شاعرية الرؤيا /ومكوناتها الفنية في قصائد “أولئك أصحابي” لحميد سعيد (2)



*عصام شرتح


خاص ( ثقافات )
لا شك في أن شعرية الرؤيا من محفزات قصائد( أولئك أصحابي) التي تتأسس على الوعي الجمالي بالقيمة الإبداعية لحوار الشخصيات الإبداعية التي تثير الرؤية ،وتحرك الشعرية من الأعماق،ولهذا ،فإن غنى القصائد إبداعياً من غنى شخصياتها ومؤثراتها الجمالية من تراكم الرؤى والأحداث والمواقف الشعورية التي تثير القارئ وتحفز الشعرية،وللتدليل على ذلك سنخصص القصائد التالية بالمكاشفة النصية عن مجموعة القيم الجمالية المؤثرة:
أولاً – البعد الرؤيوي لقصيدة( الشيخ يعود للبحر):
إن قصيدة( الشيخ والبحر) تحكي جوها الشعري المشتق من رواية(الشيخ والبحر)لآرنست همنغواي؛وهذه القصيدة تطرح رؤيتها من خلال شخصية(سانتياغو) الصبورة الجسورة العنيدة على متابعة الصيد، وعدم الاستسلام للقدر أو الركون إليه؛ إن الشاعر استحضر هذه الشخصية ليبث من خلالها إصراره على المقاومة حتى اللحظات الأخيرة، بالعودة إلى العراق كما هي رغبة الشيخ(سانتياغو) بالعودة إلى البحر والصيد؛ بجامع الإصرار، والعزيمة، وثبات الموقف عند شيخ البحر (سانتياغو)والشاعر، وهذه القصيدة سبق وأشرنا إلى أنها مشقة من”رواية الشيخ والبحر لآرنست همنغواي التي كتبها في هافانا عاصمة كوبا في العام 1951 ، وهي من روائعه وبتأثيرها نال جائزة نوبل للآداب في العام 1954
لقد رسم همنغواي شخصية سانتياغو من الداخل ولم يكتفِ برسم ملامحه الخارجية، فكان القوي القادر على خوض صراع غير متكافئ من دون أن ينكسر حتى بعد الهزيمة، كما عبرت الرواية عن جوهر المكان ، البحر، والساحل والمدينة، وظل الشيخ يحلم بالعودة إلى البحر.
المكان – هافانا – حيث كتب همنغواي روايته، والبحر مملكة سانتياغو، و- مانولين– هو الصبي ، والسمكة هي سيدة الإقيانوس، تكررت في القصيدة ، وهي – الأخت – والدلافين التي رافقته في رحلات الصيد ، غابت في لحظات الصراع ، وجاءت أسماك القرش ، كما غياب الجمال وحلول القبح”.(1).
ومن تدقيقنا في البؤر الرؤيوية العميقة التي تحكم المسار الرؤيوي العام للقصيدة نقف على البؤر المفصلية الرؤيوية التالية:-
1- تذكر الماضي العريق والحنين إليه:
إن القيمة البؤرية الرؤيوية الأولى تتمثل في تذكر الماضي العريق والحنين إليه، وهذا يعني كسر عزلته الوجودية، والعودة إلى ركب الحياة الجارف بما تحمله من احتدام واصطراع؛والشاعر يرى في شخصية(سانتياغو) قمة الإصرار والثبات والتحدي على المواجهة وعدم الاستسلام؛فهو رغم محاولاته الكثيرة اصطياد السمك، وسعيه الحثيث لتحصيل ذلك، لكنه لم يوفق ؛ وفي رحلته الأخيرة استطاع أن يصطاد سمكة ضخمة ؛ وبعد طول صراع مع قوة السمكة الكبيرة وتعلقه بها حتى الهلاك استطاع صيدها؛ وعلى الرغم من أنه لم يصل بها إلى الشاطئ (بر الأمان) إلا كهيكل عظمي إثر ملاحقة سمك القرش للسمكة المصطادة؛ وأكلها وهو يصارع بكلتا يديه، وهو رغم فشله في المحافظة على السمكة، لكنه أثبت قوة الإرادة والعزيمة لديه والتصميم على المواجهة على الرغم من فشله في الحفاظ على السمكة والحفاظ على مجده التليد، لكن رغم ذلك نال تقدير، واهتمام الصيادين، والبحارة على عزيمته القوية؛ وإرادته الجسورة؛ و لهذا لقبوه ب(شيخ البحر)؛وأول ما نبرزه من بؤر رؤيوية دالة تذكر الماضي التليد، ومغامرته العظيمة، إذ يقول:
“في عُزلته..
يتذكَّر هافانا.. والبحرَ و أقراشَ البحرِ
ومانولين صبيَّ الماء.. وكوخاً كان هناكْ
يتذكّرُ سَيِّدَةَ الإقيانوس.. الطيِّبةَ الهادئةَ..
الفضِّيةَ..”(2).
إن اعتماد الإيقاع السردي،في رصد الأحداث والأماكن والشخوص الأخرى في الرواية يخلق طقسها الماضوي، ويمنحها طابع التذكر والحنين لأجوائها الماضوية بكل ما تفيض عليه، من رؤى،ومؤثرات، ومواقف، وأحداث، وهذا الجو الذي يرسمه للشخصية الروائية يكسبها مزيداً من التألق، والبث الرؤيوي الاغترابي على لسانها،وهذا ما يمنح الشخصية الروائية قوتها وفيوضاتها الرؤيوية والاغترابية ضمن القصيدة. ولو تابعنا سيرورة الأحداث ومجرياتها لوجدنا فاعلية الإيقاع السردي الوصفي في بث ذكريات الشخصية وحنينها إلى زمنها الماضوي، بفاعلية رؤيوية خلاقة منتجة للأحاسيس والرؤى الاغترابية المفعلة للحدثين الشعري والروائي،كمافي قوله:
يومَ اقتربتْ منهُ..
وينسى ما كانَ لها
هي أختي.. كانَ يُردِّدُ في عزلتهِ
كيفَ أظلُّ بعيداً عنها..وهي هناكْ؟
مُذْ فارقتُ منازلها..
كنتٌ وحيداً.. ما شاركني البحرُ فراشي
وتخلّى عّنّي..”(3).
إن الإحساس بالفرقة أصعب ما يجرح شعور المغترب، خاصة عندما تكون فرقة وطن، أو مهنة اعتاد عليها المرء، ولا يستطيع العيش بدونها؛ وما أجمل رفقة البحر وركوب المياه؛ ففي كل مجازفة في خضم البحر مغامرة جديدة، ورؤية جديدة، وانفتاح على عوالم وآفاق جديدة ؛ إن حسرة (سانتياغو) ليست فقط على السمكة الكبيرة التي خسرها، ولم يستطع الحفاظ علها ؛ وإنما حسرته على الأجواء الرحبة التي فارقها في عالم البحار، وهو يجوب كل يوم فضاءً جديداً، ويوماً بهيجاً يكسوه التفاؤل والأمل بصيد وفير؛ ولهذا، يحن إلى هذه الأجواء؛ وفي حنينه صوت داخلي يهيم به للعودة إلى تلك الأجواء مع رفقة الصبي(مانولين)، والسمكة الكبيرة(سيدة الإقيانوس)؛ورفقة البحر الذي هجره؛ وتخلى عنه.
وتتمثل مظاهر الشوق والحنين إلى تلك الأجواء عندما يحس(سانتياغو) أن كل ما في عالمه الماضي يبحث عنه؛ بكل ما فيه من أشياء وأماكن وأيام وسنين؛ إذ يقول:
كُلُّ سنيني..
تقفُ الآن على الساحلِ.. تسألُ عنّي
ودلافينٌ طيٍّبةٌ.. كانت تتبعني حيثُ أكونُ..
تُشاركُني أسئلتي..
تبحثُ عنّي ..
الصيادون رفاقي.. سألوا صاحبة الحانةِ عنّي
أَتفادى ما كنتُ أرى..
تُقبِلُ سيِّدةُ الإقيانوس.. الطيِّبةُ الهادئة..
الفضِّيةُ..
تدخُلُ في حُلُمي.. فأفارقُها في الصحوِ
لتتركَ لي عندَ ضفافِ النومِ.. هداياها”(4).
إن الشاعر،هنا، يتحدث بلسان شخصيته(سانتياغو)؛ وهذا يعني أنه يحكي بمشاعرها، وأحاسيسها الداخلية؛ ورؤاها، ومنظوراتها الوجودية؛ مما يعني أن ثمة رغبة جامحة لدى الشاعر في الانصهار بهذه الشخصية؛ بوصفها قناعاً يفضي بمشاعرها لا بمشاعره، وبرؤاها لا رؤاه، وبأجوائها لا أجواءه؛ وهذا انفتاح0 رؤيوي جديد في توظيف الشخوص المستحضرة على غير ما عهدناه في استخدام الشخصية التاريخية؛ بوصفها قناعاً على نحو ما عهدناه في شخصية (مهيار الدمشقي) عند أدونيس؛و(آداد) عند فايز خضور؛ و(شاهين) عند محمد عمران ،وغيرهم ؛ وهنا يستذكر (سانتياغو) كل ما مضى من صحبة، ورفاق، وأصدقاء وكل مشاهداته في البحر؛ بوصفها مصدراً خصباً لاسترجاع تلك الأيام ، والعيش بأجواء الماضي وآفاقها الرحبة؛ متخيلاً أن الأماكن جميعها تشتاقه، والأسماك والمراكب تحن إليه؛ وسمكته الكبيرة(الإقيانوس) بانتظاره؛ إن كل هذه المشاهد والرؤى المتخيلة تؤكد مصادر شوقه وحنينه إلى التمسك بالماضي، وتزداد هذه المشاهد حرارة كلما بدا حلمه واقعاً، وكأنه حقيقة؛ إذ يقول: 
“هاهي.. 
أجمَلُ من كلِّ أميراتِ البحرِ
لها..ما ليسَ لكلِّ أميرات البحرِ من السحرِ
تناديني..
والأقراشُ تُحييّني..
وأَراني أصطحبُ البحرَ إلى الحانةِ..
في ليلٍ يفتحُ فيه القمرُ الطفلُ.. جميعَ الأبوابْ
لندخُلَ مملكةَ الصيدِ.. وفردوسَ الصيّادينْ
أنا والبحرُ ومانولينْ
تُغافلُني الريحُ..وتذهبُ بي حيثُ تشاءْ
تُخرِجُني من إيلاف الماءْ
وتُنزلني في مدنٍ لا تعرفني..
وتُغافِلني ثانيةً..
تُسمِعُني في شدو طيورٍ خائفةٍ..
أُغنيةً سوداءْ”(5).
هنا، إن الشاعر ،هنا، يسترجع كل أجوائه الماضية المتخيلة ، ويتخيل ذاته أنه برفقة الصبي(مانولين)؛ وأسماك القرش المعادية/ والسمكة الكبيرة(الإقيانوس)؛ وبرفقة أصدقائه الصيادين يتسامرون في الحانة على جرأته، وشجاعته، وإرادته العظيمة ؛ فهو على الرغم من تقدم سنه لم ييأس ؛ ولم يركن للزمن ؛ وهو مازال يقاوم صعوبة الأيام وعجافة السنين؛ ويعيش الحياة بجسارة العظماء أراد الشاعر أن يسقط شخصية (سانتياغو) المقاومة الجسورة على شخصيته؛ مؤكداً إفادته من حوارها، والتحدث إليها، أو بلسانها؛ صحيح أن الشاعر استخدم الشخصية من الرواية ؛ لكنه أضفى عليها من أحاسيسه، ورؤاه الشيء الكثير؛ف(سانتياغو) هو الرمز الناطق لشخصية الشاعر؛ فهو على الرغم من تقدم سنه لن يستسلم، ولن يركن للزمن كشخصيته(سانتياغو ) لابد أن يعود للأجواء البغدادية ؛ ويعيش ماضيه العريق، وحياته الصاخبة الممتشقة بالمجد، والشهرة، والضوضاء، والإعلام ؛ إن العراق تمثل له البحر في الخير، والعطاء، والفضاء الرحب المفتوح شأن البحر بالنسبة لشخصيته (سانتياغو)؛ الذي يمثل له الفضاء والامتداد الروحي اللا محدود؛وبهذا الشعور والإحساس الرؤيوي الوجودي وظف الشاعر شخصية(سانتياغو) الجسورة العنيدة القادرة على تغيير مصيرها، وصناعة المستحيل ؛ وهذا ما أراد حميد سعيد أن يقوله على لسان شخصيته الروائية المستحضرة؛ وكأن كل شيء يتحرك أمامه يذكره بالأجواء البحرية،من أسماك ، وأصدقاء، وبحارة ، حتى الأماكن حنت إليه و أشتاقته؛ إن الشاعر استطاع أن يتمثل شخصية(سانتياغو) بفعالية رؤيوية ودلالية مؤثرة؛ مشيراً من خلالها إلى شوقه الجسور إلى استرجاع كل لحظاته الماضية في الأجواء العراقية ، والعيش معها كما فعل (سانتياغو) في رفقة البحر واقعاً وخيالاً. 
