*مصطفى الحمداوي
خاص ( ثقافات )
بلغة شفيفة، رائقة متماسكة، لا تغرق في المجاز والإبهار المبالغ فيه، أبدع ياسين عدنان باكورة أعماله الروائية الماتعة “هوت ماروك” ، منطلقا من منجز إبداعي بالغ الثراء، راكمه من خلال تمرسه على الكتابة الشعرية والقصصية، لينتهي به المسار لينتقل بكل أريحية إلى الكتابة الروائية بكل ما تحفل به الرواية من خصوصيات وتقنيات تختلف في الطابع العام عن الكتابة الشعرية والقصصية. اختيار ياسين عدنان للرواية هذه المرة لتمرير خطابه الإبداعي، لم يأت جزافا كما يبدو بديهيا، بل بناء على منجز كمي وكيفي خول له ولوج عوالم الكتابة الروائية بيسر وبسلاسة مثيرة للإعجاب.
فعندما نقرأ النص الروائي الأنيق “هوت ماروك”، لا نفكر مطلقا في ياسين عدنان الشاعر، ولا نفكر أيضا في ياسين عدنان القصاص، وأعتقد أن هذه النقطة بالذات هي التي تشكل أولى نجاحات الرواية الجميلة التي تقودنا عبر فصولها الـ 32، إلى مواضيع تتشكل من أحداث متباينة وغنية بمضامينها، فبالإضافة إلى كون هذه المواضيع تحدث باستمرار في واقعنا، ونعايشها يوميا، ونواكب أبطالها عن قرب، إلا أنها في المقابل لا تثير اهتمامنا بالقدر الذي ينبغي، غير أن قدرة الكاتب المتمرس تكمن في تحويل هذه الأشياء البسيطة العادية، إلى أشياء مبهرة ومثيرة للإعجاب. وهذا بالضبط ما نجح فيه ياسين عدنان نجاحا باهرا، لينتج لنا في الأخير عملا روائيا ناجحا بكل المقاييس.
أول خطوة ملموسة في النجاح المدهش لرواية “هوت ماروك” هو أنها حافظت على هويتها وخصوصيتها كرواية مستقلة لم تولد بضغط متعمد من رحم زخم إبداعات ياسين عدنان السابقة في النثر والشعر، ولا من غيرها من الروايات، وهذا الأمر في حد ذاته يعتبر قيمة مضافة للرواية، ويبدو ذلك واضحا وجليا جدا، لأن النص في مجمله تخلى عن التخمة الشعرية، ولكنه في المقابل كثف من الاستعارات الجمالية التي كونت إطاره العام. كما أن الكاتب أتقن الوصف وأجاده، وتفادى بمهارة إغراق النص في صخب المناجاة والخواطر، والإسهاب في ما يمكننا تسميته بـ” السرد السلبي”، هذا العنصر الذي غالبا ما يدمر جمالية الكتابة الروائية، ويضعف فيها جانب الأحداث والوقائع، التي تعتبر الأساس في البناء المعماري للرواية.
في تجربته الروائية الأولى، يبدو الكاتب ياسين عدنان واثقا من أدواته، مالكا لزمام أموره، ومنفتحا على مختلف الأشكال التعبيرية التي تضيف للرواية وتعطيها زخما إضافيا. ويبدو ذلك جليا من خلال الشكل المتفرد الذي شكل به أحداث وشخصيات الرواية، وبهذه العناصر كلها قدم الكاتب رواية غير نمطية، رواية تستمد أصالتها وابتكار أفكارها، من المعطيات التي تترجم عوالم معيشية موزعة بتوازن متقن على جميع شخصيات الرواية المخاتلة، التي يقدمها لنا الكاتب كتجربة لا تخلو من خدع لطيفة ينبغي للقارئ أن ينتبه إليها جيدا. الكاتب ياسين عدنان أدلى في تصريح خاص حول رواية “هوت ماروك” بأنه لا يريد أن يأتي بجديد في روايته، التي تفاعل معها القراء على نحو مثير للإدهاش. وانطباع ياسين عدنان يأتي من عدة رؤى تبدو وجيهة وموضوعية، فالرواية من الوهلة الأولى تبدو، على نحو غير دقيق تماما، بأنها لا تختلف كثيرا عن أي رواية ناجحة أخرى، ولكن الجديد الحاسم فيها، حسب رأينا، هو ثراء اللغة البديعة، والتوصيف البارع للأمكنة والفضاءات، والانتقال الرشيق بين حدث وآخر، والربط المتقن الذي شكل من الرواية كتلة موحدة لا تشكو تفككا، ثم الابتكار الذكي لشخصيات متميزة، رسم