛ وآلت لحظاتها السعيدة إلى غير رجعة؛ وكأن الشاعر أراد أن يكشف معاناتها بدقة متناهية راصداً الكثير من الرؤى الاغترابية الجريحة بعدما طوت جمالها السنون ؛ وأخذت تعيش على الذكرى تخرج قصاصات الورق من حقيبتها وتبكي على زمنها الماضي ؛ والجامع بين الشاعر وشخصيته الروائية(بريت) أنه يحاور زمنه العراقي الجميل كما تبكي شخصيته زمنها القديم؛ وماضيها الخصب الجميل.
“تُغَنّي السيِّدةُ السمراءْ
كانَ هنا بدرو روميرو.. ومضى يبحثُ عمّن كانَ يُحبُّ
سيأتي يوماً ليرى ” باريت”
تصحو المراةُ..
وتقولُ.. أنا باريت.. أنا باريتْ
سيأتي من أجلي وأنا مَن كان يُحبْ
تتوارى الشمسُ بعيداً .. وتضيء أعالي الأشجارْ
تعمُّ العتمةُ..
في ما يهرع من كان هناك.. إلى الحاناتْ
نواصلُ سهرتنا..
وتشاركنا في الليل الأحلامْ”(8).
إن القارئ سرعان ما يدرك الرؤية التفاؤلية التي أثارت الشاعر؛ وعبرت عن إحساسه المتناهي أن يبقي شخصيته متفائلة والأمل بالعودة إلى الزمن القديم وارداً؛ ومن هذا المنظور؛ عمق الشاعر الرؤية التفاؤلية؛ وعزز مدلولها في خاتمة القصيدة. وهذا يعني أن القوة الدلالية المحرضة هي التي تحرك الدلالات، وتثير الرؤية الشعرية التفاؤلية من الأعماق، وهذا يدلل على أن شعرية الرؤيا هي من مؤثرات الإثارة الشعرية.
بلاغة الرؤية الشعرية/ أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن الشاعر أراد أن يقول كلمته الأخيرة وهي أنه سيعود إلى عراقه الحبيب وزمنه القديم مهما طالت الأيام وتوالت السنون ؛ فكما عادت سنوات (باريت) وزمنها القديم وذكرياتها المشرقة؛ ستعود أيامه العراقية كما كانت ؛ وستعود لحظاتها المشرقة؛ وهذا دليل رؤيته التفاؤلية التي لا نعدمها إلا في القليل من القصائد. وليس ذلك فحسب؛ بل يجعل النهاية موازية للبدايات شعرياً ورؤيوياً بحس شعوري مفعم بالإيحاء والشعرية.
وصفوة القول: إن الحراك الرؤيوي التي تطرحها القصيدة تثير القارئ،وتحركها على المستويات كلها،وهذا ما يضمن شعريتها،ويحقق لها أعلى درجات الشعرية في حوار الشخصيات، وتكثيف رؤاها، وتخليق أدوارها المناسبة فيرصد الأحداث وصوغ المواقف برؤى جذابة وشعرية خلاقة.
ثانياً- البعد الرؤيوي لقصيدة (ثمَّ وجدَ الكولونيل من يُكاتبه):
إن أبرز ما يميز هذه القصيدة أن الشاعر يتدخل في المحاورة التي تبثها القصيدة ليكاتب الكولونيل بعدما تعطل بريده بانتظار راتبه التقاعدي الذي لم يصله ؛ وإن هناك مزاوجة بين أجواء القصيدة وأحداث الرواية الحقيقية التي تدور حول الكولونيل وهو رجل محارب في صفوف الجيش، ولما أُحِيل للتقاعد ظل ينتظر راتبه التقاعدي؛ وكلما راجع موظفي البريد ليسال عن وصول طرده البريدي؛ يخبرونه بعدم وصوله؛ ظل خمسةَ عشرَ عاماً ينتظر ولم يصله راتبه التقاعدي ؛ فلم يبقّ له إلا ديك ورثه عن ابنه ظل يطعمه لينافس به ديوك أهل القرية ؛ فإذا ما فاز في المنافسة يحصل على جائزة تعينه هو وزوجته المريضة التي هي وهو بأمس الحاجة إلى مساعدة ؛ الرواية تدل على الناس البسطاء في واقعهم ومعاشهم وحيواتهم الفقيرة السهلة؛ لقد اقتنص الشاعر الطقوس والأجواء والشخصية ليكاتب الكولونيل؛ برؤى تدلل على حساسية شعرية ورؤية عميقة؛ ولعل أبرز المحاور الرؤيوية التي تبثها القصيدة تتمحور في المحاور التالية:
1- بلاغة السرد الوصفي/ ودلالات الفقد والغياب:
تعد تقنية” السرد الوصفي” من أبرز التقنيات المؤثرة في تحفيز القصيدة، وتعزيز مدها الرؤيوي؛ خاصة في تتبع المجريات والمشاهد والرؤى التي تطرحها القصيدة؛ ولا شك في أن الشاعر افتتح هذه القصيدة برشاقة سردية تدخلنا في أجواء الرؤية الشعرية بإثارة ورشاقة أكثر من طقس الرواية ذاتها؛ وفيها يقول:
“بعد َ كلِّ الذي اقترفَتْهُ العناكِبُ..
إذْ لاحقَتنا إلى النومِ
ها أنذا التقي الكولونيل .. بعد غيابٍ طويلْ
أرى فيه..ما لمْ أَكُنْ قد رأيتُ من قبلُ..