2- القص الشعري المتخيل/ وبلاغة المناورة السردية:
لا شك في أن الشعرية المعاصرة في ثوبها الحداثوي الجديد قد احتفت بتقنية القص الشعري،وبلاغة المناورة السردية التي تثير المشهد الشعري ببلاغة الحدث حراك الشخصية التاريخية أو الروائية المستحضرة، ولذلك ،تعتمد هذه القصيدة في بلاغة رؤيتها على تقنية (القص الشعري المتخيل) الشائق؛ وبلاغة المناورة السردية؛ ذات المد الرؤيوي والحنكة في الانتقال من متغير سردي إلى آخر ؛ مكثفاً الأحداث والرؤى المتخيلة؛ وهذا يعني كثافة الأحداث والمواقف والرؤى المتخيلة المحتدمة بالرؤى والمشاهد واللقطات الشعرية؛ كما في قوله: 
“في عُزلَتهِ.. يسمعُ صوتاً يعرفهُ..
سانتياغو
سانتياغو
سانتياغو
ويرى البحرَ قريباً منهُ.. وهذا زورقُهُ
تحرسُهُ سَيِّدةُ الإقيانوسْ”(6).
هنا، نلحظ أن ثمة صوتاً داخلياً ينادي(سانتياغو)؛ وهذا الصوت هو صوت البحر، والأمواج، وصوت أناه الداخلية المسكونة بعشق البحر، وحياة الصيد؛وهذا التكرار المتتابع للمنادى (سانتياغو) أضفى على المشهد الشعري طابعاً ملحمياً تراجيدياً صاخباً على مستوى شعوره الداخلي، وحالة الاصطراع التي يعانيها، من جراء هذا الصوت الداخلي الهادر بين إحساسه بالهرم، والضعف، والعجز، وإحساسه بدافع الرغبة، واسترجاع ما كان بدافع قوة الرغبة، والتعطش، لاسترجاع الأجواء البحرية، وكل ما يذكره بها من نداء، واستفهام، ومناجاة متخيلة للسمكة(الإقيانوس)؛ وهذا ما نستدل عليه بقوله:
ويخرجُ من صمتِ الليلِ إلى فتنتهِ..
إذْ يسبحُ ضوءُ النجمةِ..
في تيّاراتٍ صاخبةٍ غير بعيدٍ عنهُ
يا أنتَ..
متى كُنتَ تهابُ نبوءات الأبراج؟
متى كنتَ تعود عن الصيدِ.. إذا خذلتكَ الأمواج؟”(7).
هنا،يحاول الشاعر أن يرصد المشاعر الداخلية للذات الروائية بأسى اغترابي،جارح،يرمي من ورائه تكثيف الرؤى التحريضية للرقي بالشخصية من قلقها، ووجاعتها ،وانهزامها إلى أوج المجابهة، والثبات، والقوة، وهذا ما يجعل الشخصية الروائية لديه تتخذ طابعاً إنسانياً يعتريها من الضعف والقوة كما يعتريها في واقعها الحياتي الكائن المعاش، ولذلك، تكتسب شخصياته الروائية طابعها الإنساني الحقيقي في بعض وجوهها وأحاسيسها، ورؤاها المحركة للشعرية نبضاً ،وإحساساً وألفة واقعية معتادة،إذ يقول: 
كنتَ ترى في إغفاءاتك..
مُذْ غادرتَ الكوخَ الكانَ هناكْ
سبعَ غزالاتٍ يملأنَ فضاء النومِ..
وسبعَ يماماتٍ.. يوقظنَ الجارات..
أعددنَ فطوراً من صيد الفجر الطازج..
للجار العائد بعدَ غيابْ”(8).
هنا، يعتمد الشاعر بلاغة المناورة السردية في بث كل ما يعتصر الشخصية الروائية من احتدامات، وهواجس، ورؤى شعورية متخيلة؛ وكأن لدى الشاعر هاجساً إلى بث الأحاسيس الداخلية عبر الشخصية المحورية الثانية في القصيدة؛ وهي شخصية السمكة الكبيرة (الإقيانوس)؛باثاً من خلالها عتبها الشديد عليه؛ وحرقتها على واقعه، وما آلت إليه أحواله؛ فهي تمثل الصوت الخفي المقاوم الذي تحاول نداءه به؛ ليعود إلى عنفوانه، وجسارته، المعهودة التي كانت عليه؛ ليدحر غمامة اليأس المريرة التي يعانيها؛ ومن هذا المنطلق ؛ لجأ الشاعر إلى تكثيف الرؤى، وإبراز احتدامها من خلال هذه المناورة السردية الشائقة التي اعتمدت قوة الحركة؛ وعمق المحاورة في خلق هذه الأجواء الدرامية المكثفة لرؤاه الوجودية؛ فالشاعر أراد أن يخرج هذا الصوت المتلجلج من قرارة ذاته العميقة، باسترجاع تلك الأيام، واللحظات الماضية التي عاشها في الأجواء العراقية كشخصيته(سانتياغو)؛ لإبراز عنصر المقاومة، وثبات الموقف، والدفاع عن وجوده بجسارة وعنفوان كما فعل (سانتياغو) في مقاومته الزمن، ومحاولة العودة إلى البحر؛ وهذا ما جعل هذه الشخصية وكل ما يحيط بها من شخصيات وأجواء مساعدة في تحفيز الشخصية الجوهرية في القصيدة ؛ واستثارة جوهر الرؤية الشعرية من الصميم,وهنا، يتابع الشاعر في مناورته السردية الشائقة في خلق هذا البعد الدرامي أو الحركة البانورامية المشهدية في تعزيز الموقف الشعري، وتكثيف رؤاه؛ وهذا ما نلحظه في قوله: 
“إذْ يندفعُ التيّارُ الغامض.. تصحو الريحُ..
تناديهْ
يستقبلهُ مانولينْ
ويبدأ طلعته الأولى بعد سنينْ
يبتعدان عن الساحلِ..
ليس لأن الصيدَ إذا ما ابتعدا عنه وفيرْ
فهناكَ البحرُ رحيمٌ وكريمْ”(9).
هنا، يعتمد الشاعر الحراك الرؤيوي في بث مكنون الذات الروائية،وما تثيره من رؤى،وأحاسيس، وأقوال واقعية مألوفة تدخل باب الكلام اليومي المباشر،لإضفاء إيقاعها الواقعي، وهذا ما نستدل عليه من خلال قوله:( فهناكَ البحرُ رحيمٌ وكريمْ). وهذا الأسلوب المباشر في التركيز، على الحدث،والرؤية،والقول اليومي المباشر يقرب شخصياته من الواقع المعيش، لتكون رفيقة دربه في القول والفعل،ولهذا، يبني الحدث المتخيل، ويقرب الشخصية، من واقعها،خاصة في هذا النداء المتكرر من الأعماق، كما في قوله: 
إذْ كانَ يُناديه إذا صار بعيداً.. في الليل العاصفِ
سانتياغو
سانتياغو
سانتياغو
يعقدُ صُلحاً مع تيارات الأعماق.. يكون أخاً للحيتانْ
للسمكِ الطائر والروبيانْ”(10).
إن نظرة الشاعر التفاؤلية التي ما غابت ولن تغيب عن قصائده تسترجع شخصية(سانتياغو) إلى أجوائه البحرية؛ إلى صديق رحلاته القديم الصبي(مانولين)؛ ويبدأ رحلته الأولى في عالمه الوجودي الجديد، وهذه الرغبة دائماً تعاوده ليعقد صلحاً من جديد مع الأمواج، والمياه، والحيتان، بعدما غاب عنها طويلاً؛ وهذه المهادنة تعكس حالة من الضعف رغم بشائر الأمل والتفاؤل؛ف(سانتياغو القديم )لا يهاب البحر، يركب الأمواج شموخاً، وعنفواناً، وعزيمةً، وقوة ؛ أما (سانتياغو) الآن ؛ فيبدو أنه ضعيف يهادن لا يقاوم ؛ و يطامن لا يراوغ ؛و يصالح؛ لا يجابه و يجالد؛ وشتان مابين الحالين ؛ وشتان مابين الشعورين؛ الأول شعور القوة، والعزيمة، والصمود، والثبات؛ والثاني شعور العجز، والضعف، والمهادنة، والمطامنة ؛ وهذا ما خلص إليه من خلال الخاتمة النصية:
في دفء الليل ينامُ .. وتحملُهُ الأحلامُ..
إلى.. ما سيكونْ
وليسَ إلى ما كانْ”(11)
إن الرؤية التفاؤلية منزعها الحلم ؛ فكما يحلم (سانتياغو) إلى العودة إلى البحار بقوة، ومواجهة جسورة كما كانت؛ كذلك يحلم الشاعر بالعودة إلى أيامه ولحظاته الماضية جسوراً كما كان بجامع وحدة المصير، والألفة المشتركة والرابط الشعوري الموحد بينهما؛ وهذا ما جعل الشاعر يعيش رؤاه، ومشاعره بانفتاح رؤيوي نصي يشي بالكثير من الرؤى المتداخلة، والمواقف المستكنة في عوالمه ورؤاه الوجودية.
بلاغة الرؤية الشعرية / أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن الشاعر أراد أن يقول كلمته الأخيرة من خلال قصيدته( الشيخ والبحر)من خلال شخصية(سانتياغو)؛ وهو :أن الإرادة والصبر والتصميم هي التي تحقق المستحيل والمعجزات في الحياة ؛ فالقوة في الروح؛ وليست في الجسد؛ إنها في الإصرار، في العزيمة، والإرادة، والتصميم ؛ فهي القوى الفاعلة في تحقيق الوجود وإثبات الذات؛ وقد جاء استحضاره لهذه الشخصية بمنزلة القوة الدافقة في القصيدة ؛ فهي المحرك البؤري في الكشف عن مغزاها ومقصودها البعيد؛ ومن أجل ذلك ؛ عمد الشاعر إلى تحريك هذه الشخصية بوصفها قناعاً يبث من خلاله الكثير من الرؤى، والدلالات المغتربة؛ ليعلن صموده، وثباته أمام حاجز الاغتراب المرير؛ وإن من يطلع على هذه القصيدة بعمق، يلحظ بداعة المفاعلة بين شخصية (سانتياغو)، وشخصية الشاعر؛ وهذا الاستحضار جاء فاعلاً في تحفيز الرؤية الشعرية، وتحميلها دلالات لا حصر لها؛ وهذا ما يضمن فاعلية الرؤية، وبلاغتها ضمن القصيدة ؛ وكأنه أراد أن يقول كلمته الأخيرة وهي أن عزيمته وتصميمه لن يتلاشى في سبيل العودة إلى العراق؛ وما أكتسبه من شخصية (سانتياغو) القوة، والتصميم والإرادة الجسورة على صنع المستحيل ؛ بإحساس شعوري رغم اغترابه وصوته المبحوح يعلن جسارته بقوة ،وبلاغة شعورية- رؤيوية عميقة، ومناورة سردية شائقة؛ يدلل عليها الشاعر حميد سعيد في مساقات قصائده (أولئك أصحابي) على المستويات كلها.