معالمها بدقة مثيرة للإعجاب. فالكاتب لم يختر قرائن لشخصيات الرواية من الحيوانات عبثا، بل لم يكن اختياره لهذه الحيوانات أيضا عبثا. فعندما نتأمل شخصية رحال لعوينة وقرينه السنجاب، سندرك من الفور أسباب اختيار هذا القرين الحيواني، ونلمس ذلك بوضوح في الفقرة التالية التي وردت في الفصل ( 3 ) من الصفحة ( 19): ” فرحال يجد نفسه أقرب إلى السنجاب منه إلى أيِّ حيوان آخر “. ثم يستمر في الفصل نفسه، وفي الصفحة ذاتها: ” قد يكون الفأر والجرذ والسنجاب من نفس الفئة: فئة القوارض، لكن السنجاب لم يكن قَط ُّ من فصيلة الفأريات. فهو ابن عائلة أرفع شأنا. ” هذا التوصيف الذي يمرره الكاتب، يكشف منذ البداية عن أي شخص نحن إزاءه في الرواية، وسندرك من خلال متابعتنا للقراءة أن للسنجاب ذاكرة قوية، وسندرك أن هذه الذاكرة التي وضعها الكاتب في تركيبة شخصية رحال لعوينة، إنما فعل ذلك لكي يسحب على هذه الشخصية بعض المواهب التي ستحدد كيفية استغلاله لها، وسنرى أن شخصية رحال لعوينة ليست إلا شخصية سلبية على غرار الكثير من الشخصيات التي تعيش بيننا بوجهين مختلفين، ولكنها للأسف لا تستطيع الاحتفاظ طويلا بالوجه المزيف الذي يخفي خبثا ودناءة كما هو الحال بالنسبة لرحال العوينة الذي لم يسلم من شروره المستترة إلا قلة قليلة من الناس.
أما شخصية حسنية زوج رحال لعوينة، التي يبتكر لها الكاتب قرينا حيوانيا في منتهى الدقة، ( القنفذة )، التي تحيل على الانكماش على النفس، والتقوقع، وإشهار الشوك الحاد عند أول محاولة للمسها أو الاقتراب منها، سواء كانت المحاولة بريئة أم غير ذلك.. وهو الأمر الجلي الذي نلمسه في شخصية حسنية، ونفسيتها المطبوعة بشيء قليل أو كثير من العدوانية والتوجس من الآخر، بحسب تشكيلة نفسيتها المعقدة التي تجعلنا نحن القراء إزاء شخصية فريدة وغريبة من نواح كثيرة ومتعددة، وهو الأمر الذي يؤكد أيضا قدرة الكاتب في توليف ثنائي متناقض إلى أقصى حدود التناقض، ولكن الغريب أن هذا الثنائي ( رحال وزوجه حسنية ) متشابهان ومنسجمان في صفات كثيرة ومتعددة، لا يمكن معها إلا أن نستشعر القوة التي استطاع بها الروائي ياسين عدنان أن يقرأ شخصياته بمنتهى الموضوعية والحرص على تقديمها كما هي بلا تزويق أو رتوشات. ولعل عدم التكلف أو التصنع في خلق شخصيات بمواصفات غير واقعية، جعل الرواية قريبة من نفس القارئ، وقريبة من تفكيره، وقريبة من واقعه.
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نستخلص، بعد قراءة أولية سريعة، أن الرواية تعتمد أساسا على تشريح بارع لشخصيات المجتمع المغربي، وهذا المجتمع وضعه أمامنا الكاتب بوضوح، وبلا مساحيق، لقد اشتغل على عدة تيمات في الرواية، وكل تيمة تصب في تشكيل تيمة كبرى وأساسية، وهي الفكرة التي انبنت عليها الرواية برمتها. والرواية تقول لنا ان شريحة واسعة من المجتمع هي على هذا النحو..وهي بهذه الصفات، وأن ملابسات الواقع المغربي، بتبايناته وخصوصياته، يفرز مجموعة بشرية تؤثر في الواقع المغربي سلبا وإيجابا، هذا الواقع الذي يبدأ من الأسفل، ليستمر في الصعود، متسلقا درجات اجتماعية طبقية متنوعة. فخلال قراءتنا للنص الروائي، سنصطدم بالمتدين المتشدد، وسنصطدم بالنصاب والمحتال، وسنواجه ظاهرة الهجرة الإفريقية التي قاربها الكاتب عبر تشكيل مجموعة ” الأفريكانو ” التي برع في تصوير شخصياتها الغريبة إلى درجة الغرائبية، ووضع هذه الظاهرة كواقع ملموس ومعاش في حياتنا اليومية المغربية.
رواية “هوت ماروك” تصب أغلب اهتمامها على الشخص الأكثر إثارة للجدل، رحال لعوينة الذي يمارس غواياته الماكرة بخبث، متصيدا أعداءه الحقيقيين والوهميين بدقة متناهية، وينجح في إسقاط خصومه بطرق لا أخلاقية، تنم عن انحطاط مجتمع يتصيد أخطاء الآخر، ليشهرها في وجهه ووجه الآخرين، إنه انتقام عبثي من شخصية عبثية تبدو زائدة عن الحاجة، في مجتمع يعج بالاكراهات والجراح التي تثخن جسده الواهن. بهذه الصيغة يحول الكاتب رحال لعوينة إلى شخص منذور لفعل الشر، وكأنه ذلك الشيطان الذي نراه في واقعنا المغربي على الدوام، ولكننا نتغاضى عنه، ولا نجد الجرأة في أنفسنا لفضحه ووضع وجهه القبيح أمام المرآة.
الرواية تحفل بالكثير من الشخصيات التي تستحق الوقوف عندها ومحاورتها تحليليا بدقة شاملة ومركزة، ولكن أعتقد أن الرواية، وبمفارقة عجيبة، قدمت هذا التشريح بالمجان للقارئ، ولم تترك له سوى أن يتحسس نفسه ومَن حوله، ليدرك موقفه وموقعه، وموقف مَن حوله ومواقعهم. وعلى سبيل الذِّكر فقط، فرحال لعوينة يبدأ وجوده في الرواية مجرد طالب يملأ الغل والحسد قلبه، ليرتقي به الكاتب كمشتغل في إدارة ” تيليبوتيك”، وبعد ذلك يتحول ” التيليبوتيك “، بسبب الثورة الهائلة التي يعرفها باطراد متواصل مجال الاتصالات، إلى مقهى سيبر، ثم يستدرجه الكاتب في حيلة من الحيل السردية الموفقة ليشتغل لصالح الأجهزة الأمنية، ومن هنا تبدأ قصة رحال لعوينة الحقيقية، ومنها تتشعب قصص الشخصيات الأخرى، لتوصلنا الرواية في نهايتها إلى صراعات سياسية حزبية تشير، دون غموض أو لبس كثير، إلى الوضع الحزبي المغربي التعيس، وإلى ظواهر وأوضاع غريبة في مجتمعنا، ويشرِّح الكاتب هذه الظواهر والأوضاع بسخرية مرة، وعلى طريقة تعتمد الهمز واللمز أحيانا، وتمرر كل الأفكار عبر وقائع يجد القارئ نفسه فيها كما لو انه يعرف منها الكثير، ولكن ليس المهم أن يعرف القارئ أو لا يعرف، ولكن المهم هو الزاوية التي قرأ الكاتب بواسطتها إبداعيا الأحداث، وأعتقد شخصيا أن ياسين عدنان وُفق على نحو رائع في اقتناص شخصيات مثيرة، وفكك مجتمعا راكدا، وأعاد صياغته وفق رؤية بارعة جعلت من النص الروائي، احتفالية جمالية ممتعة من الجانب القرائي، وفي الواقع، لا تبتعد كثيرا عن اليومي المضطرب المعاش، في توازٍ مدهش مع وقاحة جميلة ومطلوبة، خصوصا في الحوار الدارج الذي جنح إليه الكاتب في لمحات قليلة، ولكنها كانت حاسمة وضرورية، لإضفاء تلك اللمسة الساحرة التي تُحرر أي نص من انغلاقه الشامل، لتفتح له نافذة صغيرة تطل على الواقع الآخر في الرواية، وهو واقع مغربي تعيس وبائس تتعايش فيه كل المتناقضات.
رواية “هوت ماروك” رواية تصطاد القارئ لتقول له أنت هنا في هذه الرواية، ابحث عن نفسك في ثناياها، ومن المؤكد أن القارئ الحاذق سيعثر على نفسه في صفحات الرواية، وسيلتقي بالكثير من الرفاق والأصدقاء والمعارف، وسيجد أن طقوس الرواية هي نفسها الطقوس التي يواكبها ويعيشها في حياته اليومية.