هذا العزوفُ عن البحرِ..
لا الذكرياتُ التي ظلَّ يفتحُ فيها نوافذَ..
يدخلُ منها الذي كانَ.. يوقظهُ حين يغفو
ولا أحدٌ من سعاة البريد يعرفُهُ..
إذْ تلاشى النظامُ البريديُّ..
مُذْ صار لا يتذكّرُ أنَّ له مَنْ يُكاتبُهُ”(9).
إن الشاعر وضعنا منذ البدء في أحداث الرواية في مشهد شعري يائس يدل على إحساس الكولونيل بانقطاع حبل الأمل بعدما لم يجد من يكاتبه؛ وهو مازال منتظراً قدوم ساعي البريد؛ ولعل أبرز ما يثير الحساسية الشعرية هذه الرشاقة التصويرية في تصوير المشهد التصويري اليائس؛ الذي يبين حالة الفقد والوحشة التي يعانيها الكولونيل بعدما تعطل بريده وتلاشى خيط الأمل الذي كان يعقد عليه حبل النجاة من حالة الفقر المدقعة التي هو عليها.
وبهذه الحساسية الرؤيوية والإحساس الشعوري المفعم بهذه الشخصية يتابع إيقاعه السردي وتفاعله مع هذه الشخصية؛ليرصد واقعه وواقعها بإحساس اغترابي فيه من الحرقة، والوجاعة، والشجن الروحي الشيء الكثير، كما في قوله:
“كُنتُ بعدَ الغيابِ الطويلِ
أَسكُنُ ذاكرتي.. وأراها بلاداً
وأبحثُ فيها عن الأصدقاء الذين توزَّعَهمْ.. كوكبٌ خشنٌ..
عناوينهم .. ومصائرهمْ
وكتبتُ إليه.. مثنىً .. وكرّرتُ..
ما جاءني منهُ ردٌ
تخيَّلتُهُ بانتظاري..
وكُنتُ سأسألُهُ عن بلادٍ جَفَتهُ
فبادرني بالسؤالِ
أأنت الذي لم يجد في البلاد.. بلاداً..
ففارقها؟
قُلتُ .. لا
لمْ أُفارقْ .. فقد سكَنَتْني بلادي
. . . . . .
. . . . . .”(10).
إن الشاعر بمفاعلة شعورية وإيحائية يدمج الواقعين والشعورين معاً ؛شعوره وبحثه عن بلاده وأصدقائه الراحلين وشعور الكولونيل وبحثه عن بريده الذي لم يصل للتو؛ وكأن بحث الشاعر عن بلده وأجوائه العراقية أشبه ببحث الكولونيل عن بريده وانتظاره راتبه الذي لمَّا يأتِ بعد؛ وهنا ؛ تأتي المحاورة بين الشاعر والكولونيل هادفة في الكشف عن الكثير من المضمرات الشعورية؛ لدرجة أن التساؤلات المحتدمة كانت ساكنة ومتلجلجة في قرارة ذاتهما المضمرة كل منهما يريد أن يسأل الآخر عن غربته وحرقته الوجودية؛ وهنا؛ عمد الشاعر إلى الإيقاعات البصرية للكشف عن الحرقة الاغترابية بقوله:( قلتُ.. لا.. لم أُفارقْ.. فقد سكنتني بلادي) ثم أتبع إجابته بسطرين فراغيين؛ ليؤكد: أن بلاده مرسومة على قلبه إلى ما لانهاية لدرجة أنها سكنته إلى الأبد؛ وهذا ما دلل عيه بصرياً بهذا المد النقطي المفتوح .
ثم بدأ يتشبث الشاعر بعراقه كما تشبث الكولونيل بديكه وراتبه الذي لم يصل وديكه الذي خسر الرهان وفر عبر الحدود؛ إذ يقول:
وأسألُ عن ديكهِ..
فيقولُ.. لقد فرَّ بعد مهارشةٍ خاسرهْ
ومضى باتّجاه الحدودْ
غيرً أن الجنودْ
حاولوا قنصهُ فتوارى..
ويظهرُ لي في منامي كما الصقر.. ربّتما سيعودْ
والمعاش؟
ذلك ما لم أعدْ اتذكره .. ونسيتُ الوعودْ”(11).
لقد ضاع الحلم والأمل عند الاثنين( الشاعر والكولونيل) مازال يعاني كل واحد منهما من تلاشي الأمل ؛ الأول(الشاعر) بضياع البلاد وارتحالها كالحلم البعيد اللاملتقط ؛ والثاني(الكولونيل) بتلاشي البريد وعدم وصول راتبه وفرار ديكه أمله الوحيد إلى الحدود؛ وهو رغم ذلك مازال متمسكاً بالأمل رغم فرار ديكه ومعاشه؛ وما هو ملحوظ محاولة إدخال الروائي في القصيدة وهو(ماركيز)؛ وهذا ما كان غائباً عن أجواء شخصياتها ضمن الرواية ؛ وكأنه يعاتبه على ما وصلت إليه حال (الكولونيل) بعدما خسر ديكه وراتبه؛ وانقطع خيط الأمل الوحيد؛ إذ يقول:
“أما زلت تهذي بما يفتريه على الناس.. صاحبنا ؟
من؟
سَيِّد المفترين .. ماركيز.. انت تعلَّمتَ منه النميمةَ..