وصفوة القول: إن استحضار الشاعر حميد سعيد لشخصية(سانتياغو) هو بجامع الألفة ووحدة المصير، وهو إذ يفعل ذلك، ينقل الشخصية، من سكونيتها إلى جمالها الشعوري، وفضائها النصي الجمالي المحرك للرؤى المكثفة والأحاسيس المتوترة.
رابعاً. البعد الرؤيوي لقصيدة(جحيم أَنّا كارنينا.. وفردوسها):
تجسد قصيدة(جحيم أنَّأ كارنينا .. وفردوسها) المرأة الجميلة اللعوب، التي تشدُّ بمفاتنها الجسدية الكبار والصغار؛ الأغنياء والفقراء؛الأخيار والأشرار؛ القادة، والحكام؛ إنها مثال المرأة الحرة التي تعيش طقسها الجسدي الحر دون أن يملكه أحد ، أو يستحوذ خاصيته أحد؛ إنها ترى في حركة الجسد ثورة الروح، وعنفوانها بلغة الأنوثة ؛ ولاشيء سوى الأنوثة ولغة الجسد؛ولا شيء سوى الجسد؛ وهذا ما جعلها مكمن الشهوة لكل الرجال؛ يجدون في حركتها وملامستها الطقس الأنثوي الذي تحفل به الأساطير ك(عشتار إلهة الخصوبة والجمال)؛ وقد يتساءل القارئ ما الدافع الرؤيوي الذي من ورائه استحضر حميد سعيد شخصية(أنَّا كارنينا)على الرغم من الأوصاف والصفات الإباحية الملتصقة بهذه الشخصية؟ ما هو المنظور الرؤيوي العميق الذي أراد الشاعر أن يقوله من خلال هذه الشخصية؟!قبل الإجابة نأخذ هذا القول الوصفي الدقيق لهذه الشخصية:
“أنا كارنينا، امرأة جميلة متمردة ، لعبت بالنفوس وألهبت المشاعر ، ومن خلال هذه الشخصية كشف تولستوي خبايا المجتمع الأرستقراطي”(12).
1- تكثيف اللقطات والمشاهد بعدسة الكاميرا أو القص التصويري المروي:
تحاول القصيدة تكثيف اللقطات والمشاهد الملتقطة لبطلة قصيدته شخصية(أنّا كارنينا)؛ مع الكثير من الإفضاءات الشعورية التي دارت حول هذه الشخصية ؛ بلغة سردية وصفية مشهدية تقرب الحدث الشعري من إدراك المتلقي، وإحساسه الداخلي؛ خاصة عندما أجاد الشاعر لغة الوصف؛ فهو لم يتحدث بلسان الشخصية المستحضرة كما حدث في شخصية (سانتياغو)، وإنما تحدث عن الشخصية؛ أي أن الشخصية غائبة على لسانه الناطق المحكي بها؛ ليحكي عنها حديث الحاضر/ الغائب؛ حاضرة في مشاهداته؛ ولقطاته، وغائبة عن لسانه المحكي بلسانها؛ وهذا ما يجعل هذه الشخصية بمنأى عن الشاعر فعلاً وحالاً لكنه ملتحم بها ثورة وانفتاحاً وتمرداً على عالمها الروتيني؛ إذ يقول:
أَنّا..
يقولُ لها.. وتقتربُ التي كانت تُرينا من مفاتنها الثريَّةِ..
ما يُذكِّرُنا .. بأَنّا
كانتْ المقهى القريبةُ من إقامتنا.. ببطرسبرغْ
تتركُ مقعدين..
لها.. ولامرأةٍ ستأتي ذاتَ يومٍ
مَنْ سيجرؤُ أنْ يُذكِّرها بماضيها..
ويسأَلُها.”.(13).
إن الشاعر هنا،يتحدث عن شخصية(آنا) حديث المشاهد لا حديث القاص الخيالي البعيد،وهو باعتماده السرد الحكائي الوصفي يقترب من الشخصية الروائية،ليضع القارئ في صلب الرؤية العينية المحسوسة،والمشاهدة المرسومة ل(آنا)، وهو بذلك يعزز المشهد الشعري،ويثير الحدث القصصي ويمهد له،بتراكم السرد والأسئلة المفتوحة التي تنقل الشخصية من الماضوية إلى التجسيد الآني والمواجهة الصريحة،كما في قوله:
لماذا أَسْلَمتكِ ظنونُكِ السودُ المُريبةُ.. حيثُ كُنْتِ..
إلى العواصفِ..
رافقتكِ إلى النقيضين .. السعادةِ والشقاءْ
كانَ المساءْ
مُخاتلاً..
والقادماتُ من الضواحي أو من المدنِ البعيدةِ..
بانتظار الليلِ..
يَغْمُزْنَ التي باعت صفاءَ الروحِ بالوهم الجموحِ
. . . . . .
. . . . . .”(14).
هنا، يبدأ الشاعر قصيدته بداية سردية أشبه ما يكون بأسلوب القص البوحي الحكائي، وكأن الشاعر يسرد مرويَّاته من خلال تكريس الكثير من اللقطات المشهدية لشخصيته الروائية المستحضرة شخصية(أنَّا كرنينا)، وهي في المقهى؛ وبجانبها مقعدان خاويان بانتظار صديقة لها؛ ثم يتابع رصد المشاهد الملتقطة المحيطة بها من خلال بعض النسوة اللواتي يهمسن عليها؛ ببعض الهمسات الخافتة،وكأن الشاعر يصور المشهد القصصي بعدسة الكاميرا التي تلتقط المشهد عن قرب وبعد،بمونتاج فني يرصد الأحداث بتفاصيلها ورؤاها الدقيقة: من خلال مشهد النسوة المتهامسات،وسؤالهن: كيف أباحت جسدها حتى آلت إليه أحوالها من عزلة، وضنك، وضيق؟! يا لها من مسكينة ؛ وهذه النظرة (نظرة الشفقة) هي التي جعلت (آنا) مغتربة عن عالمها،تعيش غربتها الوجودية وإحساسها المأزوم. وقد اعتمد الشاعر كعادته المد النقطي المفتوح، ليدلل على حجم الحيرة والوحشة التي آلت إليه والمدى المفتوح لتهامس النسوة عليها وصداه الجارح على روحها وإحساسها العميق.؛ وهنا، أردف هذا المشهد الموحش بمشهد أكثر امتداداً وانفتاحاً نقطياً استمر إلى المد النقطي المفتوح الآخر؛ كما في قوله:
“البومُ يزقو في حقولكِ.. بعدَ أَن رحلَتْ
وأنتِ.. 
تحاولينَ الجمعَ بين سريرِ عشقكِ والقنوطْ
هذا السقوطْ
أَملى على اللغّةِ اختياراتٍ تفارقُ ما تودُّ الروحُ
ما أَبقى على الوجه الصبوحْ..
إليكِ..”(15).
هنا، يتحدث الشاعر إلى الشخصية الروائية، حديثاً مواجهاً محاولاً استحضار شخصية(آنا) من خلال الجو الروائي والأحداث الروائية، من جهة،ومنظوراته الشعورية وإحساسه الروحي بها من جهة ثانية، وهذا ما جعله يصور عالمها الوجودي بإحساسه،وشعوره الداخلي العميق. ومنظوراته الرؤيوية الملتصقة بالشخصية لتحاكي الشخصية من الأعماق،من جمر اصطهاجها،وما عانته من حرقة ممزوجة بالقلق والتوتر،كما في قوله:
وما تسلَّلَ من نفاقْ
إلى فراشكِ.. أَغْلَقَ الأعماقَ..
كان فضاؤها .. وطناً جميلاً
إنَّ أقداراً يَمُدُّ لها الغموضُ.. يَداً
تُفَرِّقُ بينَ ما خَبَّأتِ من قلَقٍ..
وما عانيتِ من حُرَقٍ..
تُقَرِّبُ بينَ جمركِ والجليدْ
. . . . . .
. . . . . .”(16).
هنا؛ بد الشاعر أكثر قرباً من الشخصية ؛ حين بدأ يستنطقها ويفضي إليها بمكاشفة حقيقية لواقعها وإحساسها العميق من خلال الكثير من الصور، واللقطات، والمشاهد البائسة التي تدل على رؤية سوداوية قاتمة لواقعها الحالي بعدما كانت مصدر شهوة الكثيرين، ومكمن جموحهم الجنسي الزائد؛ كيف أصبح حقلها جافاً تسكنه البوم والغربان؛ بعدما كان يعج بالإشراق، والغنج، والسحر، والدلال؛ والدليل المرجعي على ذلك قوله:”البومُ يزقو في حقولكِ.. بعدَ أَن رحلَت/وأنتِ.. تحاولينَ الجمعَ بين سريرِ عشقكِ والقنوطْ/هذا السقوطْ”؛ وقد اعتمد المد النقطي ليدل على امتداد هذه الحرقة، وشمولها لروحها، وجسدها، ومشاعرها المصطرعة بين (القبول/والرفض)، و(الاستسلام/ والتحدي)، بين( الجرأة /والخوف)، و(الثورة/والاستكانة)؛ وهذا يدل على الكثير من الانفتاح، والإحساس الروحي الذي يغلي في داخلها بين الواقع الحالي، والواقع الماضوي الحر الذي عاشته؛فحبيبها(فرونسكي) الفارس الشجاع كان عشيقها الأزلي؛ وهي ضحت بزوجها وآثرت حبيبها عليه؛وذهبت معه؛ ومن هنا، اعتمد الشاعر إبراز حدة الصراع الذي تعيشه(أنَّا) مع واقعها الوجودي الحالي؛ وهنا؛ كعادته يقف على المد البصري المتتابع لإثبات أثر الحالة ومرارتها على ذات (أنا كرنينا)، إذ يقول:
“أَنّا..
أَكادُ أشكُّ إنّي قدْ عرفتكَ..
والتقينا في بلادٍ ما رآها غيرُنا..
نحنُ الذينً نُقيمُها أنىّ نَشاءْ
وكُنتِ مُشرِقَةً.. تحفُّ بعطركِ الأقمارُ
يهفو الساهرونَ إليكِ”(17).
هنا، يعقد الشاعر مواصلته الحوارية، مع شخصيته الروائية(آنا)ليحكي عالمها الإغوائي،وما تحمله من رؤى،وأحاسيس،ومشاعر محتدمة في قرارة ذاته العميقة؛ وهكذا،يبث الشاعر الرؤى والدلالات من خلال الكشف عن مشاعر الشخصية من الداخل،وهذا ما جعل الشخصية بؤرة حراك الدلالات، ومبعث تراكم الرؤى والمحفزات الشعورية. وهذا ما يدلل عليه بقوله:
” فِتنَتُك المُحَنًّكَةُ .. التي تهبُ البهاء ضراوةً..
روحٌ مشاكسَةٌ..
تُبادٍلُ عتمةَ النزقِ المُراوِغِ بالحبورْ
أَنّا..
سمعتكِ تسأَلينْ
مَنْ أَنتِ ؟!
أَسأَلُ صاحبي في ليل بطرسبرغ..
في المقهى القريبةِ من إقامتنا
وقدْ تَبِعتْكِ .. عاصفةٌ من الرغباتِ..
مَنْ هي َ؟
لا أَكادُ أرى سوى فِتَنٍ.. تُطِلُّ كما الغيوم السود.. 
مِنْ جَسَدٍ يغصُّ بما تبقى من وقارْ
. . . . . .
. . . . . .”(18).