زوّجني .. وأنا أشهر العازبينْ
وأولدَ مَنْ لمْ أَمسَّ قمصانها.. ولداً
وسيجعلني والداً..
ثُمَّ يقتلهُ دونما سببٍ..
في مُهارشَةٍ لم تكنْ
هلْ مررتَ به ليعلمكَ المكر..
أمْ أنتَ علّمتهُ السحر؟
يا أيّها البابليُّ المعتَّقُ.. كمْ أتفادى مزاعمكم ..
أيها الشعراءْ
. . . . . .
. . . . . .”(12).
هنا يعتمد الشاعر المناورة الحوارية؛ من خلال التلاعب بالرؤى والأحداث ليضع الشاعر والمؤلف والشخصية البطلة في مواجهة حقيقية؛ مصيرية؛تدلل على افتراء المؤلف ومكره ودهائه الشديدين؛ فقد زوَّجه بامرأة لم يمسها، وأولده منها بولد ليس من صلبه ثم أماته؛ وهذا ليضعه في جو ملحمي تراجيدي ونهاية مأساوية عاصفة ؛ وهنا، يخاطب الكولونيل الشاعر من افتراء المؤلفين فكيف حال الشعراء الأدهى والأمر؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون؛ وهذا المكر والدهاء جسده بالمد الفراغي لتكون هذه الصفة ديمومية ملازمة لحالهم كما حال مؤلفه المراوغ الذي تلاعب به،وأوصله إلى حالة تراجيدية مأساوية مؤلمة لا يتمنى أن يحياها أو يعيشها إطلاقاً حتي و لو كان محضَ خيال من روائي جاحد أو مؤلف حانق.
ويتابع الشاعر نظرة المؤلف السوداوية وبررها بسبب إصابته بالسرطان والحالة المزرية التي هو عليها؛ ليثير الرؤية الشعرية ويكشف المبرر لظلمه لشخصيته الروائية(الكولونيل)؛إذ لم يترك لديه محفزاً أو منفذاً للحياة؛ حتى الأمل الأخير الذي تبقى له بعد خسارته المعاش فوز الديك بالجائزة لكنه بدلاً من فوزه جعله يخسر و يفر خارج الحدود؛ قائلا:
“مَرَرتُ به..
أَغلَقَ البابَ دون أحبتِهِ.. واكتفى بمعاشرة السرطانْ
وما عادَ يكتبُ إلاّ رسائل بيضاءَ..
لامرأة من شذى وضياءْ”(13).
هنا؛ يبرر الشاعر نظرة المؤلف(ماركيز) السوداوية بسبب مرضه بالسرطان وحالة الانطواء واليأس التي هو عليها؛ فقد اعتزل الحياة ؛ وما عاد يتذكر منه إلا بعض الأخيلة لنساء طالما حلم بهن في زمنه القديم؛ وهنا يدمج الواقعين و الشعورين معاً ليؤكد حلاوة وغنج وحيوية المرأة الشرقية ممثلة ب(خولة) وغيرها من الرموز المشتقة الدالة على الجمال العربي؛ قائلاً ومواسياً له:
“لو كنتَ شاهدتَ خولةَ.. في وردها الحلبيّ..
لما تبِعتْكَ الذئابْ
وهل كنتَ.. غيرَ خيالٍ يدبُّ على الأرض..
لولا مُخَيَّلَةٌ عاصفةْ
وكما اللعبةُ الخشبيةُ صارت فتىً.. في الأساطيرِ..
صِرْتَ..
أيُّها الكولونيلُ الخُرافيُّ.. يا كومةً من عظامٍ وجلدٍ عتيقْ
إنَّ جموح البلاغةِ أعطاك هذا الحضورْ
أَحرجني.. بينَ جوعٍ مُذِلٍّ وسَمْتٍ وَقورْ
. . . . . .
. . . . . .”(14)
هنا ؛ يدمج الشاعر الشخصيتين معاً شخصية المؤلف اليائسة السوداوية(مركيز) وشخصية(الكولونيل)؛ بإحساس شعوري عاطفي/ متفاعل يشي بالتعاطف إنسانياً وشعورياً مع الشخصيتين اليائستين: شخصية(الكولونيل)الفقير الذي خسر راتبه التقاعدي وديكه المنقذ؛ و شخصية(المركيز)المؤلِّف المريض بالسرطان؛ وكلتا الشخصيتين افتقدتا بصيص الأمل إثر الجو المأساوي اليائس اللذين وجدتا فيه. وهنا يحاول الشاعر أن يداعبهما بروح الفكاهة والأمل بذكر(خولة) وجمالها العربي الفتان؛ليلطف الجو اليائس والشاحب اللذين هما عليه قائلاً:” لو كنتَ شاهدتَ خولةَ.. في وردها الحلبيّ../لما تبِعتْكَ الذئابْ”؛ ثم يعود لمخاطبة(الكولونيل) بأنه أصبح كومة من عظام إثر الفقر المدقع وحاله اليائسة التي هو عليها ليدلل على ثبات هذه الحالة بالعلامات البصرية والمد النقطي المتتابع ؛ وكأنه يرثي حاله بعدما افتقد عراقه الحبيب وبيته وخله القريب (الأصدقاء، والأحبة، والخل الوفي)؛ وما تراكم هذه الفراغات في سطرين متتابعين إلا دلالة على الحسرة والألم إلى ما آلت إليه أحوالهم جميعاً؛بإيقاع توصيفي سردي يدل على ذروة اليأس والإحساس بالفقد المرير.
2- تصوير الواقع العربي المؤلم وحالة الضياع والفوضى المخيمة عليه:
لقد عمد الشاعر إلى عكس الواقع العربي المرير من خلال استحضار شخصية المؤلف(ماركيز)وشخصيته الروائية(الكولونيل)؛ليكونا شاهدين على الواقع العربي المتردي وما آلت إليه أحوال العرب الأشقاء كيف تخلوا عن شقيقتهم العراق في مصابها وتكالب المحتل الأمريكي عليها فكانوا شريكهم على دمائه وقطرات عروبته؛ وما أقسى مضاضة الجرح الذي يأتيك من الأخ والقريب أو الحبيب؛ وهذا ما يدلل عليه بوضوح قوله:
“في الطريق إلى الساحل المُعمَّدِ .. بالشكِّ والخوفِ..
وَدَعتهُ..
وتخيَّلته .. أنْ يعيشَ طويلاً..
سأسأله ذاتَ يومٍ.. أذا ما كتبتُ إليهِ..
عن الحرب بين الأشقّاء!
هل كان يُمْكِنُهُ أن يفرِّقَ بين الدماءْ؟!
ولماذا يموتُ فقيراً.. ويسخرُ من فقره الأغنياءْ
وكتبتُ إليهْ..
ها أنذا أستعيدكَ بعد سنينْ
ومازلتَ توقظ أسئلتي..
وأشكُّ بكل الذي قيلَ عنكَ..
أشكُّ بما قُلتُهُ عنكَ.. ثمَّ أشكُّ بأسئلتي
وكتبتُ إليهْ..
لم يبقَ لي ما أقول..وكلُّ الذي قُلتُهُ سأعودُ إليهْ
. . . . . .
. . . . . .(15)
هنا؛ تتزاحم على شفتيه الأسئلة الاحتجاجية الجريحة وصداها الشعوري المنكسر؛ سيسأل (الكولونيل) عن حالته وحاله: كيف يستطيع التمييز بين دماء الأشقاء إذا ما اقتتلوا؟؟. وكيف بإمكانه أن يميِّز بين دماء الشقيقين؟؟ وهو –بذلك- يشير إلى التحالف العربي على العراق مع القوات الأمريكية؛التي شردت أهله؟ ومزقت وحدته؛ إنه يُسقِط واقع هذه الشخصية على واقعه الاغترابي وإحساسه المرير بالتخاذل العربي؛ ومرارة ما حاق بالعراق وأهله من جراء هذا التحالف العربي الخبيث وويلاته المؤلمة على العراق وطناً وشعباً؛ وهنا؛ يأتي وقع المحاورة كاشفاً رؤيوياً محرضاً للكثير من الأسئلة الاحتجاجية الصارخة بقوة عن واقعها وصداها الوجودي المأزوم؛ إذْ يطرح العديد من الأسئلة المهمة الموجعة التي تصب في مجرى الأسى؛ والحرقة، والاغتراب؛والبؤس الوجودي؛ ومن هذه الأسئلة المهمة قوله:”ولماذا يموتُ فقيراً.. ويسخرُ من فقره الأغنياءْ”؛ ويتابع سلسلة أسئلته الموجعة التي تصب في دائرة مفتوحة من الاستنكار والاستهجان من خلال المد النقطي المفتوح الذي تركه على مدى سطرين متتاليين ؛ليشير من خلاله عن حرقة هذه الأسئلة وانفتاح أساها الوجودي والنفسي إلى ما لا نهاية.
وهنا؛ تأتي النهاية معبرة عن إحساس الشاعر الوجودي واحتراقه العميق:”
وتبقى.. كما اقترحتك الكتابةُ
لاتتبيّن ما تركته العناكبُ في ما حلمت به..
وتُحاولُ بين الرجا والشجا.. ان تكونْ”(16).
إن الشاعر- بهذا الازدواج الشعوري بين الأسى والشجا – استطاع أن يخط وجوده المأزوم وإحساسه الشعوري المعذب؛ وبهذا الإحساس المتنامي تفاعلت الشخصية الشعرية مع الشخصية الروائية (الكولونيل) والشخصية المؤلِّفة(ماركيز)ليبث اغترابه وحرقته الوجودية وصداه الشعوري المأزوم والمتوتر.
بلاغة الرؤية الشعرية/ أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن الشاعر أراد أن يقول لنا في جوهر رؤية القصيدة ومغزاها النهائي: بأنه مهما كانت شدة المعاناة وحالة الفقر المزرية التي وصلت إليها شخصية الكولونيل فإنها ما زالت تقاوم واقعها وتعيشه رغم عجافة الأيام وقسوتها عليه؛ وهو سيظل يقاوم كشخصية (الكولونيل) في العودة إلى الفضاءات البغدادية والأجواء العراقية ليعيش واقعه الجديد وعراقه الحلم الذي لن يرحل مطلقاً عن أفق رؤياه وفضاءات مخيلته الإبداعية مهما بدا الليل طويلاً وحبل العودة مستحيلاً؛ لأن حلمه أكبر من الاغتراب بعينه مهما بدت صخرته صلدة فإنه سيقاوم حتى الرمق الأخير للعودة والظفر بعراقه الحبيب.