إن القارئ أكثر ما يلحظه الطابع التراجيدي الاصطراعي الذي تعيشه (أنا كارنينا)؛ وما تمثله من مظاهر الإغراء؛ والفتن؛ والخصوبة، والجمال ؛ ويتخيل الشاعر؛ وكأنه التقى بها ذات يوم وحاورها عن مظاهر هذا السحر الجمالي الفتان الذي كان مصدر إغراء وإغواء الجميع؛ لكل من يتحثثه ويشاهده؛ ودائماً كعادته يقف على المد النقطي المفتوح الذي يزيد الأثر البصري دلالة على المدى الجمالي المفتوح لمظاهر فتنتها؛والدليل الرؤيوي المرجعي على ذلك قوله:” لا أَكادُ أرى سوى فِتَنٍ.. تُطِلُّ كما الغيوم السود.. / مِنْ جَسَدٍ يغصُّ بما تبقى من وقار”؛ فهي مصدر فتنة الساهرين؛ ومطمع ليلتهم الحارة، وهذا يؤكد نظرته الوجودية المنفتحة وجسدها الحر؛ إن الشاعر أراد أن يعقد مقارنة بين عراق اليوم وعراق الماضي؛ فهو أشبه ب شخصيته الروائية(أنَّا كرنينا) التي كانت مصدر خصوبة، وجمال، وإغراء للجميع، والآن أصبحت في عزلة موحشة بعدما خسرت الزوج، والابن، والحبيب؛ الذي تخلى عنها ؛لأن حبها الجامح إليه يقيده ويخنقه؛ وهو الآن يعبر عن العراق(الأمس)، وعراق (الحاضر)ب(أنَّا كرنينا) فقد كان العراق مصدر استقطاب الجميع إلى محاسنه وإغوائه؛ في حين تحول العراق اليوم إلى غابة موحشة مقفرة منفرة لكل من يشاهده؛ وشتان مابين جمال العراق وسحره في الماضي وما آلت إليه أحواله الآن من وحشة وخراب وتشرد وضياع.
2- الاغتراب الروحي/والاغتراب الوجودي:
إن الشاعر أراد أن يعكس حالة الاغتراب التي تعيشها (أنا كرنينا) في مرحلتها الأخيرة على حالته بعدما فقد الأجواء العراقية؛ بكل فضاءاتها الرحبة، وعوالمها الوجودية، وطقوسها الساحرة ؛ فقد كان هاجس محاورة الشخصيات الروائية فيما مضى هاجساً فنياً رؤيوياً إنسانياً، أو وجودياً محضاً؛ أما الآن فالهاجس واحد والشعور واحد، وهو إثبات حرقته، واغترابه الوجودي؛ فالشخصيات البطلة هم شخصيات تعكس وجوده، واغترابه، واحتراقه؛ وهي الشاهدة على حاله وواقعه؛ واغترابه،وإحساسه الوجودي المأزوم؛ ولا نجافي الحقيقة ؛ إذ نقول: هم شواخص عيانية على معاناته، وأحاسيسه الاغترابية؛ صحيح أن لكل شخصية وجهتها، وسلوكها الخاص، ومسارها الرؤيوي المميز؛ لكنها جميعاً تصب في منحى واحد، وشعور واحد هو المعاناة ؛إذ إن كل شخصية من شخصياته تعاني بالقدر الذي ميزها عن سواها ؛ لينقل لنا صور اغترابه، بوجوهها كلها وأحاسيسها الاغترابية بأشكالها، ومختلف مؤثراتها الرؤيوية والوجودية التي تحكمها؛ وهذا يعني أن اغتراب(أنَّا كرنينا)هو شكل من أشكال اغترابه الوجودي، وإحساسه المأزوم إزاء واقعه الوجودي، ومعاناة اغترابه عن العراق؛ ولهذا، جعل شخصيته(أنّاَ كرنينا) تعاني غربتين ملتهبتين:( غربة الروح/ وغربة الجسد)؛ وهاتان الغربتين لا يعاني منهما إلا الشخصيات المأزومة التي تملك درجات عليا من الحساسية والوعي؛ إذ يقول: 
وبغُربتينْ..
في الروح والجسد المنافقِ..
لا يُحيطُ بمائها المُرِّ المُرائي..غيرُ ما يهَبُ الخرابْ
تتوالدُ الظلماتُ في اللغة المُريبةِ..
كلُّ مَنْ فُتِنوا بها.. ندموا
ومن حاموا على لآلاء فضتها.. تَلَبَّسهم سُعارٌ
واستباحوا ليلَ فتنتِها.. كما تغدو الذئابُ
وبغربةٍ أخرى.. تُفارقها حرائقها..
ويجفوها الصحابُ
. . . . . .
. . . . . .”(19).
إن الشاعر أراد أن يجسد اغتراب شخصيته باغترابين مريرين على الروح هما اغتراب الجسد؛ وهو اغتراب ناتجه الزمن ؛ فقد تحول جسدها البض الجميل إلى خرقة بيضاء تكسوها التجاعيد، ولم يعد جسدها البض الجميل يفيض بعذوبته ونضارته كما كان؛ لقد فقد جسدها كل مظاهر الفتنة والجمال لدرجة أن من يعرفها يشعر بالندامة والحرج على مضاجعتها في مرحلة من المراحل أو وقتاً من الأوقات؛ وهذه الغربة هي التي تطعن الأنثى بالمقتل؛ ومن ثم جاءت غربتها الروحية الممثلة في حالة الوحدة والانزواء؛ وهذه الغربة الروحية ضاعفت من أثر غربتها الجسدية ؛ وضاعفت من أثرها الضاغط على روحها؛ خاصة عندما تخلى عنها جميع الأحبة والأصدقاء؛ ولهذا جعل المد النقطي مفتوحاً بصرياً ورؤيوياً ودلالياً ليدلل على حالة الاغتراب والخواء المستمرة التي تعيشها(أنَّا)إلى ما لانهاية ؛ ما عاد في حياتها إلا الخواء والوحشة والفراغ الممل الذي يقتل الروح قبل الجسد؛وهو بهذا الإحساس والشعور ترك مساحة بيضاء متساوية في مدها النقطي؛ ليدل من خلالها على المدى الاغترابي المفتوح لحرقة(أنا كرنينا) وعزلتها الممتدة المريرة.وهنا يحاول أن يفلسف رؤية (أنَّا كرنينا) وفلسفتها لحرية الروح، والجسد؛بشيء من الوجاعة، والإحساس الروحي الممزق على نظرة المجتمع الأحادية، وأحكامهم المتجبرة الظالمة؛إذ يقول على لسان حالها:
“المستحيلُ..
أن يسجُنَ الشهوات في ما تفتري..
جَسَدٌ جميلُ
أو يغلق الأبوابَ دون عواصفٍ .. وجعٌ نبيلُ
الحبُّ..
أن يقفَ الزمانُ..
وليس بعض الوقت .. يقصرُ أو يطولُ”(20).
إن الشاعر أراد أن يتفاعل مع شخصيته الروائية تفاعلاً رؤيوياً حساساً؛ يكشف من خلاله عن عاطفة الحب المشبوبة بالحياة،فشخصيته الروائية كانت حاضرة بقوة بجموحها العاطفي،وتوقها لكسر كل القيود والانفتاح على الحياة؛ بعيداً عن نواميس البشر، وأحكامهم، وقوانينهم الصارمة، وهو يحاور الشخصية محاورة ناجحة، منطلقه الأساس الإحساس بالشخصية الروائية والتفاعل مع إحساسها وشعورها ومعاناتها وطموحاتها،وليس الانفصال عنها، أو الابتعاد بها عن كيانه وإحساسه الوجودي،وهذا يعني أن الشخصية تنطق بلسانه وإحساسه قبل إحساسها وشعورها، كما في قوله:
“الحبُّ.. 
أن تتجدّد الغاباتُ والفلواتُ، والأنهارُ، والأمطارُ..
والأفكارُ والأشعارُ.. والضحكُ الخجولُ
الحبُّ..
أنْ تدنو البحارُ من المُحبِّ .. إذا دنا منها..
تُرافقهُ إلى أحلامهِ.. وتنامُ حيثُ ينامُ..
. . . . . .
. . . . . .”(21).
إن نظرة (أنّا كرنينا) للحب في تجدده؛ في استمرار تدفقه كنبع لا ينقطع؛ لا يقف في طريقه حاجز زماني أو مكاني ؛ أو وجودي ؛ إن الحب تجدد، وعطاء، وحراك أبدي لا يتوقف أو ينتهي؛ إنه أكبر من الزمان والمكان؛ حتى أنه أسمى من الحياة كلها؛ وأسمى من الوجود بعينه؛ وما أجمل هذا التعبير الفني على لسانها في التعبير عن هذا الشعور النبيل:ا(لحبُّ../أن تتجدّد الغاباتُ و الفلواتُ والأنهار والأمطارُ../والأفكارُ والأشعارُ.. والضحكُ الخجولُ)؛وبهذا الشعور والإحساس الدافق عبر عن عمق تصوره لهذه الشخصية؛بما تنطوي عليه من رؤى فلسفية وتصورات وجودية مفتوحة، بإحساس جمالي مثير،يظهر تفاعل الشاعر مع شخصياته الروائية من إحساسه قبل إحساسها،وشعوره الداخلي الذي يحرك هذه الشخصية، ويكسبها حراكها، ومنطوقها الرؤيوي الموارب أو المختلف ؛و أكثر ما جسده في الفاصلة الختامية: 
“أَنّا..
ذاكَ مقعدُكِ
انتظرنا شمسكِ البيضاءَ.. في المقهى القريبة من إقامتنا ببطرسبرغْ
قُلنا.. فليكن ما كانَ وهماً..
وليكن حلماً جحيماً
ولتكوني .. في مفاتنك الثريّةِ..
ما يُذَكِّرنا بأنَّا..”(22).
إن هذه النظرة التفاؤلية باسترجاع زمن شخصياته القديم في قفلات قصائده؛ له مثيره الرؤيوي الخاص إذا ما اسْتَرجَعت شخصياته الروائية زمنها فقد يسترجع هو زمنه القديم ؛ لهذا؛ ما غابت هذه الروح التفاؤلية المنبثقة من ثنايا قصائده إلا لتدلل على روحه الجسورة، وتصميمه على استرجاع ماضيه القديم أفضل مما كان؛ فكما سيعود زمان (أنَّا كرنينا) سيعود زمانه لا محالة، وتعود العراق بزهوها الروحي، وإشراقها الجمالي كما جسد( أنّأ) البض الجميل.وما جسد (آنا كارنينا) إلا رمزاً للمقاومة والخصوبة ،والتكوين الجديد، والصمود،وارتجاع الأزمنة الخصبة كما كانت.
بلاغة الرؤيا الشعرية/ أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن الشاعر باستحضاره لشخصية(أنَّا كارنينا) أراد أن ينوِّع في شخصياته الروائية، لتعيش قصائده مسارها الرؤيوي المفتوح؛ وإحساسها الوجودي الحر؛ فقد تكون هذه الشخصية منبوذة في مجتمعاتنا الشرقية، لكن الشاعر عمد بقصد معرفي إلى محاورة هذه الشخصية لتقوم بوظيفتين، أو دورين بارزين هما :إثبات الحرية الوجودية؛ والكشف عن تناقضات الواقع وأحكامه وعاداته الظالمة؛ هذا من جهة؛ ومن جهة أخر ليعيش الشاعر أجواءه الرؤيوية المنفتحة؛ لتكون هذه الشخصية رمزاً للعراق ؛ليس كسلوك؛ وإنما كوجود وهوية؛ فالعراق كان بالأمس يموج بالخصوبة، والحيوية، والجمال كجسد (انَّا كارنينا)؛ أما الآن فقد تهدم العراق، ولم يتبقَ من آثاره إلا الأطلال،لقد غدا خرقة بالية كجسد (أنَّا كارنينا) في المرحلة الأخيرة؛ وهذا يعني أن كلمة القصيدة الأخيرة؛تتمثل في أن العراق سيعود يوماً أكثر خصوبة مما كان كجسد (أناَّ) البض الجميل ، وسيعيش الشاعر زمنه الماضي في حلمه العراقي الجميل، وزمنه الماضي الخصيب؛ ولن يرضى بديلاً عن ذلك ؛ هذا ما تجسده شخصياته على اختلاف تجاربها، ورؤاها، وأدوارها في قصائده.
وصفوة القول: إن اتحاد الشاعر بشخصياته في رؤاها وأحاسيسها، ومؤثراتها، وتطلعاتها، وفضاءاتها الرؤيوية المنفتحة هو ما يمنح هذه القصائد تنوع مغرياتها ورؤاها ومنظوراتها الوجودية المختلفة،ولهذا تتنوع الرؤى والدلالات المقترنة بهذه الشخصيات،وتمنحها ألقها الجمالي وسحرها الفني المراوغ في منحاها الوجودي وفضائها الشعري الذي دخلت فيه أتون القصائد على مسار المجموعة،من أول قصيدة إلى منتهاها.ولهذا يصعب الوقوف على رؤية نهائية محددة إزاء كل شخصية من شخصياته الروائية في هذه المجموعة،وهذا ما يضمن انفتاحها الدائم وحراكها الرؤيوي المستمر؛وبهذا المعنى تبقى شخصياته مشرعة على الحياة بجوانبها المختلفة ورؤاها المتناقضة، وهذا ما يكسبها الحرارة والطزاجة الوجودية في تحقيق متحققها الإبداعي المعيش،وهذا ما يدلنا عليه الشاعر بقوله:( أنا عشت مع هذه الشخصيات وعايشتها ليس كالمتخيل، بل معايشة المدرك الرائي، الذي لم يتوهم يوماً، بأن الإنسان يختار ظروف حياته، فيأخذ منها ما يريد ويرفض ما لا يريد .وفي هذا القول لا أصدر عن رؤية سلبية ، بل أصدر عن رؤية واقعية ، وهكذا هي الحياة ، في الماضي والحاضر وفي المستقبل أيضاً.فلكل تجربته، ولكل خصوصية في هذه التجربة، التي هي نتيجة ظروف تاريخية واجتماعية وبيئية وثقافية، ولكل تجربة من هذه التجارب ما يمكن أن نتعلم منها، بالحوار والمعايشة)(23) .
خامساً- البعد الرؤيوي لقصيدة( ملهاة الدكتور زيفاغو):
تطرح قصيدة الشاعر(ملهاة الدكتور زيفاغو)جسارتها الرؤيوية عبر استحضار أكثر قصص الحب تراجيديا درامية؛ وهي رواية(الدكتور زيفاغو)؛ وشخصية الدكتور(زيفاغو) في أجواء القصيدة لا تختلف عن شخصية (زيفاغو) الروائية إلا بأحاسيس شعرية نابعة من قريحة شاعر مرهف حساس؛ يملك عمق الرؤية في محاورة الشخصية؛ وكأنها تجربته الذاتية ؛ إن القصيدة تطرح نهايتها الدرامية، ببعد أكثر تفاؤلاً من أحداث الرواية التراجيدية؛ فالشاعر لم يبتعد بأحاسيسه، ورؤاه التفاؤلية عن عالم القصيدة، وفضاء الرواية بكل ما تحمله من أبعاد رؤيوية إلا ما ندر؛ فهو لم يستبعد أجواء الرواية السياسية ولا أحداثها المحتدمة المصطرعة ؛ إنه جسدها بمنظوره الرؤيوي، وإحساسه بها من الداخل؛ من خلال سلسلة الاحتدامات والرؤى التالية: 
1- تكثيف الأحداث الدرامية المحتدمة:
إن أول ما يفتتح الشاعر قصيدة(ملهاة الدكتور زيفاغو) تكثيف الأحداث، والرؤى الدرامية المصطرعة ؛ والمحيط التوتري بين الرأسمالية/ والشيوعية والتيارات السياسية المختلفة في رؤاها ومنظوراتها؛ وممارساتها الحياتية؛فالشاعر أراد أن يضعنا منذ البدء في أجواء الرواية لنعيش زمنها الإبداعي قبل زمن القصيدة، ورؤيتها الجديدة ؛ ومنظورها الرؤيوي المختلف؛ ولهذا أدخلنا في جوها مباشرة من خلال فاتحتها الاستهلالية؛ إذ يقول فيها:
“يُطاردُهُ الحُمرُ والبيضُ..
يطردهُ الملكيون والفوضويونْ
ويُشكِّكُ في ما يرى ويقول.. رجالُ الكنيسةِ والمُلحدونْ
كلُّ الذين أباحوا دمَ الآخرينْ
من كلِّ قومٍ ودينٍ.. وطائفةٍ..
يعدّون ضحكته خطراً.. يَتَهَدَّدهمْ
ويرونَ..
في ما يُفكِّر فيه.. خروجاً عن الصفِّ.”(24).
إن الشاعر يضعنا في جو ملحمي درامي متوتر منذ البداية، إذ ينقلنا إلى الطقس الوجودي المطارد ،من خلال مطاردة رجال الكنيسة والدين كل رجال الفكر في الزمن القديم(زمن شخصيته الروائية(شخصية الدكتور زيفاغو) ،ويعلن مطاردته هو من قبل السلطات المجرمة،بجامع الاضطهاد، والظلم، الذي عان كل منهما الدكتور(زيفاغو)،والشاعر،وهذا يعني أن كليهما يمثلان وجه الاغتراب والاضطهاد والمطاردة في زمنهما، الشاعر من قبل السلطات الأمريكية إثر الغزو الأمريكي للعراق،والدكتور(زيفاغو) من قبل رجال الدين والكنيسة الملحدون،وهكذا، يصور الشاعر المشاهد والأحداث برؤى، ومداليل واقعية حيناً، ومؤثرات جديدة،يبثها بين الحين والآخر حيناً آخر؛وذلك وفق ما تسجله الرؤى المبثوثة في الأنساق الشعرية التالية: 
“حيثُ يكونْ
ينصبونَ فِخاخاً لأحلامهِ..
وتَشُمُّ الذئابُ مواقِعَ أقدامِهِ..
وتتبَعُهُ..
يقفُ الثلجُ بينَ تطلّعهِ والطريقْ
يرى في البلاد التي تتشظّى.. كما يتشظّى الزجاجُ
ما لا يرى السادرون في غَيِّ ما لا يرونَ..
ضَيِّقَةٌ هي المُدُنُ التي تخافُ من الشعرِ
وأضيقُ منها نُفوسٌ تضيقُ بأسئلة الآخرينْ”(25).
هنا؛ يدمج الشاعر منذ البداية ملهاة الدكتور(زيفاغو) بمأساته؛ في التحام بؤري- رؤيوي اصطراعي ؛باندماج الواقعين معاً؛ والموقفين الوجوديين اللذين يعيشهما في عالمهما الوجودي ؛ فكما أن (الدكتور زيفاغو) يعاني من مطاردة الرأسماليين، واضطهاد رجال الدين؛ وملاحقة الذئاب البشرية، والنفوس المتعطشة للقتل والدم عانى الشاعر من أولئك في زمنه السياسي، واضطراره الاغتراب والرحيل بعد الغزو الأمريكي للعراق؛وذلك للنجاة من أولئك الذئاب التي لا ترحم ولا تنظر إلى الأشياء إلا من منظارها الدموي؛ فالزمن الوجودي واحد وإن اختلفت الشخصيتان فلا تختلف الأحداث الدرامية التي تصادر رجال الفكر والكلمة في كل زمان ومكان؛ وتغدو الكلمة خطراً عليهم؛ لأنهم يعرفون أن الكلمة في موضعها أشد وقعاً ومضاءً وحدةً من حدِّ السيف بعينه؛ وطبيعي حيال ذلك أن يلاحق(الدكتور زيفاغو) في زمنه، كما لُحِقَ الشاعر في زمنه بعد الغزو الأمريكي؛ وهنا- بمفاعلة شعورية- بين الشخصيتين استطاع الشاعر أن ينقلنا من جوه الدرامي إلى فضاءات شخصيته الروائية المستحضرة(شخصية الدكتور زيفاغو/ و محبوبته(لارا) وجوها الدرامي التراجيدي كذلك، بإحساس شعوري واحد لا ينفصم؛ ولا يتجزأ؛لكن باختلاف بسيط بين المحبوبتين( محبوبة الشاعر (العراق والأجواء البغدادية)؛ ومحبوبة الدكتور زيفاغو (لارا)؛ والأحداث الدرامية التي جمعتهما بقصة حب لا تنسى على مر التاريخ، والنهاية التراجيدية المؤلمة التي انتهت بموت الدكتور (زيفاغو) وهو يجري وراء محبوبته بعد فراق طويل شاهدها على محطة الترين، ركض مسرعاً وراء حبه القديم، يلاحق طيفها الذي اقترب منه حتى الالتصاق، ووقع صريعاً دون أن يحصل محبوبته، ودون أن تلاحظه، مات على رصيف قدميها، ليعلن نهاية أعظم قصة حب في التاريخ؛ ومضت (لارا) في بياض لا ينتهي.. وإحساس تراجيدي مأساوي حزين لا ينتهي.. وهذا ما جعل الشاعر يكثر من الفراغات والنقط البيضاء إحساساً مريراً لخواء الوجود وانعدام الحياة فيه. وهنا؛ يوظف الشاعر شخصية الدكتور(زيفاغو) تمثيلاً فنياً مثيراً في استحضار هذه الشخصية بأبعاد ومنظورات متجددة تطرح الواقعين معاً والرؤيتين الوجوديتين في آن واحد؛ وهذا ما جعل تمثله لهذه الشخصية مؤثراً. واستحضارها لها والعيش معاناتها وإحساسها محركاً فنياً ورؤيوياً للقصيدة 
2- استرجاع الزمن الماضي بلواعجه الغرامية ودراميته الحارقة:
إن رغبة الشاعر واضحة إلى استرجاع الزمن الماضي الذي عاشته شخصية(الدكتور زيفاغو) بكل مجرياتها التي عاشته في الرواية، ليكون تمثله لهذه الشخصية واقعياً من جهة، ومرتكزاً على أبعاد معرفية ورؤيوية من جهة ثانية؛ ولا غرابة أن يستعرض الشاعر مجريات الشخصية التي مرت بها شخصية( زيفاغو) من أحداث حقيقية، كزواجه من امرأة غنية، وولادة طفليه منها؛ كما تدور الأحداث في الشخصية الروائية الواقعية وفق مجريات سردية قصصية تعكس مجريات القصة وفضاء القصيدة المتخيل؛ وهذا ما ندلل عليه من قوله:
“ذاتَ مساءٍ حزينْ
تَتَسَلّل ُأحلامُهُ .. ويَظَلُّ وحيداً
تُجَرِّدُهُ الريحُ مما تَبَقّى له.. من طفولتهِ..
وبَنيهِ وزوجته.. ويَظَلُّ وحيداً
لماذا تخيَّرَ لارا ؟
وخيَّرها بين حالين.. أنْ تتشرَّدَ أو تتشرّدَ !
أَدْخَلَها في عواصفهِ..
إنَّ مملكةَ الشعراءِ تغدو مباركةً.. بحنان النساءْ
. . . . . .
. . . . . .”(26).
هنا، يرصد الشاعر مجرى الأحداث بواقعية متناهية ليدلل على أن للدكتور( زيفاغو) طفلين؛ وزوجة؛ وهنا؛ يتساءل لماذا اختار حبيبته(لارا) إذا كان متزوجاً وله أسرة؟؟! وهذا السؤال يضع النفس البشرية في حالة تراجيديا/ أو صراع بين الإنسان ككتلة قيم، ومشاعر، وعواطف متجددة؛ والإنسان كآلة بلاستيكية مادية لا مشاعر ولا عواطف ولا أحاسيس؛ إن الإنسان لم يكن ولن يكون خاضعاً لأعراف وتقاليد سوى لإنسانيته وممارسته الشرعية لهذه الإنسانية؛ وأهم مفرزات هذه الإنسانية ممارسته لحريته الذاتية في النطاق الأخلاقي لها؛ إن حب الدكتور(زيفاغو) لا يعني إلغاءه لعاطفته كزوج وأب؛ لأن ما يعتمر في النفس البشرية أكبر من حجم طاقتها واستطاعتها؛ والحب يمثل القيمة العليا الجارفة التي يعشق من خلاله الوجود ويعشق خالق الوجود؛ و(لارا) تمثل للدكتور( زيفاغو) نبض الحياة دون أن يتجرد عن دوره المحب لزوجه وطفليه ؛ وهذه المعادلة الوجودية بعيدة كل البعد عن مفاهيم مجتمعاتنا الشرقية التي تقيس الأمور بحسابات أخلاقية أو دينية مغلوطة؛ جلها يصب في مصلحة الداء المتفشي في مجتمعاتنا العربية تشويه الحب ،وتشويه المنظور الروحي الأخلاقي إليه؛ وإن من لا يملك حبيبة وإن كان في سن المائة، فهو متجرد عن إنسانيته، ووجوده، وماهيته كإنسان وشخصية(الدكتور زيفاغو) هي الشخصية الثائرة المتمردة ليست بقيمة الحب فحسب ؛ وإنما بقيمة البحث عن هذا الحب والتشبث به إلى اللحظة الأخيرة؛ إلى لحظة الأزمة القلبية والجري وراء الحب؛ وإن أعلى القيم الوجودية رأس مالها الحب؛ وما دون ذلك رهين سراب.وهذه المعادلة أدركها الشاعر في شخصية الدكتور( زيفاغو) مع اختلاف في الحبيبة ، فحبيبة الشاعر(العراق)، ولاشيء سوى العراق ؛ ومعشوقة(زيفاغو لارا) ولاشيء سوى(لارا)، يقول الشاعر:
” لارا.. هي الدفءُ والطمأنينةُ
لارا.. قصيدتهُ الأخيرةُ
كانتْ تلوحُ لهُ كلَّما فارقتهُ أصابعهُ..