وصفوة القول: إن التحام الشاعر بشخصياته الروائية هو لإكساب قصيدته شرعيتها الرؤيوية في ابتعاث إحداثيات دلالية جديدة ترقى بفواعل النص الدلالية،فشخصية الكولونيل هي شخصية متحركة بإحساس الشاعر،وليست شخصية راكدة،متحجرة في حدث معين، أو موقف شعوري معين، إنها بانوراما وجودية مكتظة بالانفعالات، والمشاعر، والارتكاسات المؤلمة،وهي رغم قسوة واقعها تعايشه،وتقاومه لتحيا الحياة ،وتعلن صمودها وجبروتها للتغلب على صلادة الواقع وقسوته.
ثالثاً – البعد الرؤيوي لقصيدة(ربما.. كان زوربا):
يفتتح الشاعر في قصيدته( ربما.. كان زوربا) واقع رواية(زوربا اليوناني)؛ وهي رواية يحاول من خلالها أن يجمع بين شخصيتين متناقضتين؛ وهي الشخصية المثقفة في العلم والمعرفة(ثقافة الكتب) وشخصية جاهلة لكنها تملك خبرة حياتية منفتحة في الرقص، واللهو، وحب النساء؛ وكلتا الشخصيتين رغم اتجاهاتهما المختلفة التقتا في الرواية لتنشأ علاقة صداقة حميمة بين الاثنين لدرجةلا انفصام ؛والواقع أن الشاعر حميد سعيد أعجب بهذه الرواية والشخصية في آن؛لأنها تتماشى مع روحه الدرامية التي تعد هذه التقنية معشوقة قصائده على اختلاف توجهاتها؛ وتعدد مساربها الرؤيوية ؛ فالروح الدرامية لا تغيب عن فضاءات قصائده؛وبتقديرنا: لقد استطاع حميد سعيد في قصيدته( ربما كان زوربا) أن يتمثل شخصية زوربا بوجوهها المتعددة بمعنى: أن زوربا اليوناني هو بكل الوجوه المتغيرة والخبيرة في الحياة؛ فهو الشخصية المثقفة في واقع الحياة؛ وخبرته لم يأخذها من الكتب؛ وإنما أخذها من معاشرته وانهماكه في الحياة الاجتماعية بتعقيداتها وتعدد خبراتها؛ وهذا ما عجز عنه صديقه(باسيل) الذي أعجب بشخصية(زوربا) لحد جعله يتصرف في ماله بمشروع(منجم للفحم)؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ثقته الكبيرة به؛لكنه خسر هذه الثقة حين صرف جل المال في البار على راقصة سلبت منه كل المال؛ وهنا؛ يعدد الشاعر رؤاه لزوربا ليجدها ماثلة في عدد من الشخصيات؛ تارة بصورة بياَّع الخبز، وتارة بصورة رجل في بيروت؛ وتارة بصورة زوربا اليوناني الذي جاء عبر البحار؛إذاً الشخصية واحدة ؛ لكنها متناسلة ؛ تبعاً لأحاسيسه ورؤاه وتمثله العميق لها؛ ولعل أبرز المحاور الرؤيوية في هذه القصيدة ما يلي:
1- تعدد المواقف والوجوه والرؤي للشخصية الزوربوية:
إن الشاعر وظف شخصية (زوربا) اليونانية بوجوهها المتعددة؛ ورؤاها المختلفة؛وهذا ما جعله ينظر إلى هذه الشخصية بمنظار رؤيوي مختلف ؛ فزوربا شخصية ساكنة في قلب كل رجل مكافح يعرف مسارب الحياة يكافح بشراسة لالتقاط عيشه؛ فالشخصية الزوربوية هي شخصية الرجل المناور الذي يمتلك خبرة العيش والحياة رغم جهله العلمي كما هي شخصية زوربا اليوناني الحقيقية؛ يقول الشاعر في شخصيته(الزوربوية) وهي شخصية بائع الخبز، ما يلي:
“ورأيتُهُ يوماً..
يُساوٍمُ بائعات الخبز في السوق القديم
وبعد عامين التقيت به يبيع الخُبزَ
كنتُ أظنّهُ رجلاً مُقيماً..ثمَّ غابَ عن المدينةِ
وانتهى ما كانَ منه..
ضَجيجُهُ الليليُّ..فِطنتُهُ.. الحواراتُ التي لا تنتهي
وشراسةُ الذئب المحاصر.. في الشجارْ”(17).
هنا؛ يعدد الشاعر الملامح السلوكية لشخصية (زوربا) بائع الخبز؛ فهو شخصية صاخبة جدلية مناورة فطنة لها أسلوبها في المنافسة والحوار وإثارة الجدل؛ والشراسة بالمواجهة ؛ إنها الشخصية الحياتية التي نراها في الأسواق من قوة وجسارة وحدة وعنفوان؛ ثم يتابع أوصاف هذه الشخصية بكل رؤاها المتجددة المتغايرة:
“وقال لي..
مَن كان يُغضبٌهُ بما يُبديه من فتَنِ التعالي
كنتُ
في ” يَلَوا” ..
وقد غادرتُ اسطنبول أَبحثُ عن مُهاجرةٍ أُحِبُّ..
تُقيمُ فيها
ثُمَّ فاجأَني برفقتها هناك..يَضُمُّها كغزالةٍ بيضاء ناعمةٍ
وأَسرعتُ الخُطى حتى إذا قاربتُ ظِلَّهما..
وكدتُ أقولُ ما في النفس.. غابا
. . . . . .
. . . . . .”(18)
هنا؛يتحدث عن شخصية (زوربا)بلسان المروي السردي؛عن الرائي أو المشاهد لهذه الشخصية؛ من قوة الدهاء والخبرة الحياتية في جذب النساء وولعه بهن؛ من خلال الصورة البليغة التالية:( ثُمَّ فاجأَني برفقتها هناك..يَضُمُّها كغزالةٍ بيضاء ناعمةٍ)؛ وقد اعتمد الشاعر التشكيلات البصرية في ملاحقة طيفهما بعدسة مونتاجية ترصد المشهد بتفاصيله الجزئية ؛ وقد ترك هذا المد النقطي ليدل على طيفهما الذي غابا عنه بامتداده البصري اللامتناهي؛ وهذا يعني أن المد النقطي رسم مشهد تلاشي ظلهما،بأسلوب بصري/لغوي،متعاضد؛ في تكثيف الرؤية ومتابعة حراكها البصري.
والملاحظ أن الشاعر يناور في شخصيته الزوربوية؛ فهي ليست مطابقة تماماً لشخصية زوربا الروائية لكازنزاكي؛ إن شخصية(زوربا) شخصية متحركة/ متنقلة من مكان لمكان؛ ومن زمان لزمان؛ وهي شخصية متحولة –كما أشرنا- فكان من طبيعتها أنها تتماهى مع كل الأمكنة وكل الأزمنة؛وما تحولها إلى الأناضول؛ وتركيا وبيروت لاحقاً إلا لإبراز ماهيتها المتغيرة ووجوهها المختلفة؛ إذ يقول:
ثُمَّ قال..
وفي الطريق إلى القرى العذراء .. في الأناضول
فاجأني بهيئته المُريبة..
عمَّةٌ خضراءُ.. شالٌ أخضرٌ.. وعباءةٌ خضراءُ
كانَ بشاربين كبلبلين مُبللين.. ولحيةٍ حمراء
يكتبُ للنساء.. رٌقىً وأدعيةً
مَدَدتُ يدي إلى أوراقه الصفراء.. أكشفُ ما بها
اختلطت عليه.. قوافلٌ وجحافلٌ..
مدنٌ .. وجوهٌ ..لم يُفرِّق بينها
فمضى إلى غيبوبةٍ بيضاء.. تحملُهُ إلى ..
بيروت في الزمن الجميلِ
يتخَطَّف العشاقُ فتنتها..ولم تبخل بحبٍّ مستحيلِ”(19).
إن الرؤية التحولية للشخصية الزوربوية؛ هو تغير ليس في الصفات؛ بل هو تغير في الشكل والسمت؛ فزوربا في وجهه الجديد ذو(عمة خضراء.. شال أخضر.. عباءة خضراء.. بشاربين كبيرين .. كبلبلين مبلليين.. ولحية حمراء) إنه يتقمص دور الساحر ليظفر بالنساء ؛لأن النسوة أكثر ما يغويها الدجل والمراوغة والدهاء؛ والسحر هو أعلى درجات المراوغة التي تقف أمامه معظم النسوة عاجزات ؛ لأنه يستلب منهن ربع العقل المتبقي ؛ وسرعان ما تقع الكثير منهن في شرك الدجالين عن طواعية قولاً وفعلاً؛ وهذا ما يجعلها فريسة سهلة لأولئك المولعين بحب النساء كزوربا اليوناني ؛ وهنا، عبر الشاعر من وجه من وجوه زوربا الذكي المراوغ في كل شيء ليصل إلى هدفه؛ وهو النيل من كل امرأة جميلة تقف أمامه؛ولهذا يحول من مكان إلى آخر؛ ومن مدينة إلى أخرى من الأناضول إلى بيروت ؛ ومن بائع خبز إلى مشعوذ أو دجال؛ وبعد هذا التحول التقى به الشاعر منكسراً باحثاً عن دليل؛ إذ يقول:
“والتقينا..
كنتُ منكسراً.. وكان كم لا الجواد يُجدّد الفرحَ المكابرَ..
بالصهيلِ
. . . . . .
. . . . . .
يتغيَّرُ الميدان.. إذْ جاءت تخبُّ..
يقولُ.. هذي مُهرةٌ ملكيَّةٌ شهباءُ
يقطعُ غَفلتي..
كُنْ ذِئبها..
أرأيتَ ذئبتكَ التي اقتحمتكَ
شمّت فيكَ رائحةَ الرجالْ
. . . . . .
. . . . . .”(20).
هنا؛ يعتمد الشاعر لغة الحوار البوحي مع شخصية زوربا اليوناني في شكلها الحقيقي ؛ وهذا يعني أن الشاعر أجرى عدة مناورات في شخصياته ؛ ليصل إلى وجه زوربا الحقيقي كما أشارت إليه الرواية؛وهنا يصل(بزوربا) إلى الشخصية البطلة ؛ إلى شخصية الفارس الذي يخب بالميدان على مهرة ملكية شهباء؛ يداعب الشاعر ويمازحه؛بأن مهرته قد شمت في الشاعر الفحولة والرجولة؛ ورأت فيه فحلها المميز.
ويتابع الشاعر تشكيل شخصية زوربا كما يراها ويحسها في وجوده ؛ فهو بعد أن صوره بصورة متواضعة بائع للخبز وصوره بصورة ساحر أو دجال ؛ وصوره بصورة فارس قام بتصويره بشيخ وقور يعزف على ربابته جاذباً كل من حوله من النساء حتى الأنس والحيوان؛ قائلاً:
“أجابني شيخٌ وقورٌ.. كلُّ من في هذه الأنحاء..
يعرفُهُ
ويعرفُ أيَّ حزنٍ فيه..
من صوت الربابْ
وإنْ دعا امرأةً.. وكان رسولُهُ موّالَهُ الليليَّ..
يمتلئُ المدى بصدى الحنين إليه..
تخرجُ ذئبةٌ من كلِّ بابْ
وقلتُ..
هل صَحِبتهُ في هذي الديارْ
امرأةٌ عجوزٌ.. بستبدُّ بها الخيالُ .. وما تزالْ
ترى لها عرشاً.. بمملكة البحار؟!
. . . . . .
. . . . . .”(21).
هنا؛ينوع الشاعر في تشكيله لشخصيته(الزوربوية) فهو يشكله بصورة شيخ وقور يعزف على ربابته بعدما طعن فيه السن وفقد معظم حيله للاستحواذ على النساء ليس له من طريقة سوى العزف الحزين على إيقاع الربابة، ليثير الأشجان ؛ ويلهب المشاعر؛ ويجذب إليه النساء؛ وأخيراً ؛يأتي (زوربااليوناني) لكاز نزاكي ؛ ويصوره كيف أتى في البحر على ظهر السفينة؛ وكيف تندفع الطيور لملاقاته؛ إذ يقول:
“على ضفاف الأبيض المتوسط..
اقتربتْ سفينتُهُ من الميناءِ..
في هذا المدى البحريِّ.. تندفعُ الطيور البيضُ نحو القادمين
كأنّها انتظرتهُ..
حتى يستعيد قراءة الأحجار والأشجارِ
ما أبقى على الأبواب من أسراره..
ما كان من وجعٍ
أيرقصُ مرّةً أخرى..وقد طردته مملكةُ الغناءْ؟!”(22).
إن الشاعر يستحضر صورة( زوربا اليوناني) بطل الرواية الحقيقي من خلال سماته ورغباته وعشقه للرقص وولعه بالنساء، ورغبته في الانتقال من مكان إلى آخر لقاء حماسه المنقطع النظير إلى الحياة بكل حراكها؛ وتطلعها وتغيرها المستمر؛ وليس ذلك فحسب؛ فهو البشير بالتجدد والأمل والخصوبة والحياة حتى تلقفته الطيور واحتفت به الأشجار ليقرأ أسرارها وأخبارها ونظرته المستقبلية إليها، وإلى واقعه وواقعها المعيش ؛ فهو النبوءة الجديدة لمعالم الطبيعة والأشياء؛ وبهذا المعنى الأسطوري الذي حمَّله لشخصية (زوربا) يعود بالشخصية الأسطورية لتحمل نبض الذات؛ لكن سرعان ما يعود به إلى الوراء إلى الهرم والاعتزال بعدما خبر من الحياة ما خبره وتعلم منها الشيء الكثير؛ إذ يقول:
“واختارَ منفى لا تمرُّ به النساءْ
على ضفاف الأبيض المتوسط..
اقترنت خطاهُ بمأزقِ خَطِرٍ
على الأرض التي احتضنت سريراً..
ضَمَّ ” باسيفي” بكل شرورها.. والطُهرَ في” مينوس”
هل كانت طرائده تقودُ خُطاه في المدن التي عرفته..
للتفاحة الأولى..
شميمٌ لاذعٌ وعواصفُ سودٌ
رأى في كلِّ من فتحت له أبوابها.. تفّاحةً أولى
فيقضمها..
وهاهو.. بعد أن جفَّتْ ثمارَ حقوله..
قَضَمَتهُ
. . . . . .
. . . . . .”(23).
إن الشاعر يصور(زوربا اليوناني) بالمعتزل الذي اختار منفاه ومعتزله في حين أنه لم يختار هو منفاه ومعتزله لقد فُرِضَ عليه فرضاً حتى ألفه وأعتاده؛ والملاحظ أن الشاعر يفلسف نهاية شخصيته(الزوربوية) بأنه بعدما تمتع بالنساء واللهو معهن سرعان ما أوقعت به إحداهن فراح ضحيتها وخسر مال صديقه بأكمله؛وخسر رجولته؛ بعدما كان رمزاً لها؛ وقد اعتمد الشاعر المد النقطي للإيحاء بهذه النهاية الممتدة؛ وكأن نهايته تمثل نهاية الرجولة الحقة في كل زمان ومكان؛ وهنا يصل الشاعر إلى ذروة الفاجعة عندما يعلن نهايته الأخيرة :
” ذلك قبرُهُ..
في كلِّ مقبرةٍ مررتُ بها
وفي كلٍّ البلادْ”(24).
إن زوربا اليوناني سيظل رمزاً لكل الرجولة وعلماً من أعلامها ؛ مهما تعددت الأماكن واختلفت الأزمان؛ وهذا يصلنا إلى رؤية الشاعر الجوهرية في شخصية (زوربا)؛ وهي أنه استحضر هذه الشخصية ليقول كلمته الأخيرة : إن زوربا استطاع أن يختار منفاه ومعتزله؛ في حين أنه فشل هو في ما نجح به (زوربا اليوناني)؛ لأنه لم يخترْ معتزله؛ ولا منفاه؛ لأنه فُرِضَ عيه قسراً في ظل واقع دموي اضطره للخروج من العراق إلى الأردن ليعيش فيها معتزله الروحي؛ ومنفاه الأخير؛ فهل سيكون زوربا الشاعر الذي أبعدته البلاد؛ وأنهكته رحى السنون الاغترابية المريرة؛ هذا ما نتوقعه في رؤية القصيدة الأخيرة؛ ومدها النقطي المفتوح. وكأن الشاعر يؤكد مقولة: إن الاغتراب لا نصنعه بأنفسنا؛ وإنما يفرض علينا فرضاً كالقدر الذي لا يمكن أن نردَّه أو أن نصنعه بأيدينا؛ إن زوربا اختار منفاه؛ لكنه لم يخترْ نهايته؛ وهذا يؤكد ضعف النفوس البشرية أمام سطوة القدر.
2- بلاغة الرؤية الشعرية / أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن الشاعر أراد أن يؤكد مقولته من جراء استحضار هذه الشخصية : إن بلده العراق ستظل متجددة متطورة متغيرة كالشخصية الزوربوية ؛ فهي رمز للتحدي والتغير والمقاومة؛ وهي ستبقي في قلب كل إنسان عربي ؛ متجددة حرة ؛ فعراق اليوم هي عراق الأمس هي الماضي هي التاريخ هي المستقبل؛ وهو سيكون زوربا الشاعر العائد إليها يوماً على أجنحة الأمل العائد لا الخيال المجنح.
نتائج أخيرة:
• تنزع قصائد(أولئك أصحابي) إلى تكريس المحتوى الرؤيوي العميق؛ببلاغة فنية ؛وطاقة رؤيوية خلاقة خاصة بتمثله لرواية (الشيخ والبحر)؛ و(صمت البحر)؛ وهذا يتبع درجة إحساس الشاعر بالشخصية الروائية، وطريقة تمثلها بالشكل الفني الأخاذ؛ والمدلول الإيحائي العميق.؛ وقد وجدنا ثورة رؤيوية في طريقة المعالجة، والتمثل الفني لتصل إلى الذروة في هاتين القصيدتين.
• إن بداعة الرؤيا / وعمق مقصديتها ينبغ من هذا الإحساس الدافق الذي ينم عن مهارة تمثل الشخصية الروائية البطلة، وتحريكها في مسار القصيدة، بما ينمي قدرتها على التكثيف الدلالي لفضاءاتها النصية ؛ ويزيد من ألقها الشعري؛ولا نبالغ إذ نقول : لقد منح الشاعر الشخصيات الروائية المستحضرة طاقة إضافية في التحفيز النصي، وإثارة الشعرية؛ خاصة عند محاورتها حواراً فنياً رؤيوياً هادفاً كما شهدناه في معظم قصائد هذه المجموعة.
• إن ما يميز قصائد( أولئك أصحابي)الجمع بين واقع الشخصية الروائية،والواقع المعاصر الذي يرمي إليه الشاعر؛ فأتت القصائد محنكة في رؤاها التعروية للواقع الراهن الذي تعيشه أمتنا؛ فزمن القصيدة مطاطي مفتوح يستمر إلى المستقبل، ولا يقتصر على الماضي، والزمن الراهن؛ ولهذا؛ يعد فضاؤها الإبداعي مفتوحاً قابلاً للإضافة والزيادة ؛ وهذا ما يحسب لها.
• إن مجمل قصائد(أولئك أصحابي) تمتاز بتنوع تقنياتها الأسلوبية/ ومحفزاتها الرؤيوية ؛ ولهذا، أكثر ما تحتوي عليه من بنى، وتقنيات هي تقنية الحوار؛ بوصفها بنية محرقية في مغنطة الرؤية الشعرية عبر الموقف الذي تثيره الشخصية الروائية في القصيدة؛ إما بالحديث من خلالها، أو إليها، أو بالحديث عنها ؛وهذا ما يجعل الشخصية الروائية المستحضرة فاعلة في الحراك النصي، والتكثيف الإيحائي.
• إن ولع الشاعر بالإضافة إلى الشخصية الروائية المستحضرة البطلة رؤية جديدة أو بعداً رؤيوياً جديداً أسهم في إغناء الحركة الشعرية، والشخصية المستحضرة بعداً إضافياً جديداً؛ قد لا يجده قارئ الرواية ذاتها؛ فهي تضيف رؤية جديدة؛ومنظوراً مغايراً؛ وهذا ما يثير الأهمية، ويبعث على تلقيها الفني الجمالي؛إذ إن من خصوصية الإبداع التميز والإضافة؛ وهذا ما امتازت به قصائده على المستويات كلها.
الحواشي
(1) سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي،ص30.
(2) المصدر نفسه،ص30.
(3) المصدر نفسه،ص31.
(4) المصدر نفسه،ص31.
(5) المصدر نفسه،ص32.
(6) المصدر نفسه،ص33.
(7) المصدر نفسه،ص34.
(8) المصدر نفسه،ص35.
(9) المصدر نفسه ص35-36.
(10) المصدر نفسه،ص37-38
(11) المصدر نفسه،ص38.
(12) المصدر نفسه،ص38.
(13) المصدر نفسه،ص39.
(14) المصدر نفسه،ص39.
(15) المصدر نفسه،ص39.
(16) المصدر نفسه،ص40
(17) المصدر نفسه،ص40-41
(18) المصدر نفسه،ص41.
(19) المصدر نفسه،ص42.
(20) المصدر نفسه،ص42.
(21) المصدر نفسه،ص 43.
(22) المصدر نفسه،ص43.
(23) المصدر نفسه،ص43.