فتعودُ إليهْ
وتذهَبُ لارا .. بعيداً
يُطاردهُ ما تخيَّلَ من صورةٍ للبلادِ
ويطردُهُ مَنْ تَخَيَّلَهم ْ أُمناءَ على ما تَخَيَّلَ..
من صورةٍ للبلادْ
خَذَلَتهُ الطيورُ التي اعتكفتْ في الشتاءْ
واعتزلت في الربيع.. الغناءْ”(27).
إن (لارا) ليست شخصية ثانوية وإنما هي رمز للجمال الذي تمثله معشوقته العراق، ف(لارا)(زيفاغو) هي (بغداد)حميد سعيد، ويعكس من خلال هذه الملحمة الغزلية،وجهي الحياة بجمالها وحنوها ،ولهذا يمثل التصاق الشخصيتين معاً بحراك رؤيوي مركز حساسية القصيدة ومحرقها الإبداعي الذي يثير القارئ،ويحقق الإثارة والمتعة الفنية من خلال المجاذبة بين الشخصيتين والواقعين الروائي والشعري، وهذا ما يجعل القصيدة متحركة في رؤاها وأحداثها ومداليلها الشعرية،ومتخلقاتها الوجودية، إذ يقول:
خَذَلَتْهُ القصائدُ.. حينَ تأَبّطها كذبُ الشعراءْ
خذلتهُ المدينةُ..مُذْ أَطفأَتْ قناديلَ مُعجَمِها..
لتغدو الكتابة.. بلهاءَ.. بلهاءَ.. بلهاءْ
ناضِبَةً ومُدقِعَةً.. كما أفقر الفقراءْ
يَتَجَمَّع كالثلجِ.. ثمَّ يذوبْ”(28).
الشاعر هنا،شأن الدكتور (زيفاغو) ،فكما يبحث الدكتور (زيفاغو)عن محبوبته (لارا) يبحث الشاعر عن محبوبته العراق ومدينته الضائعة ،فكلاهما يبحثان عن عالمهما المشرق بعد أفوله ورحيله الدامع الموشح بالأسى والمرارة والجراح والوجاعة، كما في قوله:
أرهقتهُ الحروبْ
كلُّ مفاجأةٍ تترصّدهُ.. خبّأتها الدروبْ..
تَليها مُفاجأةٌ..
ليحيا حياةً مُرَوِّعةً.. من قبيل الملاحم كانتْ
وكانَ.. كما في الأساطيرِ..”(29).
إن الشاعر يعيش متنفس شخصياته،ومعاينتها الوجودية بواقعها وإحساسها حيناً،وواقعه وإحساسه الوجودي حيناً آخر،وهذا ما يجعل منطوق الشخصية ناتج مقولين أو إحساسين متداخلين مقول الشخصية ومقول الشاعر في استنطاق هذه الشخصية في تحريك الأحداث وتكثيف نواتجها الرؤيوية والدلالية،وهنا يعبر بوصفه المروي والسارد لمعاناة شخصيته(شخصية زيفاغو) الذي يحيا حياة مريرة أشبه بحياة الأساطير وغربتهم ومعاناتهم الأسطورية الخارقة. ولهذا، يرصد واقع شخصياته، بتفاصيلها، ورؤاها، ومنظوراتها الدقيقة،وكأنها دخلت زمنه الوجودي ليحيا معها،و يعايشها من الداخل،من بواطن الشعور والإحساس،إذ يقول:
يُنبتُ أنىّ يكون حقولاً خُرافيةً.. ويُغادرها
ويُقيمُ بيوتاً كما يتمنى.. ويهجرها
يتغيَّرُ وجهُ البلادِ.. وهو كما كانَ..
أو يتغيَّرُ حكامُها.. وهو كما كانَ..
تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ.. ويألفها وتغيبُ..
وهو كما كانَ..”(30).
هنا،يدمج الشاعر واقعه بواقع شخصيته الروائية،ويجسد من خلالها واقعه الاغترابي (واقع المطاردة/ وواقع الغربة والغياب)،فهو وشخصيته الروائية يعاني الحسرة والندامة، كلاهما يلتفت إلى هاجس يسكنه في داخله،وهذا الهاجس هو استعادة أزمنة وذكريات وأخيلة،كلاهما يعيش المرارة،والحرقة،والتوق إلى الآخر(الشاعر العراق وبغداد)وشخصيته الروائية (زيفاغو)محبوبته(يارا)،وحنينه الدائم المشوق إلى محبوبته، ولهذا يلتصق الشاعر بشخصيته التصاقاً تاماً بواقعها وإحساسها وشعورها ونبضها الداخلي.وهذا ما يظهره قوله: 
“يرسمُ لارا على صفحةٍ من كتابٍ قديمٍ.. ويوقظها
فإن غيّبتها المنافي.. تَخَيَّلها.. حيثُ كانَ
تُشاركهُ عربات القطارات..
تسبقهُ.. 
إذ يُحاولُ أن يتآلفَ من غير مَكْرٍ.. مع الخوفِ
في كلِّ بيتٍ سيدخلهُ ويفارقهُ بعدَ حينْ
وفي كلِّ ثانيةٍ تتخفى.. وتهربُ..
حتى تكونَ.. خارج بيت السنينْ
. . . . . .
. . . . . .”(31).
إن من يقرأ هذا المقطع الشعري المطول يدرك بانوراما الرؤى المتخيلة الشعرية ؛ ويلحظ تداخلاَ مذهلاً بين شخصية الشاعر ومعشوقته العراق، وشخصية الدكتور(زيفاغو) ومعشوقته(لارا) بجامع الألفة، والود، والحنان فكما تحن (لارا) إلى العشيق الدكتور(زيفاغو)؛ وتمثل له الحضن الدافق بالخصوبة والوداعة والجمال؛ فإن العراق محبوبة الشاعر الأزلية تمثل له الحضن الدافئ الرؤوم ؛ ولهذا نلحظ أن زمن النفي الذي عاشته شخصية (لارا) في أجواء القصيدة هي ليست كذلك في أجواء الرواية؛ وكأن الشاعر أراد أن يدمج الواقعين والشخصيتين معاً شخصية الشاعر ومحبوبته العراق المنفية التي شاركته مشاعر الغربة والنفي والاحتراق ؛وشخصية الدكتور (زيفاغو) وقد شاركته (لارا) مرارة النفي والاغتراب ؛ ليلتقيا مرة أخرى وتصطهج لحظات الحب من جديد؛ وتعود الرؤى المشبوبة والدلالات المفتوحة على أشدها؛ وتبدأ المغامرة من جديد؛ وكأن حالة اختفاء (لارا) وظهورها تمثل شرارة الحياة المتقدة في نفس(زيفاغو) كلما افترقا؛ ثم التقيا فجأة تتقد شرارة الحب من جديد لتصبح أكثر اصطهاجاً وشوقاً واتقاداً عاطفياً مشبوباً؛ ولهذا؛ ترك الشاعر مساحات فراغية من النقط البيضاء ؛ ليشير إلى هذا الواقع المتغير الفضائي المفتوح ؛ وكأن دارة الزمن مازالت منفتحة واللقاءات الجديدة واردة والأمل بالعودة إلى محبوبته العراق مازال مفتوحاً على مصراعيه؛ وهذا المد النقطي لم يكن مجانياً؛ وإنما يملك دلالته في الحركة وإنتاج الدلالة. 
3- التراجيديا الدرامية:
إن إيقاع التراجيديا الدرامية يسدل بستاره الأخير على القصيدة ؛ وكأن الشاعر على غير عادته آثر أن يحفر في البؤر التراجيدية العميقة باحثاً عن عراقه ‘ وبطله(زيقاغو) باحثاً عن محبوبته(لارا) ؛ وإن النهايتين التزامتا النهاية التراجيدية المأساوية التي تعكس حالة من الاغتراب والحرقة الوجودية والفراق الأبدي؛ إذ يقول:
“ثمَّ عاد إلى بيتهِ..
يتساءلُ.. هل عاد يوماً إلى بيته ؟!
كان يبحثُ عن كلِّ ما ضاع منه.. قصائده والبلادْ
أُسرته وحبيبته..
كلُّ أصحابه اعتكفوا.. هاجروا.. قتلوا.. انتحروا
وماكان يبحثُ عنهُ.. طوتهُ الأعاصيرُ..
فاختارَ لحظته الأخيرةَ.. ثمَّ مضى..
لينامْ”(32).
إن هذه النهاية التراجيدية والإحساس الوجودي يعكس تلاحم الواقعين وانصهارهما معاً في أتون الرؤية ذاتها، والإحساس التراجيدي ذاته ؛لقد فارق الدكتور (زيفاغو ) محبوبته(لارا) فراقاً أبدياً إثر رحيل أحدهما وهو رحيله إثر نوبة قلبية بعد مطاردته لمحبوبته لارا؛ والشاعر افتقد العراق إثر نفيه عنها؛ ليعود في النهاية إليها؛ ويؤثر النهاية ذاتها ليعيش لحظته الأخيرة في بيته ومكتبته، ويموت على سريره الدافئ الذي افتقده، وفارقه في لحظات الحرقة والأسى والاغتراب.
بلاغة الرؤية الشعرية / أوكلمة القصيدة الأخيرة
إن قصيدة(ملهاة الدكتور زيفاغو)لحميد سعيد تريد أن تحقق بلاغتها الرؤيوية عبر شخصيته الروائية(زيفاغو) لتقول كلمتها الأخيرة؛ فكما تشبث (زيفاغو) بمحبوبته (لارا) فإنه سيتشبث بمحبوبته(العراق) إلى اللحظة الأخيرة؛ لتقول القصيدة لتطرح رؤيتها الجسورة؛ وتعلن النهاية الدراماتيكية التراجيدية بالموت دون الوصول إلى المعشوقة في الرواية ؛ لكن في القصيدة يموت (زيفاغو) في حضن( لارا)؛ وهو على سريره في بيته ووطنه وحضن معشوقته العراق؛ ولن يرضى بديلاً عنها؛ وبهذا، تلتحم التجربتان في خضم الرؤية النهائية، والمصير الواحد؛ والموقف الواحد، والنهاية التراجيدية المشتركة؛ وهذا ما أرادت القصيدة بثه رؤية وموقفاً ونتيجة.
وصفوة القول: إن الرؤية الشعرية التي تطرحها قصائد حميد سعيد تتنوع في رؤاها ومؤثراتها وفواعلها الدلالية، وهي ذات حراك رؤيوي مفتوح ؛ إذ تتأسس على كثافة الأحداث والمداليل المتوترة،والرؤى العاصفة، ودرجة انحرافها في واقعها وسلوكها،وفي قوتها وضعفها،وهذا ما يضمن شعريتها، وفاعليتها الرؤيوية.
6-البعد الرؤيوي لقصيدة(قيامة مدام بوفاري):
إن قصيدة(قيامة مدام بوفاري) لحميد سعيد تتضمن أكثر من رؤية وموقف هي تطرح شخصية مدام بوفاري المتحررة المتوهجة حساسية ومعرفة بوصفها قارئة روايات عديدة ؛ إذاً، شخصية(مدام بوفاري)؛ شخصية مثقفة اجتماعياً ومعرفياً ولكن صدمتها أن زوجها الطبيب لم يكن بحجم حماسها وثقافتها ووعيها وحرارة منظورها الجموح للحياة ؛ فوقعت في فراغ عاطفي كبير دفعها للبحث عن الشخص الذي يوازيها في المعرفة، والوعي، والإدراك؛ وعندما لم تجده قررت الانتحار.. إن القصيدة تحاول أن تكشف عن نوازعها النفسية والوجودية بإيقاع جمالي يحمل أكثر من رؤية ، ويثير أكثر من موقف؛ ويحرك أكثر من شعور؛ ويثير أكثر من قضية كلها تصب في البحث عن الحرية؛ حرية التصرف، وحرية الوعي، وحرية الإرادة؛ ولعل أبرز المواقف والرؤى التي أثارتها القصيدة نلخصها بالمواقف الرؤيوية التالية:
1-المروي القصصي الشعبي:
لقد افتتح الشاعر قصيدته( قيامة مدام بوفاري) بلغة الأمثال واللغة الشعبية الشائعة، ليقرب هذه الشخصية من الواقع؛ ولأول مرة يذكر اسم مؤلف الرواية في القصيدة في حين أنه مستبعد في الروايات السابقة ليكون الموجه لحركة الشخصية من العمق؛ ولعل مفتتح القصيدة( قيامة مدام بوفاري) يشير إلى دلالات السرد القصصي أو المروي السردي الشعبي؛ إذ يقول: 
“سمعتُ في ما قالَهُ مُشَخِّصٌ لعوبٌ..
قُرْبَ جامع الفنا بمراكشَ..
إنَّ جَدَّهُ الذي أقامَ في الريفِ الفرنسيِّ.. التقى بامرأةٍ
تقولُ.. إنها حفيدةُ التي افترى عليها المُفترونَ..
ويقولُ في روايةٍ عن جدِّه..
عن التي تقولُ إنّها حفيدةُ التي افترى عليها المفترون..
إنَّ السيِّدَ ” فلوبير” ذو خيالٍ صاخبٍ..
وكانَ قدْ أحبَّ ” إيما”
مثلما أحبَّها كلُّ الذين اقتربوا منها
فأهملتهُ..”(33).
إن إشراك المؤلف في الرواية كان له مبرراته ومستوجباته الرؤيوية ليجعله حبيب (إيما) مدام بوفاري زوجة شارل بوفاري؛ التي افتقدت إلى الزوج المثقف المتوهج عاطفة وإبداعاً؛ إن مدام بوفاري المتمردة في الرواية هل تكون عشيقة السيد فلوبير ؟! أم أنها ستهمله مثلما أهملت الكثيرين وأوقعتهم في شرك حبها وغنجها ودلالها؛ وهنا، تكمن رؤية القصيدة الجديدة ؛التي تناقض الرواية؛ ففي الرواية يكون (فلوبير) غائباً عن شخصياتها وأحداثها وشخصياتها؛ صحيح أنه المؤلف لها، وهو الذي يوجه أحداثها من الخارج، أما أن يكون شخصية محورية في الراوية فهذا ينافي واقع الرواية الحقيقي؛ كما مثلته القصيدة؛ ومن هذا المنطلق؛ يخرج الشاعر عن واقع الرواية الحقيقي كاشفاً عن رؤية جديدة ومنظور رؤيوي مغاير؛وهذا يعني أن الشاعر سيكشف لنا عن رؤى جديدة ومدلولات مغايرة عن أجواء الرواية ومدلولها المباشر؛ ولعل أبرز الدلالات والرؤى المغايرة أنها أهملت معشوقها المؤلف( فلوبير) رغم ثقافته وتوهجه الإبداعي؛ وهذا يعني أن ما تبحث عليه مدام (بوفاري) ليس الثقافة فحسب؛ إنها تبحث عن الروح في الحياة عن التغير،والتمرد، والتماهي مع كل جديد في شكل الحياة وجوهرها؛ إنها تبحث عن شخصية مثالية متعالية كشخصيتها؛إنها لا تريد شخصية بسيطة سهلة النوال والالتقاط؛ إنها تريد وجهها الآخر في الحبيب المنتظر؛ وهذه فلسفة مدام بوفاري في أجواء الرواية والقصة؛ إنها تريد العشيق المحنك الذي لا يلبي كل رغباتها دفعة واحدة ؛ ولا يروي تعطشها الروحي دفعة واحدة؛ بل يترك لها رغبات جموحة لا تستطيع إرواءها إلا من خلاله؛ إن هذا الزوج أو العشيق المحنك الذي يناور،لم تعثر عليه(مدام بوفاري)، إذ إن كل من عرفتهم يتهاوون أمام جبروت جمالها مذعنين لسطوة هذا الجمال يحاولون التقاطه بتذلل وود شديدين؛ وهنا تكمن عقدة (مدام بوفاري)؛ إنها لا تريد السهل المتهاوي أمام عتبة قدميها ؛ إنها تريد الشخصية الجسورة المتعالية والتي لا تتزعزع أو تنكسر لأحد؛ وفي الآن ذاته تملك شبقاً روحياً مصطهجاً ووعياً وثقافة وعاطفة تفيض ولا تنتهي كشبق روحها وإحساسها في الحياة ؛ إن كل من عرفتهم مدام بوفاري منكسرون؛ لهذا، لا يروي شبق روحها رجل أو علاقة؛ لدرجة يمكن القول: إن في روح (مام بوفاري) يسكن ملايين الرجال؛ ما إن يظهر واحد يختفي الآخر؛ وهذا لا يعني أن مدام بوفاري منحلة أخلاقياً؛ وإنما هي طاقة روحية وجمالية خلاقة أو فياضة؛بحاجة إلى إرواء دائم كما هي الحياة في تجددها وينوع خصوبتها؛ والآن يراودنا سؤأل: هل نظر الشاعر حميد سعيد إلى (مدام بوفاري) من منظورنا ؛ ودخل من هذا الباب النفسي أو السكيولوجي في تحليل هذه الشخصية ومناقشتها في قصيدته؟؟ هذا ما سوف تظهره أقواله الشعرية في القصيدة؛ نأخذ قوله التالي كدليل بدئي على منظوره الرؤيوي الموافق لمنظورنا:مثلما أحبَّها كلُّ الذين اقتربوا منها
فأهملتهُ..”، وهذا دليل أولي على منظوره الحر المنفتح لهذه الشخصية؛ وهنا يتابع الشاعر مقوله الشعري متبعاً الأسلوب ذاته في السرد الحكائي؛ والذي يكشف عنه قوله:
“ويقولُ الجِدُّ.. في روايةٍ عن الحفيدةِ التي التقاها
لم تكن ” إيما” .. ” مدام بوفاري”..
التي انتزعها خيال السيِّد ” فلوبير” من وقارها الساحرِ..
واختارَ لها قيامةً هوجاءْ
ثمَّ زَجَّها في ميتَةٍ رعناءْ
إنَّ ” إيما” امرأةٌ من عسجدٍ وعاجْ
لَيِّنَةٌ..
كأَنها غُيمةُ بيضاء من عطور الشرقِ.. ترتدي عباءةً من الديباجْ
مُترفَةٌ كزهرة القطنِ..
متى التقَيتَها..
تلاعبَتْ بكَ الظنونُ مثلما تلعبُ بالنوارس الأمواجْ
هي التي تفتحُ بابَ العشقِ.. إنْ شاءتْ
وتُدني من وعود الجسد الغامض.. مَنْ يحومُ حولها من الرجالْ
حتى إذا ما احترقوا بجمرها الخِصْبِ..
نأتْ بنفسها .. عمّا يظلُّ باحثاً عنها من الرمادْ”(34)
إن ما أشرنا إليه سابقاً من رؤى يؤكد توافق منظورنا لشخصية مدام (بوفاري) مع منظور القصيدة؛ وأجوائها الرؤيوية المنفتحة؛ فالشاعر أضفى على (مدام بوفاري) سلسلة من الصور الرومانسية الساحرة في سياق سردي تصويري شائق أكثر منه سياقاً وصفياً حكائياً أو وصفاً رؤيوياً ؛ مما يدل على شعرية آسرة في تغليف هذه الشخصية بإطارات تصويرية ترتقي في سياق القصيدة أكثر ما ترتقي بها في سياقها الروائي المتخيل ؛ وهذا يعني عمق منظور الشاعر الرؤيوي لهذه الشخصية وتفاعله معها روحاً قبل أن يكون شعوراً وإحساساً وعاطفة؛ وللتدليل على ذلك نأخذ صورة واحدة من سلسلة صور هي:”إنَّ ” إيما” امرأةٌ من عسجدٍ وعاجْ/لَيِّنَةٌ../كأَنها غُيمةُ بيضاء من عطور الشرقِ.. ترتدي عباءةً من الديباجْ/مُترفَةٌ كزهرة القطنِ..”.وهذا يدلل عمق الصورة وجاذبيتها وسحرها الإيحائي الآسر؛ وإن ما تفضي به القصيدة من دلالات تصب في مجرى واحد هو البحث عما يسد خواءها الروحي والشعوري والعاطفي من الرجال ؛ وقد سبق أن أشرنا : إنها تبحث عن وجهها الآخر في الرجال؛ فكل الرجال الذين عرفتهم منقادين ؛ إنها تريد رجلاً بحماسها ووعيها ليقودها؛ وليست لتقوده؛ وهذا الأمر جعلها في خواء روحي بعيد كل البعد عن الخواء الجسدي الذي قد يظنه القارئ العادي؛ ويتخذه مأخذاً أخلاقياً على (مدام بوفاري)؛ وهنا استطاع الشاعر بمهارة وتفنن سردي/ تصويري في مكاشفة هذه الشخصية من الداخل ومحاورتها بعين الوعي والحقيقة، لا بعين الإسقاط عليها أي إسقاط ما قيل وما يقال عن هذه الشخصية؛ في رؤيته الشعرية ؛ وهذا ما جعل هذه القصيدة من الدرر التي تفيض بها قصائد هذه المجموعة لقدرتها على ملامسة هذه الشخصية من الداخل والتفاعل معها بحساسية مرهفة؛ ووعي فني، وتقنيات شعرية عالية كالمونتاج الشعري الفني/ واللقطات المشهدية والصور التمثيلية وما إلى ذلك من تقنيات مؤثرة في مجال الخلق الفني والإثارة الشعرية؛ وبتقديرنا: إن بلاغة الرؤيا وعمق المنظور ودهشة التفاعل الرؤيوي في هذه القصيدة كان الدافع الأبرز في خلق هذا التلاحم الإبداعي بين الجوهر الرؤيوي(المضمون الشعري) والشكل الفني؛ وهذه المعادلة لا تحققها إلا النصوص الإبداعية المميزة.
2-جمالية الصورة ومونتاجها الشعري:
إن أبرز محفزات قصيدة( قيامة مدام بوفاري)؛اعتمادها تقنية الصورة ومونتاجها الفني؛ والصورة ليست فقط مغرية في مدها الدلالي؛ وإنما مغرية في تكثيفها الإيحائي؛ وحنكتها المشهدية والأوصاف الشاعرية؛ فكل صورة في النسق السردي معجونة بفيض من نور؛ ورحيق من مسك ،وزمرد، وعطور؛ وهذا ما تكشف عنه؛ سلسلة الصور المشهدية الوصفية التالية في هذا النسق الشعري؛كما في قوله:
“على صدى خُطاها .. أو على وقع خطى جوادها الجميلْ
تَقافَزُ الجنادبُ
وتصعدُ السناجبُ.. إلى أعالي السنديان..
وتُطِلُّ غابةٌ عذراءْ
بينَ يديها يقفُ المساءْ
مُكللاً بالماء
. . . . . .
. . . . . .”(35).
إن القيمة البلاغية التي تثيرها الصور الوصفية تتعلق بمدى حساسيتها في التقاط الدلالات؛ وتكثيف الرؤى؛ ومونتاجها الشعري الذي ينظم حركة الصور في تتابعها وتقاطعها بما يحقق اللذة المشهدية في بنية الصورة المركبة؛ وهنا صوَّر الشاعر(مدام بوفاري)على حصانها (صورة مشهدية قريبة) ؛ يقرب المشهد أكثر ؛ وكأننا أمام عدسة تصوير ترصد أدق التفاصيل الجزئية ؛ ممثلة في (تقافز الجنادب) و(تصاعد السناجب إلى أعالي السنديان) على وقع خطى جوادها الجميل؛ ثم يولد مشهداً متخيلاً على أفق جمالي لا متناهٍ إطلاقاً( تطل غابة عذراء- بين يديها يقف المساء مكللاً بالماء)؛ إن هذه الصور المتخيلة لا يقولها إلا شاعر مبدع يملك جسارة الرؤية وعمق الإحساس الشعري،وقد ترك الشاعر مداً نقطياً ليدلل على أن المد الجمالي لحرك المشهد الكلي لشخصية (مدام بوفاري) على حصانها ؛ وهي تجوب الحقول والسهول والوديان مفتوحا ً بسحره وخصوبته إلى مالا نهاية؛ وبهذا يتعاضد الشكل البصري مع الشكل اللغوي في إبراز الطيف الجمالي اللامتناهي لشخصية(مدام بوفاري)؛ ومن هذه الصور المونتاجية في ثنايا القصيدة الكم الوفير الذي يتجاوز العد؛ انظر إلى سلسلة الصور الممتدة على كامل المقول الشعري التالي: 
“في كُلِّ عامٍ يصلُ الشتاءْ
إلى فراشها في أولِّ الليلِ..
وإذْ يراها في بهائها الضاري
يُقيمُ مهرجان الدفء.. ثمَّ يغلقُ الأبوابْ
وإذْ يعودُ الصيفْ
تطلعُ من معطفها الزيتي.. غصناً يافعاً
فيملأُ الأمداءْ
بنزقٍ مُكابرٍ.. وفتنةٍ بيضاءْ
أنّى تكون في طريقها إلى مواسم الشذى..
يَتَّسعُ الفضاءْ”(36).
إن الحنكة الجمالية في ربط الأوصاف وتتابعها في السياق الشعري هو ما يكسب شخصية(إيما) هذا السحر الجمالي عبر ما أضفاه الشاعر على الشخصية من رؤى وقيم جمالية محركة لباقي الأنساق والكاشفة عن عمق المخيلة وشعريتها لديه، فهو يزركش المشاهد بريشة جمالية تحلق بفضاءات الرؤية الشعرية المتخيلة “إلى فضاءات عميقة في الاستثارة والأفق الجمالي المتناغم؛كما في قوله:
تَخْرُجُ من صورتها التي انتهت إليها..
فتضيعُ في متاهةِ الأقوالْ
أَليسَ من حقيقةٍ سوى الذي يُقالْ؟!
إنَّ ” إيما” امرأةٌ..
يُدركها الرضا إذا عشقها الرجالْ
وهي امرأةٌ..
تولَدُ إذْ تٌحِب.. وتموتُ حينَ لا تُحَبُ..
وهي نجمةٌ ..تُضيء في مدارج العشقِ..
ويخبو ضوؤها في جفوة العُشّاقْ”(37).
إن القارئ يلحظ استغراق الشاعر في تكريس الصور المشهدية ؛ بإحساس شعوري يفيض عذوبة جمالية؛ليقف الشاعر بعد سلسلة الصور الرومانسية المشهدية الوصفية المتتابعة على حقيقة جوهرية هي : أن الذي يزيد جمالية المرأة وجسارتها وخصوبتها بقاءها مركز استقطاب الرجال ومحط إغوائهم جميعاً مهما تقدم الزمن؛ وهو يرى أن السبب الوحيد الذي دفع ب( إيما) إلى الانتحار أنها فقدت هذه الجاذبية والقدرة على الإغواء ؛ وفقدت هذا البريق الذي كان محط إغواء وإغراء الرجال جميعهم ؛ ولا نبالغ في قولنا : إن درجة تفاعل الشاعر بهذه الشخصية زاد من قوة حضورها وتكثيف الرؤى وتحريضها؛ ومن أجل ذلك عمد في القسم الأخير من القصيدة إلى الحديث عنها؛ ولهذا، بد الحديث بارداً بسبب طغيان السرد الحكائي الوصفي واعتماد سلطة المروي بلسان التراجم والأخبار والأقوال السالفة المروية؛ وهذا ما قلل من فاعلية الشخصية في قسمها الأخير ؛ وهذا ما نلحظه في قوله: 
“سَأَلتهُ..
إنْ كانَ جَدّهُ الذي أقام في الريف الفرنسي..
لهُ روايةٌ عن زوجها.. غير التي رواها السيّد” فلوبير” ؟
قالَ.. لا
يَختلف الناسُ عليه..
بين من يقولُ كانَ غِرّاً ساذَجاً
ومَن يقول.. إنّهُ خرتيتْ”(38).
إن اعتماد السرد الوصفي في إبراز ملامح الشخصيات هو ما يكسب قصائده حركة جمالية في الرؤية والإحساس والنبض الجمالي،وهذا نستدل عليه في تعدد أشكال الوصف بين السرد الوصفي و،القص الشعري،وإبراز اللغة الساخرة،يضاف إلى ذلك الألفاظ الدالة على إيقاعها الرؤيوي الساخر( كان غراً ساذجاً- إنه خرتيت)،وهكذا، تحقق اللغة الشعرية الروائية عبر حركة الشخصيات،قيمها المثلى،وشعريتها الفاعلة. ولودققنا في تفصيل السرد الشعري، لتبين مثار هذه الشعرية،كما في قوله:
” 
تَقتَرِنُ الدهشةُ بالدهشةِ..
مِن أين لها هذا الشذى السرِّي..
كيف احتملت هذا الحضور الصعبَ..
كيف انتزعت أسطورة مربِكَةً..
في لحظةٍ عابرةٍ.. من بلدةٍ منسيَّةٍ
ومنحَتها الكونَ ملعباً..”(39).
إن إبراز الاستغراب والدهشة من قوة الحضور الذي اتخذته(إيما) في وجودها،هو ما جعلها تدخل في سياق أسطوري، ملحمي ،وهذا الاستغراب هو ما فعَّل الرؤيا الشعرية ،وعزَّز من فاعلية الرؤية الرافضة لعالمها وواقعها القمعي؛ ولهذا نالت (إيما)شهرتها في عالمها الوجودي والروائي،في الحدث والموقف الثائر او المتمرد على واقعها؛ فالشاعر هنا،لا يعيد شخصية(إيما) بواقعها الحرفي،وإنما أضفى عليها حركة رؤيوية إيحائية وأدوار جديدة، تثير الحدث والموقف الروائي،وتعززه فنياً. 
ولو دقق القارئ في شفافية التعبير لأدرك القيمة الوصفية لحضور الشخصية الروائية في الحدث الشعري،وهذا ما يرفع من شعرية القصيدة ،ويعزز مردودها الجمالي ،كما في قوله:
فكلُّ امرأةٍ ” إيما” وكلُّ رجلٍ لابد أن يعشقها يوماً..
ستنطوي السنينْ
وهي لاتكفُّ عن مدِّ الذين يقرأون عنها..
بالذي يزيدُ من حرائق الخلافْ
بينَ ولايتينْ
ولاية الخيال.. وولاية الأعرافْ
في مخطوطةٍ.. كتبها الرحّالةُ الشريفُ مولانا المدينيُ..
يقولُ فيها..
حيثما نزلتُ في مشارق الأرض وفي المغاربِ..
وَجدتُها..
أنّى أكون في المطارات وفي محطّات القطارات وفي الموانئ
كأنها ..تُقيمُ في كل زمانٍ..
بانتظار رجلٍ.. سيأتي”(40).
إن القارئ يلحظ معنا خفوت الوتيرة الشعرية بعد اصطهاجها في القسمين السالفين والصور الإشراقية المشعة ؛ ولعل سيطرة المروي بلسان نقل الأخبار والتراجم جعل المقول الشعري تبليغياً أو إخبارياً ؛ وهذا ما أضعف من فاعلية الدور المنوط بالشخصية بعد ما كان خصباً بالدلالات والرؤى المنفتحة؛ لكن رغم هذه الملحوظة تعد هذه القصيدة من درر الديوان إحساساً وشعرية؛ ولو دقق القارئ في مغريات القصيدة على المستويين الرؤيوي والفني لعجز عن إدراك أبعادهما ومصدر تلاحمهما الفني المغري؛ وهذا ما يحسب للشاعر في قصيدته ورؤيته.
بلاغة الرؤية الشعرية/ أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن قصيدة(قيامة مدام بوفاري) لحميد سعيد؛ تريد أن تقول كلمتها الأخيرة ؛ إن العراق في توهجها وخصوبتها وجمالها تمثل شخصية(مدام بوفاري) المحبة للحياة ؛ التي تعشق رجالها الأبطال؛ ومازالت تغري الآخرين، وتشدهم إلى حضارتها، وثقافتها، ووعيها ؛ وما تميُّز الشاعر في التحليق بالأوصاف والصور المشهدية الساحرة إلا لأنه يرى في (مدام بوفاري) هذا التوهج، والحضور الجمالي؛ الذي افتقده في عراقه الآن؛ وما نهاية( مدام بوفاري) الانتحارية إلا دليل ما وصلت إليه حال العراق من فوضى، وقتل، ودمار؛ وبهذا، تعاضدت الرؤى وإن اختلفت المنظورات والمسميات بين الواقعين؛ في إبراز الجانب الإشراقي في شخصية (مدم بوفاري) و(العراق) في ماضيها المشرق وحضارتها، وطبيعتها الخلاقة؛ فكما أن(مدام بوفاري رمز للأنثى المعشوقة المعطاء؛ فإن العراق رمز للعراقة والحضارة والتاريخ والأمجاد المشرفة العظيمة). هذا ما أراد أن يقوله حميد سعيد في شخصية قصيدته ومغزاها النهائي.
وصفوة القول: إن شاعرية الرؤيا التي تبثها القصيدة تكمن في شاعرية العلائق النصية ومؤثراتها الخلاقة التي تبثها على مستوى أحداثها،وربط الأحداث مع المواقف الرؤيوية، وخلق متغيرها المؤثر في الاستثارة والتأثير.
____________
الحواشي:
(1) مخلف الحديثي،حمدي،2016-تكامل الرؤى بين واقعية الرواية ورمزية القصيدة، مخطوطة،ص15-61.
(2) سعيد،حميد،2015-أولئك أصحابي؛ص13.
(3) المصدر نفسه،ص13.
(4) المصدر نفسه،ص14,
(5) المصدر نفسه،ص15.
(6) المصدر نفسه،ص15.
(7) المصدر نفسه،ص15.
(8) المصدر نفسه،ص15-16.
(9) المصدر نفسه،ص16.
(10) المصدر نفسه،ص16.
(11) المصدر نفسه،ص17.
(12) مخلف الحديثي،حميدي،2016-تكامل الرؤى بين واقعية الرواية ورمزية القصيدة، مخطوطة،ص15.
(13) المصدر نفسه،ص17.
(14) المصدر نفسه،ص17.
(15) المصدر نفسه ص17-18.
(16) المصدر نفسه،ص 18.
(17) المصدر نفسه،ص 18.
(18) المصدر نفسه،ص18-19
(19) المصدر نفسه،ص19.
(20) المصدر نفسه،ص19
(21) المصدر نفسه،ص 19-20.
(22) المصدر نفسه،ص21.
(23) شرتح،عصام،2015- حوار مع حميد سعيد حول مجوعته(أولئك أصحابي) مجلة الحياة الثقافية،تونس،(قسم الحوارات). 
(24) المصدر نفسه،ص22-23.
(25) المصدر نفسه،ص23
(26) المصدر نفسه،ص23-24
(27) المصدر نفسه،ص25.
(28) المصدر نفسه،ص25.
(29) المصدر نفسه،ص26.
(30) المصدر نفسه،ص26.
(31) المصدر نفسه،ص26.
(32) المصدر نفسه،ص27.
(33) المصدر نفسه،ص27.
(34) المصدر نفسه ،ص27-28
(35) المصدر نفسه، ص28.
(36) المصدر نفسه،ص28.
(37) المصدر نفسه،ص29.
(38) المصدر نفسه،ص30.
(39) المصدر نفسه،ص30.
(40) المصدر نفسه،ص40.

شاهد أيضاً

قراءة في رواية ( قناع بلون السماء ) لباسم خندقجي

(ثقافات) قراءة في رواية ( قناع بلون السماء ) لباسم خندقجي ( ثيمة الملامح) زينب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *