*عصام شرتح
خاص ( ثقافات )
لا شك في أن جوهر الرؤيا الشعرية التي تطرحها قصائد حميد سعيد تتأسس على الدور الفني المنوط بالشخصية الروائية التي ترفع سوية الرؤية الشعرية وتزيد مردودها الفني؛ ولذلك تشتغل هذه القصائد على حراك الشخصيات الروائية،والدور الفني الجديد المنوط بالشخصية،وهذا يرتقي بالحدث والموقف الشعري.
أولا- البعد الرؤيوي لقصيدة(ما رواه الفتى الأزهري عن سي السيد):
تطرح قصيدة(ما رواه الفتى الأزهري عن سي السيد) شخصية السيد أحمد عبد الجواد؛ وهو بطل ثلاثية نجيب محفوظ؛ وهو شخصية جسورة تمتاز بصلابتها وثبات موقفها؛ وتحاول أن تطرح القصيدة تعدد المواقف والأحداث المحتدمة ،وتوترات الذات ، وقلقها بجو درامي عاصف؛ ومن تدقيقنا في القصيدة وجدناها تتمحور على التقنيات التالية :
كثافة المواقف والرؤى الشعورية المحتدمة:
تمتاز هذه القصيدة بكثافة الشخصيات والرؤى والدلالات؛ بما يحقق لها عنصر الروعة و التفنن والإتقان في تتبع الأحداث ووصف المشاهد المحيطة بالشخصية، ؛لكن ما يزيد من حركة هذه السردية وصف المشاهد الروتينية التي تحدث؛ إذ تستغرق بلغة الوصف؛ وهذا ما يضاعف من فاعلية البلاغة الرؤيوية للقصيدة خاصة بالانتقال من المشاهد والرؤى البسيطة إلى المشاهد المُبَئِّرة للحدث؛ كما في قوله:
“لم أَجِدْ في هذه الليلة أصحابي..
وكنا نلتقي في مسجد الحيِّ..
وقدْ أرهقنا الدرسُ المسائيُّ
تخفَّفتُ من العِمَّةِ والجُبَّةِ .. بالجلبابِ
صَلَّيتُ.. وواصلتُ طريقي
قبلَ أَنْ أدنو من الميدان..
سَلَّمتُ على جارتنا.. بائعة التمرِ
دعَتْني .. مثلما تفعلُ..
أن أحكي لها عمّا تعلَّمتُ.. وما أحفظُ من آيِّ الكتابِ..”(1).
هنا؛ يعتمد الشاعر لغة السرد الوصفي؛ في تبيان انتظار أصدقائه من طلبة الأزهر، لكنه أحس بالأسى والحزن ؛لأنه فارقهم بعد ما غيبت أصدقاءه ظلمات السجون؛ ثم تابع ممارساته اليومية المعتادة ؛ دون تكلف أو تعقيد؛ وهذا ما أدى إلى رشاقة سردية ساعدت في تكثيف الحدث وتعميق الرؤية.؛ ولو تابع القارئ حيثيات المشهد لتبدى له ذلك جلياً كما في قوله:
انتظَرَتني وأنا أقرأُ يس
وإذْ قاربتُ من أن أنتهي منها..
بكَتْ واستغفَرَتْ
قالتْ..
لقد كانَ أبي شيخاً جليلاً زاهداً
لكنّني أخطأتُ إذْ صرتُ أرى الدنيا..
كما كنتُ أراها..
لاكما كانَ..تعاليتُ عليها وعليهْ”(2).
إن الشاعر يركز على امرأة بعينها تملك من الجاذبية ما يجعل السرد القصصي موجهاً صوبها ؛ وكأنها البطلة مع (السي السيد)؛ هل هي المرأة التي سجلت رحلة الشاعر الاغترابية لتمنحه الأمان أم هي عشيقة بطله(السي السيد)؛ إنها المرأة التي حملت في روحها جوهر الأنوثة ونيرانها المتقدة وهذا ما يشي به النص الشعري في متابعة حيثياته الجزئية البسيطة؛ كما في قوله:
فجأةً..يحملُني الليلُ إلى مملكةٍ أُخرى
أرى من جسدي.. ما لم أكنْ أعرفُهُ
ماهذه الأنشودةُ السوداءُ.. في إيقاعها الوحشيِّ ؟
مَنْ هذا الذي شاركني أولَّ أمطاري؟!
وما تُنبِتهُ أرضي
وما تُثّمِرُ أشجاري
إذا مدَّ يداً في الجمر بين الثوبِ والنهدين..
شَبَّتْ نارُ أوتاري
. . . . . .
. . . . . .”(3).
إن هذه المرأة تعكس عشق الحياة وشبقية الأنثى في تعلقها الذكوري؛ فالشاعر جمع في هذه المرأة كل عاطفة الأنوثة في المرأة المصرية التي تمتاز بشبقية زائدة تلهب الجسد الذكوري وتلتهب ؛والدليل المرجعي على ذلك قوله:” إذا مدَّ يداً في الجمر بين الثوبِ والنهدين.. شَبَّتْ نارُ أوتاري”؛ وهذه النيران الجنسية المحمومة هي ملتصق المرأة العاشقة لبطله(سي السيد)؛ إن هذه الشبقية الأنثوية مردها رغبة الشاعر في رسم بعض الجمل الجنسية البحتة في الرواية والمشاهد التي جسدت شبقية الرغبة واصطهاجها في الأنثى المصرية؛ والتي كانت معين بطله (سي السيد) في كبت هذه المشاعر الملتهبة بقسوته وسطوته والعرف الاجتماعي والبيئي الخاضع له.؛ وقد ترك الشاعر النقط الفراغية دليلاً بصرياً على الاتقاد العاطفي المحموم؛ والرغبة الشبقية الزائدة التي تمتلكها الأنثى المصرية في باطنها الشعوري.
وقد استمر الشاعر برصد أجواء بطله الروائي (سي السيد)؛بواقعية سردية وروائية؛عالية؛ كما في قوله:
“أما شاهدتَهُ في آخر الليل ؟
بلى..
شاركتهُ الدربَ إلى الجامعِ..
مأخوذاً بأمواج الشذى..
قاربتُهُ حين يُصَلّي .. كان في المُطْلَقِ كالصوفيِّ..
في ما يصلُ الإنسانُ بالله.. مُضيئاً
. . . . . .
. . . . . .”(4).
إن هذا السرد الوصفي لدليل على التحفيز الشعري في دقة وصف الشخصية المصرية في طقسها الديني المقدس؛ وهو صورة البطل(سي السيد)؛ وما يحيط به من شخصيات مساعدة تحمل في طياتها الواقع المصري المزدحم بالعلاقات، والرؤى، والأحاسيس، لدرجة أن القصيدة قاربت الطقوس والعادات المصرية؛ من خلال دقة رسم المشهد الصوفي؛والأجواء الدينية المحيطة بالشخصية.
واللافت – في هذه القصيدة على المستوى الدلالي- قدرتها على الإيحاء بالطقس العاطفي والشعوري المحيط بالشخصية؛ وهذا ما يوضحه في قوله:
ضحكت جارتنا.. بائعةُ التمرِ
وقالتْ..
طالما شاهدُتُهُ.. في أولِّ الليلِ يعبُّ الخمرَ..
يدنو من ثماري .. شَرِهاً
يقطفُها..
يلعبُّ بالدفِّ .. يُغَنّي
يتثنّى كدخان الخشب الأخضَرِ في الموقدِ
لو حدَّثَكَ النيلُ..
وكان الشاهدان الماءَ والليلَ..
على ما كانَ..
لاستوقفتهُ .. تسألهُ إنْ كانَ من رافقتهُ..
في آخر الليل إلى الجامعِ..
ذات الرجل الشاهدُتُه في أولِّ الليلِ ؟!
. . . . . .
. . . . . .”(5).
إن بداعة السرد الوصفي وبلاغة التجسيد العاطفي لدليل على دقة الوصف ؛ فالشاعر أراد أن يرسم الطقس الشعوري العاطفي بمصداقية شعورية وإباحية في رسم المشهد الغرامي بكل اصطهاجه وتوتره العاطفي الإباحي ؛ ومن الدلائل المرجعية على ذلك قوله:
وفي البيتِ.. كما يُروى عن الأبناءِ..
كان الملكُ الجبّارُ
إنْ لمْ يحضرْ الخوفُ.. اللقاءَ العائليَّ..
ابتعدتْ عنهُ سجاياهُ
سيغدو رجلاً .. يضحَكُ كالناس ويحكي مثلهمْ
قال ابنه البكرُ..
لقد كنتُ صبيّاً .. وتساءلتُ..
أهذا رجلٌ .. يضحكُ كالناس ويحكي مثلهمْ؟!
أسألُهُ .. يمنعُني الخوفُ..
وإذْ شاهدتهُ يضحكُ..
هذا رجلٌ أخرٌ .. قلتُ
وهربتُ..
. . . . . .
. . . . . .”(6).
إن القارئ سرعان ما يدرك الجو المحيط بشخصيته الجسورة (سي السيد)؛ وهي شخصية رسمت البعد الشعوري والنفسي؛لقصيدته من خلال شخصية بطله الميهمنة المتجبرة الصلدة في أحكامها وقراراتها ؛ فمن يجرؤ من أفراد الأسرة أن يخالف أو يتحدث بصوت مرتفع بحضور(سي السيد)؛ وكأننا أمام مشهد سينمائي يصور الأسرة المصرية المحافظة في رؤاها وطقوسها الخاصة؛ والدليل المرجعي على سطوة بطله (سي السيد) قوله: كان الملكُ الجبّار/إنْ لمْ يحضرْ الخوفُ.. اللقاءَ العائليَّ.. ابتعدت عنه سجاياه”؛ وهذا دليل وعي في رسم الجو القصصي للحدث الروائي والشعري معاً.
فنية الحبكة الشعرية والحدث المفاجئ:
من أبرز محفزات الشعرية في القصيدة فنية الحبكة الشعرية والحدث المفاجئ / أو الحدث الصادم الذي يحرك الشخصية ؛ ويزيد من قلقلة الأحداث أو قلبها بالحدث المفاجئ؛ أو المشهد الصادم ؛ كما في قوله:
“عائداً كُنتُ من الدرس المسائيِّ
وسَلَّمْتُ على جارتنا.. بائعةِ التمرِ..
كما أفعلُ في كلِّ مساءْ
فأشاحت وجهها عنّي.. وغَصًّت بالبكاءْ
ماتَ..
لمْ أسأَلُها من ؟
إذْ تراءى لي على مقربة.. بيتُ عزاءْ
إنَّ ما فاجأني أن أجدَ السيِّدَ .. من بين المُعَزِّين !
تساءلتُ..
بمَن جاءَ يُعَزّي؟
أَيُعَزّي فيه ؟!
منْ ماتَ إذاً ؟!
. . . . . .
. . . . . .”(7).
هنا؛ يقتنص الشاعر الحدث من الرواية بتمامه وكمالها؛ وهذا الحدث هو بؤرة تفعيل شخصية (سي السيد) ؛ وهذا الحدث المفاجئ تمثل بموت ابنه(فهمي) الذي شكل منعطفاً مهماً في أحداث الرواية؛ وتحريك مجرياتها؛ وتحريك الأجواء الرؤيوية لمسارات قصيدته؛ هذا السؤال المفاجئ للمخيلة والصادم للتوقعات؛ إن المتوفى من إذا كان (سي السيد)حياً؛ لم تتوقع من يكون المتوفى؛ وهذه الصدمة أو الحدث المفاجئ الذي عزز الرؤية الشعرية ؛ وكثف من حراك الدلالات؛ وكان الباعث لاحتدامها:
“في أَوَّل الصيف وقد عدتُ إلى الأقصُرِ..
في كلِّ صباحٍ.. صرتُ ألقاهُ كما كانَ..
ومن ثَمَّ وقد عُدنا..
سمعتُ المنشِدَ الشاميَّ.. قالْ
كانَ في سوق البزوريةِ .. فاستقبلَهُ السيِّدُ في متجرِهِ
أهداهُ..مما تحملُ الأرفُفُ من خير الشآمْ
. . . . . .
. . . . . .
ربّما القاهُ قبل الفجرِ.. قد عادَ من السهرَةِ
أو ألقاه بعد الفجرِ.. في الدرب إلى الجامعِ..
أو ….”(8).
إن نهاية القصيدة تشاكل ،أو تحايث نهاية الرواية لكن ببصمة شعرية مغايرة تشي بتفاعل الرؤيتين معاً؛ وكأن الشاعر أراد أن يرسم الأجواء المصرية، وعاداتها بتعدد البيئات من مصر إلى الشام في بانوراما تصويرية كاشفة تشي بنهاية الرواية وبطلها(سي السيد) كما كان صلداً يجابه الزمان، معلناً بقاءها وسط الجموع يتنقل من مكان لآخر؛ ومن زمن إلى آخر؛ وهذا ما يحقق حضوره إلى نهاية الرواية والقصيدة معاً.
بلاغة الرؤية الشعرية/ أو كلمة القصيدة الأخيرة
تعتمد القصيدة على بلاغة رؤيتها الشعرية من خلال الطقس الرؤيوي الذي أراد إيصاله للقارئ وهو( أن صمود بطله(سي السيد) في القصيدة دليل مقاومة الزمن ؛ والمحن؛ فهو رغم كل المصاعب مازال جسوراُ ؛ وربما شخصية بطله تمثل شخصيته في بعض ملامحها لهذا، أمعن الشاعر في وصف صفات هذه الشخصية وسماتها؛ وصلادتها في الكثير من المراحل والمواقف؛وكأن الشاعر يجد فيه الوجه الآخر في شخصيته)؛ وهذا يعني أن ثمة رؤية يريد إيصالها للقارئ؛ وهي أنه سيقاوم كشخصية بطله الذي تحدى الزمن والمحن ليبقى الرجل صاحب الموقف والرؤية التي لا تتزحزح في واقعه رغم كبر سنه؛ وتقادمه الزمني؛ ليكون كهذه الشخصية متمسكاً بموقفه وعراقه التي تجري في دماء شريانه لا تفارقه ولا يفارقها؛ فهي بصمته الوجودية وحلمه الأزلي الذي لابد يوماً من أن يتحقق؛ ويعود إلى عراقه الحبيب الذي وإن فارقه جسداً لم يفارقه روحاً وحباً وانتماء.
ثانياً- البعد الرؤيوي لقصيدة (صمت البحر… ثانية):
تعد قصيدة( صمت البحر… ثانية) من أهم القصائد التي تمثل فيها الشاعر حميد سعيد الشخصيات الروائية في قصائده ؛ وعكس واقعها على واقعه؛ والفضل يعود – بالدرجة الأولى_ إلى مضمون الرواية المشوق ؛ والأحداث الذكية في الكشف عن الكثير من المواقف والرؤى والإفضاءات الشعورية والنفسية العميقة؛وهذه القصيدة من أبرز القصائد التي ربطت الواقع الروائي بالمناخ الشعري ومؤثراته الرؤيوية؛ وقبل أن ندخل رحاب النص الشعري نضع القارئ في مناخ الرواية؛ إن قصيدة( صمت البحر ثانية) تتمثل رواية (صمت البحر)لفيركور؛ وهذه الرواية ترصد واقع الاحتلال النازي الألماني لفرنسا؛ ومركز الرواية وأحداثها منزل ريفي جاء إليه ضابط نازي اسمه(ورنر فون) ليعيش فيه برفقة أصحاب المنزل؛ ولما اختار عرفة من الغرف ليسكن فيها بدأ يحادث الشيخ وابنته القاطنة معه لم يكونا يجيبانه؛ بل ظلا ملتزمي الصمت ؛ فأدرك الضابط أن صمتهما هذا يشكل احتجاجاً ورفضاً لوجوده النازي؛ فظل الأمر على هذه الحال فترة من الزمن حاول فيها الضابط النازي التقرب من الشيخ وابنته بذكر الأدباء والمفكرين الفرنسيين؛ معترفاً بعظمة الأدب الفرنسي وما قدمه للعالم ؛ لكن كل ذلك لم يغير من نظرتهما الاحتجاجية الصامتة؛ وموقفهما الرافض للاحتلال؛ موقف رفض الراكب للمركوب؛ والظالم للمظلوم؛ فهو على الرغم من ثقافته ومواهبه الكثيرة كموهبة العزف على البيانو لم يكسب ودهما أو حتى لفت انتباههما لمحادثته ظلا صامتين ؛ ومع مرور الوقت أعلن الضابط انفصاله عن النازية؛ وقرر الرحيل وعندما خرج لوح بيديه مودعاً غير أن الفتاة ما أجابته ووقفت صامتة كعادتها؛ وهذا الموقف الفكري الذي وقفته الفتاة وأبيها الشيخ الوقور كان له أثره في القارئ ودلالاته الرؤيوية الاحتجاجية الصارخة؛ وقد كان وقع هذه الرواية مؤثراً في الشاعر حميد سعيد حتى تمثلها بعمق وعبَّر من خلالها عن الكثير من المواقف الوجودية الرافضة للاحتلال الأمريكي للعراق؛ ولعل أبرز مثيراتها هذا الربط الفني الموحي بين أجواء الرواية ؛ وما تبثه من رؤى ودلالات محتدمة؛ وأجواء القصيدة وما تضمنته من رؤى احتجاجية صارخة للواقع العراقي وممارسة الاحتلال الأمريكي للكثير من الانتهاكات الصريحة لحرية الشعب؛ ومظاهر الوحشية والقسوة في انتهاك حرمة البيوت بالرصاص والدبابات ونهب المنازل؛ وكسر أثاث المنازل؛ وتحطيمها؛ وهذا يعني تلاحم رؤية القصيدة والرؤية في مجرى دلائلي واحد؛ هو رفض المحتل بشتى وجوهه وأشكاله؛ رفض الحاكم للمحكوم والراكب للمركوب والظالم للمظلوم، والقاهر للمقهور؛ وهو بذلك يعلن احتجاجه ورؤيته الوجودية بعمق وإيحاء وشعرية؛ ومن أبرز المرتكزات الرؤيوية في القصيدة ما يلي:
البحث عن الذات والهوية والذكرى والوجود:
أول ما تبحثه القصيدة في جوها الرؤيوي الكشف عن الذات والهوية والذكرى والوجود؛ فالشاعر يعي أن المنفي أو المغترب في بحث دائب عن وجوده وهويته وكيانه الذى تلاشى أو يكاد في جو الغربة والحرقة المريرة؛ والشاعر أعلناها منذ البدء أنه يبحث عن ذكرى تربطه بماضيه بوجوده ببيته ؛وبأحاسيسه المفعمة إلى تلك الأيام التي قضاها في ربوع وطنه؛ وذكرياته المشرقة ؛ وهنا يسترجع لحظاته المريرة وحالة الارتباك التي كان عليها قبل المغادرة والرحيل؛ إذ يقول:
“ظلَّ يدفَعُ عنه مخاوِفَهُ.. بالتذكُّرِ
ماذا تَبَقّى له؟
والبلادُ تُفارِقهُ.. وسيرحلُ بعدَ قليلٍ..
إلى أين؟
. . . . . .
. . . . . .”(9).
إن الإحساس بالمفارقة أكثر ما يجرح الذات في عالمها الوجودي؛ خاصة عندما تتعرض لما يهدد وجودها وكيانها بالمطلق؛ وهنا، أعلن الشاعر الرحيل ؛ وانفتحت أمامه السبل المفضية إلى ذلك؛وانفتحت كل الرؤى والاحتمالات المروعة بشكلها النقطي الفراغي المفتوح؛ وهذا ما عبر عنه بتراكم المد الفراغي بعد سؤاله المتعدد الاتجاهات والمفتوح على كل الاحتمالات : إلى أين؟………………” ؛وهذا السؤال يفتحه على سلسلة أعمال إجرامية إباحية كثيرة؛ كما في قوله:
“توقظهُ رشقةٌ من رصاصٍ..
يرى كلَّ ما كانَ في بيته..
قبلَ أن يدخل الجنودُ إليهِ..
على غيرِ ما كانَ
إذْ لمْ يَجِدْ ساعة الجدار التي طالما شاركَتْهُ الليالي..
إلى الفجرِ
لا صورة المتنبّي.. التي رافقته من زمن القرنفل البابليِّ
إلى اللحظة الأخيرةِ..
هذا الحُطامُ الذي يملأُ الأرضَ”(10).
هنا؛ يصور الشاعر ممارسات المحتل البشعة أو المروعة من إطلاق رصاص وترويع الأهالي؛ وتدمير أثاث المنازل؛ ونهبها وإشاعة الخراب والدمار فيها؛ فكما فعل الاحتلال الألماني في الشعب الفرنسي وسلطته النازية المحتلة فعل الجيش الأمريكي في العراق؛ مع ممارسات أشدّ وحشية وظلماً وانتهاكاً،خاصة منزل الشاعر الذي انتهكوا فيه حرمته ونهبوا أشياءه؛ وقلبوا أثاث منزله رأساً على عقب؛ حتى ملأ حطام منزله الأرض؛ وهذا ما جسده في قوله:
“كان فضاءُ القصيدةِ
تُقبِلُ من كوكبٍ بعيدٍ .. إليهْ
تُغافِلُهُ
ثمَّ تدنو مُشاكِسَةً .. لتُريه مفاتِنها
تُشعل النار في ما تبقّى من الوقت..
وتتركُ جمرتَها في يديهْ
. . . . . .
. . . . . .”(11).
هنا؛ يحاول الشاعر أن يرسم الأثر المقاوم لقصيدته؛ فكما يقاوم الشيخ وابنته الضابط النازي بالصمت احتجاجاُ على الاحتلال يقاوم هو بقصيدته الصامتة المحتل معلناً احتجاجه الصامت ؛ وثورته العميقة؛ وهنا؛ ترك مدها الاحتجاجي والثوري المقاوم بهذا الفراغ من المد النقطي المتتابع إلى مالا نهاية؛ وكأن احتجاجه أبدياُ لا ينتهي.
دمج الحدث الروائي بالحدث الشعري:
تعتمد القصيدة في تحفيز رؤيتها على دمج الحدث الروائي بالحدث الشعري؛ بإسقاط الحدث الروائي على الحدث الشعري؛ والحدث الشعري على الحدث الروائي؛ وكأن المشهد الذي حدث في الرواية هو نفسه في الحدث الشعري؛ وبهذه المفاعلة بين الحدثين أو الواقعين؛ عضَّد الشاعر رؤيته وجسد موقفه الاحتجاجي الصارخ؛ كما في قوله:
“قبلَ أنْ تبدأ القصيدةُ.. طقسَ الحِدادِ
رأى الضابطَ الأمريكيَّ .. مُرتبِكاً
ضائعاً في تضاريسها..
مثلما ضاعَ في ما يرى..
رجلٌ غائبٌ وظلالُ ابنةٍ غائبهْ
رجلٌ واحدٌ..تتدافعُ في ذهنهِ صورٌ شاحِبهْ
لماذا يجيءُ إلى بيته الضابطُ الأمريكيُّ ؟!
ماذا جرى..
ليرى أصابعَ العريفِ الملوَّنِ..
تعبثُ بالمُعجَمِ العربيِّ؟!
يدوسُ ببسطاله كتبَ الجاحظِ وابنَ المقفَّعِ وابن هشامْ
وماضمَّتْ المكتبهْ
من فرائدَ..”(12).
إن الشاعر يجسد رؤاه الاحتجاجية الصارخة إثر الممارسات الإجرامية المنتهكة لمكتبته؛ وحديقة منزله؛ وكأن ما حدث له من أحداث يستجمعها في هذه البؤرة النصية من الاحتراق على أشيائه الثمنية التي لا تقدر بثمن؛فالمكتبة بالنسبة للأديب؛هي أهم ما يمتلك؛من معالم الوجود؛ وما أقسى حرقة الأديب على مخطوطاته وكتبه التي مُزِّقت، وأوراقه التي بعثرتها أصابع الطغاة؛ ولم يبقَ منها إلا الرماد؛وهذا يدل على مضاضة الحرقة وشدة الألم التي يعانيها؛ وقوة تأثير الحدث وتأزمه الشعري؛ كما في قوله:
“هل كان بين العريف الملوَّنِ والطبرّي..
عداءٌ قديمْ؟
لماذا تَخَيَّرَ تاريخَه واستباحَ الفصولْ ؟
لوحةٌ من سمرقّند .. حيث المدينة حشدُ قَبابْ
وأخرى..
عجوزٌ يدبُّ على الثلج من أصفهانْ
كلُّ ماكانَ في البيتِ.. غطّى شذاه الدخانْ
. . . . . .
. . . . . .”(13).
إن الشاعر ما يزال يذكر الانتهاكات الظالمة لأثاث منزله؛ والحرقة المريرة التي تعتصر قلبه؛ من جراء فداحة الحدث المأساوي؛ فقد طالت النيران مكتبته، وكتبه، وقصائده ،وأوراقه ومسودات ذكرياته؛ وغطى الدخان كل أثاث منزله وبقاياه؛ إن الشاعر يرصد واقعه من خلال جو الرواية؛والمقارنة بين واقع القصيدة والحدث الروائي؛وقد استعان الشاعر بالعلامات البصرية من خلال المد النقطي المتتابع؛تأكيداً على تصاعد الدخان المتتابع بصرياً؛لرصد المشهد المؤلم بكل فظاظته بصرياً وشعورياً؛ومن أجل ذلك عمد إلى تكثيف الفراغات والنقط؛ لتحفيز رؤية القصيدة وتعميق المشهد الشعري.
الديالوج أو المونولوج الداخلي والارتداد إلى الذات:
تعتمد القصيدة في تفعيل الحدث الشعري على محاكاة الذات كشيء من الارتداد أو الحوار البوحي من الذات إلى الذات؛ كنوع من المونولوج الداخلي؛ والاصطراع الوجودي؛ وتكريس مشاعر الرفض والاحتجاج؛ وما تراكم الأسئلة المدببة إلا دلالة على الاحتدام، والقلق، والوجاعة، والإحساس بمضاضة الاحتلال؛ وما يجره من ويلات للشعوب المستضعفة المحتلة؛ وهذا ما يعكسه قوله:
“كأنَّ الذي كانَ.. كلّ الذي كانَ..
صارَ سؤالاً..
أما زلتَ بعد الذي كان.. كلّ الذي كانَ..
تَزعمٌ إنَّ الجمالَ
يرفعُ راياته في مواجهة القوّة الغاشمه ْ؟!
منذُ سقراط والفلسفهْ
تَتَخَيَّلُ فردوسها.. وتُسَيِّجُهُ بالملاحم والشعر والمعرفهْ
وفي كلِّ عصرٍ يجيْ الغزاةُ . . بما تحملُ الآزِفَهْ !!
فتمحو السطورَ التي خطّها الحكماءُ ..كما تفعل العاصفهْ
. . . . . .
. . . . . .”(14).
هنا؛ يتساءل الشاعر عن المعمعة الوجودية مؤكداً أن الحروب غالباً ما تمحو تاريخ الحضارات؛ وتقضي على الفكر، والفلسفة، والمعرفة؛ وهنا، يأتي تساؤله الاحتجاجي المؤلم:” أما زلتَ بعد الذي كان.. كلّ الذي كانَ/ تَزعمٌ إنَّ الجمالَ يرفعُ راياته في مواجهة القوّة الغاشمه ْ؟!”؛ويتابع قائلاً مقولته الصادحة: أن الغزاة يدمرون الحضارات كما تدمر العاصفة الآثار؛ وتمحو معالم الحضارات كما تذروا الرمال وتجرفها؛ وهو- بهذا التشبيه التمثيلي- يثير الرؤية الاحتجاجية من العمق بعد إتباعها بالمد النقطي؛ تدليلاً على الخراب المستمر الذي تولده العواصف؛في كل مكان تحل به أو تضربه.
توظيف الشخصية الروائية محوراً رؤيوياً مرتكزاً للحدث والرؤية الشعرية:
يعمد الشاعر إلى توظيف شخصيته الروائية(ورنرفون) وهو الجندي الألماني الذي دارت حوله رواية(صمت البحر) بوصفها محوراً رؤيوياً في تكثيف الرؤية الاحتجاجية؛ إذ يقول:
“بينَ صحوٍ وغيبوبةٍ..
جاءَ – ورنر فون – من صفحاتٍ مُمَزَّقَةٍ
وطروسٍ مُحَرَّقَةٍ..
وأناشيد َ بيضْ
هادئاً ونحيلاً
وغابَ العريفُ الملوَّنُ والضابطُ الأمريكيُّ
كأنَّ الرُكامَ الذي كان بيتاً جميلاً..
يعودُ إلى البيتِ”(15).
إن الشاعر يدمج شخصية (ونر فون) بواقعه ؛ ويربط ما حدث له في العراق بما فعله هذا الضابط بالبيت الذي سكنه؛ كلاهما محتل؛ لكن الأول يختلف بوحشيته عن الآخر؛ فالجندي الأمريكي مجرم منتهك لكل الحرمات والمبادئ والأعراف والحقوق والواجبات؛ في حين أن الجندي النازي كان مثقفاً فهو لم يدمر ولم يخرب ولم ينتهك حق الأب وابنته كما فعل المحتل بمنزله وأثاث بيته؛ ومكتبته؛ وكتبه، ومخطوطاته؛ لقد صور بطله الروائي بصور رائعة هادئة لا تدل على الخراب والإجرام والانتهاك الصارخ كما فعل الجنود الأمريكان في المنازل والبيوت العراقية.
وهنا؛ يصور المشهد العراقي بكل دمويته متناسياً بطله؛ معلناً واقعه وإحساسه الوجودي،كما في قوله:
يستقبلُ الهادئ النحيلَ الذي فاجأته الدماءْ
أيّها الهادئ النحيلُ.. كيفَ وصلتَ؟!
وكيفَ ارتضى صاحباكَ.. باخ وموزارتْ ..
أَنْ يشهدا ما شهِدتَ ؟
يَمُدُّ الرصاصُ مخالبهُ في النشيد الألهي..
أو في المقامِ العراقيِّ..
في ما تُغَنّي النساءُ .. لأطفالهنَّ
وينزلُ سيلُ دمٍ من ربابي
تغصُّ به صفحاتُ كتابي
. . . . . .
. . . . . .”(16).
إن القارئ يلحظ التوظيف الفاعل لشخصية الضابط مع(باخ)و(موزارت)؛ ويؤكد شجاعة(ونرفون) في اتخاذ القرار والرحيل عن الحكم النازي؛وهنا، دمج واقعه الشعوري المؤلم وما حدث للعراق من قتل الأبرياء وإراقة دماء؛وواقع الرواية مع الفارق في حجم الدمار والوحشية عند كل منهما؛ وقد عبر الشاعر بالمد النقطي للتدليل على الحرقة المريرة والتيار الإجرامي المتتابع الذي يكشف عن ممارسات المحتل الدموية وفظاظتها المؤلمة على قلبه وروحه.
وهنا يختتم الشاعر قصيدته ببريق الأمل المعتاد؛ بأنه سيعود إلى العراق؛ ويمسح عن قصائده الشظايا والدماء:
“بين صحوٍ وغيبوبةٍ.. جاءَ
الفضاءُ الرماديُّ أغلقَ باب الصباحِ..
من أينَ جاءَ؟
الطريق إليه يَمُرُّ قريباً من الشجرِ المستباحِ..
من اينَ جاءَ ؟
رآهُ.. يُجَمِّعُ أوراقَهُ
ويمسحُ عنها الدماءْ”(17).
وهكذا، تطرح القصيدة رؤيتها بجسارة رؤيوية ودلالة عميقة من خلال ربط الحدث الروائي بالحدث الشعري، ليقول الشاعر كلمته الأخيرة: وهي أنه سيعود إلى العراق يوماً ما ؛ ويمسح عن قصائده الخراب والدمار؛ وما صمته الطويل إلا الصمت الاحتجاجي الذي أقدمت عليه الفتاة وأبيها ؛ وفي النهاية حققا ما أرادا؛ وهو يستقي منها الاحتجاج والمقاومة بحبر القصيدة ومدادها المقاوم لا بحبر الدموع والتباكي والاستسلام للمصير المؤلم.
بلاغة الرؤية الشعرية/ أوكلمة القصيدة الأخيرة:
إن بلاغة الرؤية الشعرية-في قصيدة (صمت البحر ثانية)- لحميد سعيد تأسست على الوعي الثوري/ والرؤية الاحتجاجية الرافضة لكل مظاهر القتل والدمار لما حاق بالعراق؛ وهو بهذا الوعي الرؤيوي، والدمج بين الواقعين، أو الرؤيتين يعزز الموقف الاحتجاجي الرافض؛ ويثير الرؤية من العمق.وما توظيف رواية(صمت البحر) إلا لتعزيز الموقف الشعوري المحتدم. وتأكيد احتجاجه الصريح/والرافض لكل مظاهر القتل وإراقة الدماء.
ثالثاً:البعد الرؤيوي لقصيدة(سيدي حامد بن الأيّل يبحث عن دون كيخوتيه):
تقدم قصيدة(سيدي حامد بن الأيل يبحث عن دون كيخوتيه)نفسها كواحدة من القصائد المؤثرة التي تناولت شخصية(دون كيخوتيه) بطل الرواية التي سميت باسمه؛ للروائي الإسباني سرفانتس؛ وتعد:”دون كيخوتيه ، واحدة من أهم الروايات في تاريخ الرواية، وعدها مؤرخو الفن الروائي ، فاتحة الرواية الحديثة في العالم ورائدتها، وبطلها دون كيخوتيه المهووس بكتب الفروسية ، والذي عاش مغامرة أن يكون فارسا ، بعد أن انتهى عصر الفروسية وتقاليدها ومتمماتها ، الخادم المرافق والمعشوقة ، وكان لدون كيخوتيه خادمه المرافق ومعشوقته المتخيلة
وينسب –سرفانتس- أحداث روايته إلى رجل من الموريسكيين اسمه سيدي حامد بن الأيل، ومازالت هذه الرواية تحظى باهتمام متواصل من قبل النقاد والباحثين ومؤرخي الأدب” (18).
وتحكي رواية(دون كيخوته) باختصار حكاية رجل مولع بالفروسية والقصص القديمة بمحاربة الشر والفساد وإرساء دعائم الخير ونشر الفضيلة؛ ارتدى خوذة قديمة ودرعاً حديدياً صلداً وسيفاً قديماً أكله الصدأ وامتطى حصانه؛ وهو في الطريق أدرك أن الفارس المحارب يحتاج إلى تابع ؛ وهذا التابع يكون مساعداً له؛ في نيل الغنائم ؛ أو تقديم المؤونة له من طعام وشراب؛ وهو في الطريق التقى مزارعاً أغراره(دون كيخوته) بالغنائم والمكاسب فرافقه راكباً حماره الهزيل؛ وهو ثقيل الجسم قصير؛ ودون كيخوته رجل طويل الجسم نحيف جداً؛ وهذه المفارقة المضحكة بين الاثنين ؛ وهو في الطريق يلتقون بطاحونة تدور بأذرع تعتمد على حركة الهواء ظن المحارب أنها أذرع شياطين شريرة ركب حصانه وهاجم طاحونة الهواء فرمته أرضاً وكرر مراراً، وفي كل مرارة ترميه أرضاً أدراك أن قوة شيطانية خفية تغلبه؛ وفي الطريق شاهد غباراً وحركة أقدام كثيرة ظن أن جيشاً عرمرماً من جنود الأعداء تهاجمه؛ فأسرع لمحاربتهم ؛ وإذ بقطيع من الأغنام قد قتل عدداً منها لكنه سرعان ما تقاذفته حجارة الرعاة وعصيهم حتى بطحته أرضاً وأدمت خوذته وقدميه؛وأدرك أخيراً أن قوى شريرة تغالبه؛وتقف في مواجهته لهذا ينهزم في جل معاركه؛وفي نهاية القصة يفشل هذا المحارب في تحقيق أي مكسب؛ يعود الاثنان خالي الوفاض إلا من الحسرة والندامة؛ إذاً الرواية تمثل صراعاً بين الواقع /والمثال، والخير/والشر، والظلم/والعدل؛والموت/والحياة؛ وهذه الرواية هي من أشهر الروايات العالمية؛ التي تواجهه المتناقضات؛ وتحقق المفارقات والمواقف الهزلية الساخرة.
القصيدة هي تمثُّلٌ لشخصية(دون كيخوته) في أحداثها ومشاهدها ورؤاها؛ لكن بمنظورات جديدة ورؤى متجددة؛ ومن أبرز الفواعل الرؤيوية المحركة لرؤى القصيدة نأخذ مايلي:
1- الحوار البوحي والمكاشفة الرؤيوية للموقف الشعري:
إن من مغريات القصيدة المزاوجة بين الإيقاع السردي/ والإيقاع الحواري؛ وقد أفضى الجانب الحواري إلى الكثير من الرؤى والدلالات المحتدمة التي تقتنص الحدث الروائي بإيقاع شعري بين أو جلي في دلالاته؛ كما في قوله:
ظهيرةٌ قائظةٌ”
وكان صاحبي يقول لي.. وصلْنا
وهنا سنلتقي بالفارس الحزينِ..
هذه قريتهُ..
وتلكَ حيثُ انعطفَ النهرُ.. طواحينُ الهواءِ
قُلتُ..
ذلكَ الذي يخبُّ الفرس الأعجفَ.. دون كيخوتيهْ
أُناديهِ..
فغابَ في اشتباك الغابْ
هلْ أنكرني؟
أنا الذي جئتُ به إلى هذي البلاد.. من أسطورة بيضاءْ
في هذه الأمداءْ”(19).
إن القارئ يستحضر البدايات أو الاستهلالات الجاهلية بالإفضاء إلى الخل الوفي أو الصاحب؛ أو الرفيق؛ وتوجيه الخطاب إليه ليكون مرساله إلى المحبوبة أو رفيقه في مغامرته ورحلته في غياهب الصحراء ورحلات الصيد؛وهنا؛ الحديث اتجه بكامله صوب القصة أو الحدث الروائي؛ والشخصيات المحورية في الرواية(دون كيخوتيه) وفرسه الأعجف؛ بمحاورة تساؤلية قائلاً: هل أنكرني الخل الوفي وأنكرني(دون كيخوتيه)؛ وهو الذي أعاده إلى هذا الوجود؛ بفروسيته القديمة ومغامراته المتخيلة المأزومة؛ وهنا؛ يناور الشاعر بين إيقاعي [السرد/ والحوار]، ليخلق هذه المكاشفة بين واقعه الاغترابي وواقع الشخصية الروائي المثالي أو المتخيل:
تبدو قلاعُ الأمسِ.. حيثُ كانَ..
مُدُناً مهجورةً
تأوي إلى أحراشها الذئابْ
لا الفنادق التي غزاها.. فتحت أبوابها لنا
ولم نجد من كان في انتظارنا من الأصحابْ
. . . . . .
. . . . . .”(20).
هنا؛ يخلق الشاعر المزاوجة بين واقع الشخصية الروائية؛ وواقعه الاغترابي؛ فالذئاب هم أعداء الشاعر من المغرضين والظلمة والمحتلين؛ فالفارس الشجاع المثالي(دون كيخوتيه) لا يستطيع أن يغيره واقعه . فكيف يغير واقعنا؟! ؛ ولهذا، فقد الأصحاب وضيعهم في ليالي اغترابه وأساه الوجودي المرير؛وقد دلَّ على حرقة الفقد والضياع بهذا المد البصري المحسوب بدقة ليشير إلى أن فراقهم تركه في حسرة مريرة وألم مستمر إلى مالا نهاية؛ ويتابع الشاعر هذه المزاوجة بين إيقاع السرد والمحاورة لتغيب المحاورة ولو جزئياً؛ وتطغى لغة السرد الوصفي الإخباري على واقعه ووجوده المأزوم؛ كما في قوله:
“من ظلال غابة الفلّينْ
بانتظار امرأةٍ تسألُه الدفاع َ عنها..
منْ تَعَثُّر السهوبِ بالذي تبقّى من خيالٍ صاخبٍ..
ومنْ أكاذيب الرواةِ..
جاءَ
ضامِراً مُنكَسراً.. وحيداً
ليقولَ لي..
خَرَجتُ عارياً..
إذْ خطفَ اللصوصُ فَرَسي..وكسروا الرمحَ..
وباعوا السيفَ والترسَ.. بدرهمينْ”(21).
إن الشاعر يحكي قصة(دون كيخوتيه) المخذول المهزوم الذي خسر كل شيء؛ولم يعد يستطيع الاستحواذ والحفاظ على أشيائه التي سلبت منه ؟ فكيف يغزو بالأوهام وينتصر؟!؛ لقد فقد هذا المحارب الموهوم ترسه، وفرسه، ورمحه؛ بعد ما سلبوا منه اللصوص جل ما يملك ؛ لقد أصبح عاجزاً عن الدفاع عن ممتلكاته فكيف ينشر العدل والفضائل؛ وكيف يحقق الانتصار إذا فقد حتى أدواته وأسلحته وتجرد من قوته الموهومة؛ ويتابع الشاعر مجريات الربط بين الواقع؛ والمتخيل كاشفا عن نوازع رؤيوية ونفسية عديدة؛ كما في قوله:
” سانشو بنثا”.. حامل الأسلحةِ الظريفِ صار السيّد المُطاعْ
تخدمهُ قبائلٌ من الرعاعْ
وها أنا.. أَضربُ في المتاهةِ..
انتظرتُ أن تجيئني بما يُعيدُني.. إلى ما كانَ بيننا..
من كَذِبٍ طفلٍ ومن تواطؤٍ جميلْ
. . . . . .
. . . . . .”(22).
هنا؛تكمن المفارقة بين الرواية وواقع القصيدة ؛ فالمرافق مع (دون كيخوتيه) أو التابع له غدا السيد المطاع؛ وهذا دليل انحدار القيم والمثل إلى الحضيض؛ لقد تواطأ الكل عليه ؛ وانهارت القيم والمثل العليا؛ وفقد الفارس مكانته كما فقد الشاعر أحلامه وممتلكاته وأشيائه في العراق من بيت ومكتبة وحديقة والمكانة السامقة والمنصب الجميل؛والعالم الإبداعي والروحي الخصيب؛ وهذه المفارقة الوجودية الأليمة التي تعلي الوضيع وتحط من شان العزيز؛وعلى هذا النحو من المفارقة يتابع الشاعر معاناته وإحساسه المأزوم بمزاوجة هادفة بين الإيقاع الروائي/ والمناخ الشعري؛ كما في قوله:
“أراكَ راجلاً..
فهل تخلىّ عنكَ ” روثينانتا” سابق الأفراس؟
وهلْ هَجرتَ ” دولثينا” التي بأمرها قاتلتَ..
وبأمرها..فارقتَ ما ألفتَ من حياة الناس ؟!
يقولُ لي..
أكادُ أنسى كلَّ ما أوهمتني به..
وما عَلَّمتني.. وما أشعتَ عنّي..
لمْ أَعُدْ وحدي كما كنتُ..
قرأتُ في كتابٍ استعرتهُ من حارس الغابةِ..
إن ” دون كيخوتيه”.. دخل التاريخَ من جميع أبواب العصور..
ويُقيمُ الآنَ في الأكواخ والقصورِ
لمْ أَعُدْ وحدي كما كنتُ..
وإن الرؤساء والملوك والأعيانْ
تعلموا .. الذي علّمتني..
وأسرجوا الخيولَ.. قاتلوا طواحين الهواء..
في الأحلامْ
وبعدَ كلِّ مالقيتَ..
هل تراني مُخطئاً في ما فعلتُ؟!
لمْ أَكُنْ أقصدُ أن تكونَ..في ماكنتَ فيه..
بلْ حاولتُ..أن أكشفَ ما في الروح من أسىً..
وفي العالَمِ من شرورْ
في مُدُنٍ تُقيمُ في الديجورْ
لأفتح الأبوابْ
لنجمةٍ ضائعةٍ تبحثُ عن مدارْ
لضحكةٍ حييَّةٍ..
أوقفها المدججون بالعصاب خلفَ هذه الأسوارْ
. . . . . .
. . . . . .”(23).
إن الشاعر أراد أن يدمج واقعه بواقع شخصيته المحاربة(دون كيخوتيه) ؛ كاشفاً من خلال هذه المحاورة عن رؤى عميقة؛ فالفارس المحارب حاول أن يبني مجده من خلال رغبته المثالية في إحلال السلام والأمان؛ والعدل والمحبة لكن جميع المدن التي حاول فتحها مدمنة للشرور والرذيلة ضد المثل والأخلاق والفضيلة؛فهو حاول أن يزرع في تلك المدن ضحكة حيية وبسمة مزهرة بالزغاريد والأحلام ؛ لكنه تفاجأ بعصابات الدمار التي تدمر التاريخ، والوجود، والحضارة، والآثار؛ إنه لم يُحَصِّل إلا الأشواك والرماد؛ وقد اعتمد المد النقطي الفراغي للدلالة على إدمان تلك المدن لبؤر الفساد والرذيلة حتى يستحيل اجتثاثها أو حتى الخلاص منها.
2-قلب الرؤى وإثارة المواقف الهزلية والتلاعب بالدور المنوط بالشخصية:
إن أبرز مثيرات القصيدة إثارة المواقف الهزلية بعدما فقدت الشخصية دورها التغييري؛ وموقفها الرافض؛ وخسرت كل قواها، وأصبحت خالية من القوة والمواجهة، بل أصبحت شخصية هزلية مضحكة في السيرك تثير الضحك بمواقفها الساخرة الهزلية؛ كما في قوله:
“نُؤجِّلُ الحديثَ عن كلِّ الذي مضى..
ونطوي صفحةَ العِتابْ
ونبدأُ الروايةَ الأخرى..
التي يكونُ فيها” دون كيخوتيه” مصرفيّاً حاذقاً
أو سارقاً..
و” سانشو بنثا” راقصاً في علب الليلِ
وبهلواناً في عروض السيركْ
. . . . . .
. . . . . .”(24).
لقد تلاعب الشاعر في تحريك القوى، والرؤى،في شخصيته الأسطورية؛ف(دون كيخوتيه) غدا مصرفياً حاذقاً؛ أو سارقاً محترفاً؛ لقد غيّرَ عالمه المثالي؛ ليدخل عالم الواقع المرير القائم على الفساد؛ وهذا التحوير في الشخصية يكسبها بعداً جديداً؛ ويمنحها قوى رؤيوية جديدة تكون بمثابة محركات بؤرية للموقف الشعري الاحتجاجي الرافض؛ وهنا تأتي النهاية متواشجة مع البداية في تحريك رؤاه الاغترابية في شخصيته الروائية وواقعه المأزوم ؛ كما في قوله:
هلْ تصحبُنا إلى بلادٍ .. كلُّ من عرفت فيها..
بانتظار أنْ يراكَ؟
أيّهذا الرجل ُالمُعتزلُ البعيدُ عن كلِّ الذي كانَ..
وعن كل الذي يكونْ
لو كنّا معاً هناكَ..
لوكنّا معاً..
لوْ..”(25).
هنا؛ يقوم الشاعر بتكريس الرؤى الاغترابية بالاعتزال ؛وقلقلة الواقع الاغترابي المرير عبر الصدى الشعوري المتكرر والحسرة المريرة المتقطعة والأماني الممزقة(لو كنّا معاً هناكَ..لو كنّا معاً..لوْ..)؛وكأن حسرة الشاعر المريرة لن تنقطع لو نكون هناك أنا في عراقي وأنت في عالمك ومثلك ومملكتك المثالية وعالمك الروحي الفضائلي المطلق.
بلاغة الرؤية الشعرية / أو كلمة القصيدة الأخيرة:
تسعى هذه القصيدة إلى تحقيق بلاغتها الرؤيوية ومنظورها الرؤيوي الدقيق ؛ وهو أن (دون كيخوتيه) المثالي لم يستطع أن يواجه نيران الرذيلة وخيوطها المتشابكة بمثاليته لابد من الواقعية لتحقيق الانتصار؛ فالمثالية وحدها لا تحقق البطولات ولا الانتصارات ولا تصنع الأمجاد؛ ما يصنعها المواجهة والقوة والإرادة العملية والتصميم، لا التمني والحسرة والأحلام؛ إن الشاعر حاول أن يتلاعب بشخصية(دون كيخوتيه) بما يلاءم وواقع الرؤية الشعرية وإحساسه الداخلي؛ وكأن الشاعر أراد أن يؤكد نظرته الواقعية بنوع من الحسرة والأسى والاحتراق والأمنيات المتقطعة بالعودة إلى العراق؛ وعالمه الروحي الذي انفصل عنه مرغماً؛ واقتلع من جذوره الوجودية اقتلاعاً مريراً ما يزال أثره في روحه إلى مالا نهاية.
رابعاً- البعد الرؤيوي لقصيدة(الإخوة كرامازوف):
إن لكل قصيدة بعدها الرؤيوي ومسارها الفني وأسلوبها التحفيزي؛ ولهذا؛”تعد الأخوة كرامازوف قمة أعمال(ديستوفسكي)، وقد أمضى ما يقارب عامين في كتابتها، ونشرت فصولها الأولى في مجلة – الرسول الروسي – وتم إنجازها في تشرين الثاني من عام 1879 ، وعالجت الروابط العائلية وتربية الأبناء والعلاقة بين الدولة والكنيسة، كما تناولت موضوعات الخير والشر والعدالة السماوية والخلود والحرية.
المحور المهم فيها هو اندلاع صراع مرير بين الأب –فيودوركارامازوف– وابنه البكر – ديمتري – بسبب علاقتهما بامرأة –كراشونيكا- وعمرها 22 عاما ، وكانت على علاقة جنسية بالوالد والولد .
الأب يهدد الإبن بالقتل إذا اقترب من خليلته ، والابن لايرعوي بحجة الدفاع عن حبه ، ويطلع على هذا الصراع خادم الأب، – سادا راكوف– ويقال أنه لقيط وابن غير شرهي للأب، ويقدم يوما على قتل الأب ويتهم الابن – ديمتري – بقتل والده، وتستمر الأحداث وجلسات المحكمة لتنتهي الرواية بالحكم على ديمتري بالأعمال الشاقة لمدة عشرين سنة في سيبريا.
وتضيع العائلة بموت جميع أفرادها ، ويدفن القاتل الحقيقة معه”(26) .
وبتدقيقنا في المحاور الرؤيوية التي تحكمها القصيدة نلحظ ما يلي:
1-القص السردي/والبث الشعري:
تعد قصيدة(الإخوة كارمازوف)من القصائد البوحية التي تشي بطابعها السردي الوصفي؛ وموحياتها المؤثرة؛كما في قوله:
“هي أقدارُنا..
وكأنَّ الرئيَّ السُلافيَّ أنبأنا بالذي سيكون لنا..
أُمماً وأناساً
فكُنّا .. كما كانَ أولئكَ الضائعونَ..
في ما أُعِدَّ لهمْ من مصائرَ مُربِكَةٍ..
ليسَ هذا الذي نحنُ فيهِ
غير الذي كان فيه آل كرامازوف..
من فِتَنٍ
الأشقّاءُ يقتتلون..
ويصطرِعُ الأبُ والإبنُ من أجلِ … !!
هلْ كانت امرأةً أم خرابا ؟
وفي لحظةٍ تتقاطعُ فيها الوعودُ
كلُّ ابن أنثى يُقيمُ لهُ وطناً
ويكونُ إذا شاءَ سَيِّدَهُ المُتَفَرِّدَ
ثُمَّ يكونُ إلاها
. . . . . .
. . . . . .”(27).
إن الشاعر يطرح من خلال هذه الرواية بعداً من أبعاد الاصطراع الوجودي الدائر بين الأقارب؛ ويعكس من خلال اصطراع الأخوة(كارامازوف)الصراع العربي بين الأشقاء الذين تحالفوا مع الأمريكان على أشقائهم العراقيين؛ وكانوا أداة دمار معهم بدلاً من أن يكونوا سياج حماية لهم؛ وهنا يؤكد قائلاً وكأن مصيرنا نحن العرب إلى الدمار، والتشرد ،والخراب لا نعي مصائرنا نتصارع كأخوة(كارمازوف) الأب يصطرع مع الابن ؛ ويذهب الجميع الضحية؛ وهكذا حالنا نحن البلدان العربية.
والملاحظ أن الشاعر يستمر في تكريس البعد الدموي لشخصية روايته؛ مكرساً أبعاد هذه الرؤية الاصطراعية؛كما في قوله:
في خريف العلاقةِ العائليَّةِ أو في خريف البلادْ
أَبٌ فاجِرٌ.. وثلاثةُ أبناءْ
الأبيقوريُ والمتعالمُ والمتصوِّفُ
كُلٌ له حُلُمٌ يتآكلُ في عالمٍ عَطِنٍ..
مثل تُفّاحةٍ فاسدهْ”(28).
إن الشاعر يستحضر جو الرواية؛ وشخصياتها مشيراً إلى شخصيات الرواية(الأخوةكارمازوف) من خلال رموزهم(الأبيقوري، والمتعالم، والمتصوف)؛ كل واحد من هؤلاء الأخوة له وجهته؛ ومنظوره؛ وتصرفاته؛ وتطلعاته وممارساته الخاصة به ؛ تجمعهم العدائية والاصطراع على أنثى واحدة تعاشرهم جميعاً تعاشر الأب والابن ؛ ويدرك الأب علاقة الابن بولده فتنشب اصطراعات حادة بين الأبناء تنتهي بقتل الابن اللا شرعي الأب ؛ وهنا تكمن عقدة الرواية وجوهر الحبكة الروائية ونقطة الاصطراع؛ التي تعبر عن جوهر الاحتدام والأزمة الروائية؛ ويتابع الشاعر ربط أحداث الرواية بواقعه وانتمائه. يقول الشاعر:
“لُغَةٌ باردهْ
ونصوصٌ تَساقَطُ منها الفواصلُ.. تدخلُ في بعضها..
طَيِّبون ؟
نعمْ ..
أَربَكتهم طقوسُ الكتابةِ .. تلكَ التي..!!
مَنْ سَيقرأُ هذا الهراء ؟
ومَن سَيُعيدُ الصبا للمياه.. إذا شاخت الأسئلهْ ؟!
ومن سيُجيبُكَ عمّا جهلتَ..
إذا شاركتْكَ فراشكَ طيلةَ ليل شتاءِ طويلْ
خاطرةٌ عارضهْ
فكرَةٌ غامضهْ
نَزَلَتْ في ديار آل كرامازوف ..
وانتشرتْ في فضاءاتها الشاسعهْ
. . . . . .
. . . . . .”(29).
إن الشاعر يتمثل رواية الأخوة(كرامازوف) تمثلاً رؤيوياً فاعلاً محركاً للشعرية؛ وباعثاً لإيحاءاتها ومداليلها كافة؛ فالشاعر يستحضر صورة المرأة اللعوب التي دخلت إلى عائلة(كرامازوف)؛ وهي كالداء الخبيث التي تدخل في الجسد فتنهكه وتبيده؛ وهي دخلت في هذا المنزل ؛لتدمر فيه؛ وتعبث به حدَّ الخراب والدمار؛ وقد ترك الشاعر مداً نقطياً مفتوحاً مشيراً إلى دخولها التام في كل ركن من أركانه؛ مقوضة دعائمه.
ويتابع على هذا النهج من المزاوجة بين إيقاع الرواية ومنتوج القصيدة الرؤيوي والإيحائي كما في قوله:
“أَيُهذا الرئي السلافيُ..
كيفَ جمعتَ في ما رأيتَ .. النقائضَ؟
حيثُ رأيت ..
الوقاحةَ والجُبنَ في رجلٍ واحدٍ..
والبراءة والعُهرَ في امرأةٍ واحدهْ !
ماذا أردتَ من عالَمٍ ..
تأكلُ السرطاناتُ فيه جاراتها السرطانات..
يَسّابَقُ الابنُ والأبُ.. والأخُ و الأخُ ..
نحو فراش سَيِّدَةٍ ساحرهْ !
تتجاوزُ فيه النساءُ أحلامَهُنَّ .. إلى كلِّ من يفتحُ البابَ..
حتّى يُطِلُّ الخرابُ ..
والناسُ.. مُذْ فَرَّقَتْهمْ مصائرُهُمْ
صارَ كلُّ فتى في المدينة .. ينتظرُ اللهَ..
يسعى إلى من يجيء إليه..
وهو في غرفة النومِ .. بالمُعجزهْ”(30).
إن الشاعر يرصد الواقع المتفسخ للمجتمعات الإباحية التي تنعدم عندهم القيم المثالية ليحل بديلاً عنها الأنانية والاصطراع على امرأة واحدة(الأب/ والابن)/(والأخ/ والأخ)؛ وهذا الواقع الاصطراعي المتفسخ هو من قوَّض الألفة في الأسرة ؛وأدخلها في معمعة الاصطراع والأنانية المطلقة؛ولهذا؛ يرجع فساد المدن إلى فساد أفرادها وفساد علاقاتهم الاجتماعية وانحلالها؛ وهذا ما يشير إليه قوله:
وأنّى توجَّهتَ ..
في ما ترى من فضاء المدينةِ..
أو في فضاء الروايةِ..تَصحَبُكَ الثرثرهْ
في الحياةِ أو الموتِ
في الديرِ والحانِ
في ما يقولُ العبيدُ وفي ما يقولُ أسيادُهمْ
كأنَّ البلادَ التي تتهاوى..
كما يتهاوى الجليدُ بعد شتاءٍ ثقيلْ
ليسَ لها غير ما تهبُ الأبجديَّةُ.. مِنْ مأثَرهْ
. . . . . .
. . . . . .”(31).
إن الشاعر يرى أن أسباب انهيار العلاقات يعود إلى المطامع الدنيوية والنظرة المادية إلى الأشياء في ظل اصطراع المتناقضات(الواقع /الخيال)و(الموت/ الحياة)و(الحب/والكراهية)؛و(الخير/الشر)و(الحاكم/والمحكوم)و(المستبد/والمستبَد به)؛ ووفق هذه المنظورات المتناقضة تنهار البلاد؛ وتسطر مأثرتها الوجودية المصطرعة أو المنهارة.
2-الرؤيا التراجيدية/ والكشف الدرامي المحتدم:
تطرح القصيدة في بعدها الرؤيوي الطابع الاصطراعي المحتدم؛ والتراجيديا الدرامية المحتدمة؛وفق رؤى محفزة ومنظورات متغايرة تجمع ببين أطراف الثنائيات التي تبثها القصيدة؛ ولهذا؛ اعتمدت القصيدة الجو الاصطراعي المحتدم بين الثنائيات؛ برغبة عارمة تقودها الرؤية الاحتجاجية الصارخة على الواقع المتفسخ بين العلاقات الاجتماعية التي تطغى فيها حب الأنا أو الذات على حساب الآخر وجوداً وكياناً؛ولهذا عمدت القصيدة بالعزف على هذا الوتر الرؤيوي في التحفيز النصي في الرواية والقصيدة؛في كل مجرياتها وتتابعها النسقي؛كما في قوله:
أَليشا كرامازوفْ
هل هو وعدُ السماءْ ؟
أم هو آخرُ مَنْ حرّرتهُ طفولتُهُ .. من طقوس الرياءْ ؟
يُحاوِلُ أَن يتجنَّب ماكان في الناسِ..
مِنْ غَفْلَةٍ وجفاءْ
كُلُّهمْ يَدَّعون محبَّتهُ .. ويظلُّ وحيدا
ويتبعهم حيث كانوا..ويبقى بعيدا
تَتَجلّى بصيرتُهُ .. فتطِلُّ عليه البلادُ بأسمالها..
وعقابيلِها..
ْ
أيُّ معجزةٍ ستُعيدُ إلى الأرض..
ماكانَ في غدها من بهاء ؟!
. . . . . .
. . . . . .”(32).
هنا؛ يرصد الشاعر المتناقضات؛ ويبعث من خلالها رؤيته الوجودية أو رؤيته العميقة؛ وكأن الشاعر أراد أن يقول: إن رغم كل المصطراعات والمحفزات والقوى المضادة لإرادته لابد أن يصنع غده المشرق ؛ ويعيد إلى العراق زهو ما كان في غدها؛ وهو بذلك لا يتخلى عن نظرته المتفائلة ؛ورغم تساؤله اليائس؛ فإنه لن يتخلى عن أمله بالقادم مهما كانت ضبابة اليأس كثيفة؛ كما في قوله:
أيُّ معجزةٍ ستُعيدُ إلى الأرض..
ماكانَ في غدها من بهاء ؟!”
وفي الختام؛ يرى الشاعر أن أقدارنا هي التي تقودنا إلى حتفنا؛ وتأخذ منا أحلامنا وآمالنا وترمينا في هاوية الدمار والخراب والردى قائلاً:
“هي أقدارُنا..
يُقبِلُ الموتُ مقترناً بالخرابِ .. وبالشكِّ
وهو يُرافِقُنا حيثُ كنّا ..
ويَسْكُنُ أحلامَنا..
إنَّ تعويذةً ورثتها القبيلةُ..
تُبعِدُ عن هذه المدينةِ .. أبناءَها
وتُغَيِّبُهم في سراب فرائضها..
وتَغيبْ”(33).
هكذا،تنتهي الحياة،ويسدل الموت ستاره على الأشياء، وتغيب الأحلام في غياهب الموت والدمار،وترتحل المدينة وتندثر في ركام الدمار والمحو الزمني.
بلاغة الرؤيا الشعرية/ أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن الشاعر يرى في الرواية صورة من صور تناقضاتنا واصطراعاتنا الوجودية؛خاصة أن مركز ثقل الرواية تصوير التراجيديا الدرامية المحتدمة بين الأطراف المتصارعة تجمعهم صلة القرابة كما هو حالنا نحن العرب ؛ الأخ يتصارع مع أخيه؛ وهو بذلك يخلق مزاوجة بين واقع الرواية وواقع الشاعر وموقفه الوجودي؛ وأحاسيسه الرؤيوية المحتدمة؛ وكأن الشاعر أراد أن يقول كلمته الأخيرة أنه رغم كل الصراعات ستعود العراق وستصمد ولن تندثر كباقي الأمم لأنها تخلق من رماد دمارها حضارتها المجيدة.
وصفوة القول: إن قوة الرؤيا الشعرية التي تثيرها القصيدة ترتقي بالحدث الشعري، وتنمي المشهد الشعري،لتحقيق مثيرات الرؤية
الرابع عشر: البعد الرؤيوي لقصيدة(قريباً من الليدي شاترلي .. بعيداً عنها):
تستوحي هذه القصيدة رواية (عشيق الليدي شاترلي) لهربرت لورنس؛ وهي رواية” تحكي عن علاقة جسدية بين رجل من الطبقة العاملة وامرأة من الطبقة الأرستقراطية، ويقال إن – لورنس – استوحى هذه الرواية من الواقع الاجتماعي الذي عاشه، ومن علاقة حقيقية كانت بين السيدة –أوتلاين موريل – الأرستقراطية وعشيقها البناء –تايغر– الذي دخل قصرها لبناء قاعدة حجرية لأحد التماثيل في الحديقة المنزلية.”(34).
ومن تدقيقنا في البؤر النصية في قصيدة(قريباً من الليدي شاترلي.. بعيداً عنها)؛نلحظ تأسسها على البؤرالنصية التالية:
1-شعرية الجسد/ أولغة الأنوثة:
تحتفي القصيدة بالأنوثة/ أو لغة الجسد؛ والشاعر يعبر عن جرأة في استجرار الدلالات والتعبير عنها بصراحة؛ وعمق؛ وإيحاء؛كما قي قوله:
للجمرِ.. في الجَسَدِ المعبّأ بالزوابع والرعودِ ..
خريطَةٌ صمّاءُ مُعتِمَةٌ
سيفتَحُ في خطوط الطول حيناً
أو خطوط العَرضِ .. حيناً آخرَ..
الأبوابَ..
نحوَ فضاءِ فتنتها.. وما اكتنزتْ من الأسرارْ
مَنْ أعطى الرياحَ شراسةَ الإعصارْ”(35).
إن الشاعر يعبِّر عن مشاعر الأنثى في احتراق عاطفي مكثف؛ وشعور إيحائي يشي بمشاعر الأنثى العاطفي؛ وحالة التوق التي تصطهج في نفس الأنثى للذكورة؛بلغة تشي بالجرأة ومصداقية الشعور؛ كما في قوله:
“تِلكَ التستفيقُ على جليدٍ .. يسكنُ الرحمَ البليدَ
رأتْ صباحاً لا حدودَ له
وكان يمرُّ قُرْبَ فنارها الذهبيِّ.. مُرتاباً
فَتَهرَعُ كي تراهْ
وإذا دنا منها.. تُفاجِئُهُ حرائقُها ..
وفي غَيبوبةٍ بيضاء.. تَشْتَبِكُ الحرائقُ
أيُّ عاصفةٍ من الرغباتِ..
يطلقُ جمْرَها الجسدُ الجميلُ”(36)
هنا؛ يعبر الشاعر عن إحساس(الليدي تشالري) التي جاءت جريئة في مقاربة مشاعرها الداخلية؛ وتعبيرها الجميل الصادق في واقع الرواية بشعرية مقاربة لشعرية الرواية بل تفوقها دقة في وصف الهواجس والنفثات الداخلية؛ كما في
قوله:”أيَّ عاصفةٍ من الرغباتِ..يطلقُ جمْرَها الجسدُ الجميلُ”؛ وهكذا؛ يشعرن الشاعر الجسد الأنثوي بكل ما يفيض به من لغة الأنوثة وفيوضاتها العاطفية وأحاسيسها الداخلية العميقة.
وهكذا يتابع الشاعر فيوضات الجسد وما يصطهج في جسد( الليدي شاترلي)من رغبات محمومة تفيض بها أنوثتها؛ كما في قوله:
“أكانتْ امرأةَ ؟
يكادُ يَشُكُّ ..
ماهذا الثراء الفضُّ في إيقاعِ ربوَتِها..
وفي النهدين ؟!
كيفَ يكونُ هذا السحرُ في لغةٍ..
تنوءُ بما تُشيرُ إليه منْ فِتَنٍ ..
تقولُ لهُ..
أَنقرأها معاً ؟
ماذا سنقرأُ ؟!إنَّ مُعجَمها تعثَّرَ بارتياب العاشقينْ”(37).
إن هذا الإحساس بمحاكاة الذات الداخلية لدى(الليدي شاترلي)والتعبير عن شبقها الداخلي واصطهاجها إلى الذكورة؛ عبَّر عنه الشاعر بمحاورة داخلية(مرتدة من الذات إلى الذات)؛ ومن الذات إلى الآخر؛ وإن هذه المقاربة الشعورية لفيوضاتها الداخلية عبر عنها بعمق تبعاً لما أسميناه شعرية الجسد؛ وقد عبر عنه بقوة في هذا المشهد:
كيفَ التقاها ؟
عندَ بابِ الفندقِ الجبليِّ .. في …. ؟!
كانت بقبَّعَةٍ وبنطالٍ قصيرٍ
لم يكن يسعى إليها
كان معتزلاً حزيناً..
هلْ تَذَكَّرها ؟
وإذ حلَّ المساءْ
تَخيَّلته كما تشاءْ
وأدخَلَتهُ خريفَ غابتها.. وأمطَرَت السماءْ
وكأنَّ عُريَهُما أعادَ إليهما..ما كانَ بينهما
و” أسدلت الظلامَ على الضياءْ”(38).
إن القارئ يلحظ عمق الرؤية في تمثل شخصية(الليدي شاترلي)؛ والتعبير عن فيوضاتها الشعورية – بعمق وإحساس وشفافية- وكأن الشاعر يصور بعدسة مونتاجية المشهد عن قرب من خلال تتبع ملامح الشخصية بتفاصيلها الجزئية؛ من وصف للمظهر الخارجي(كانت بقبعة وبنطال قصير)؛ والمشاعر التي تفور بالداخل(وكأن عريهما أعاد إليهما ما كان بينهما)؛ وهكذا يؤسس شعرية القصيدة على دقة المشهد الوصفي؛ وعمق مقصديته؛ وبداعة الرصد الداخلي لحركة المشاهد.
2-تصوير المشاهد بتفاصيلها الجزئية/ ولقطاتها المكثفة:
يعمد الشاعر إلى وصف المشاهد بدقة متناهية بكل لقطاتها المكثفة وتفاصيلها الجزئية؛وحراكها الشعوري المكثف، كما في هذه الصور بحراكها الشعوري وتفاصيلها المكثفة؛إذ يقول:”
وبانتظار ثمارها
غطّى ضجيج العُريِّ بالأزهارْ
إنَّ أريجها الليلي يدخلُ في استعارات الكلام
وإذ تحاولُ أن ْ…. ؟!
تفيضُ ضفافُها حُمَماً..
وتحرمُ كلَّ مَنْ في الغابة السوداء..
مِنْ نِعَمِ المَنامْ
. . . . . .
. . . . . .”(39).
هنا،يعبر الشاعر من خلال المشهد عن جزئيات الصورة بكل حراكها الشعوري؛ ونبضها الروحي،وحراكها المفعم بالأحاسيس والمشاعر المحتدمة(تفيض ضفافها حمماً.. وتحرم كل من في الغابة السوداء.. من نعم المنام)؛ وهذا الرصد التفصيلي يزيد قوة استحضار الشخصية والتفاعل معها على شاكلة قوله:
في مهرجان الماءِ.. تنشَأُ مرَّةً أُخرى ويَنْشَاُ
كان يخلقُها
وتخلقهُ
ويرجو أن تكون وأنْ يكونْ
ويغادران معاً .. ويفترِقان ..
لامرأةٍ من البللور كان قد اقتناها..
من مَزادٍ هامشيٍّ في الضواحي
بعضُ ما قد كان فيها
هل ستخرُجُ ذاتَ يومٍ من تَشَكُّلها المُريب ؟!
وهل تكون ؟
وهل يكون ؟
. . . . . .
. . . . . .”(40).
إن القارئ يلحظ من خلال الصورة عمق المشهد/ وبداعة الصور؛ وعمق مردودها المشهدي؛ وكثافة رؤيتها العاطفية وحراكها الشعوري المفعم إحساساً وعاطفة وخيالاً؛ كما في قوله:”
مازالَ حين يمرُّ بالشجرِ المُخاتل .. حيثُ كانا
يَتَخَيّلُ امرأةً.. تَسلَّلُ في الظلام إليهِ..
من مسكٍ وغارْ
شاخت أعاصيرُ البلادِ .. فَرَسٌ ..
تَذَكَّرَ ما تجودُ به عواصفُها..
وماتهبُ الرياحُ
حتى إذا اقتربَ الصباحُ
لمَّت بقايا عطرها السريِّ ..واعتكفَتْ بعيداً..
وانتهى الحُلُمُ المُباحُ”(41).
وهكذا؛ تحقق القصيدة؛ مبتكرها الرؤيوي؛ خاصة في هذه القفلة الشاعرية التي تبثها؛ مسترجعاً ذكرياتها الجميلة،ومستحضراً عمق الشخصية الروائية(الليدي شاترلي)؛ وهكذا؛ احتفت القصيدة بمبتكرها الرؤيوي/ خاصة في هذه القفلة الشعرية المحكمة.
بلاغة الرؤية الشعرية/ أوكلمة القصيدة الأخيرة:
إن القصيدة تطرح رؤيتها بجسارة رؤيوية عبر خصوبة المشاعر وعمق الأحاسيس وكأن الشاعر أراد أن يقول كلمته الأخيرة؛ أنه مهما استبدت الظروف به فإنه سيعود إلى عراقه خصباً معافىً أكثر من ذي قبل؛ وعراقه أشبه بخصوبة وإشراق(الليدي شاترلي)؛ وهو ما زال متمسكاً بخيط الأمل الذي يدفعه إلى التمسك بكل رمز أو دلالة تربطه بالعراق من قريب أو بعيد؛ وهذه القصيدة رغم رموزها ودلالاتها البعيدة جاءت في رؤاها الباطنية مؤكدة التزامه وانتمائه وهويته الوجودية.
الخامس عشر- البعد الرؤيوي لقصيدة(الأخوة الأعداء):
تتمثل قصيدة (الأخوة الأعداء) لحميد سعيد رواية(الأخوة الأعداء)لنيكوسكازنزاكي؛ وهي رواية قيل عنها” إنها رواية عظيمة، قد تفوق روايته – زوربا اليوناني – في بنائها السردي وصراعات أبطالها وما تحيط بهم من تحديات وأحداث؛.وهي رواية مفعمة بتوجهاتها الإنسانية ، حيث الصراع والتضحية ، والحقد والحب أيضاً.إن شخصية –انداروس– في توقها إلى الحرية، والعدالة والإيمان، تكاد تختصر مأساة الإنسان الوجودية في عصرنا المضطرب القاسي.”(42).
ويهدف الشاعر حميد سعيد في قصيدته هذه أن يضعنا في أجواء ملحمية اصطراعية أشار إلى هذه الناحية الباحث حمدي مخلف الحديثي:”من المواقف الإنسانية في هذه القصيدة ، تناول مأساة الحرب الأهلية في اليونان، واختلاف الرأي بشأنها بين الأب وابنه، وبين الأشقاء، والصراع المسلح بين قرية وأخرى في الوطن الواحد ، ويفصح الشاعر عن إدراك بأن أحداث الرواية نعيشها نحن الآن من خلال صراع بين مواطن ومواطن.قصيدة – الأخوة الأعداء – هي الوردة الدامية التي نراها ولا نستطيع قطفها وإزالتها حتى تتفتح وردة الحب في حدائقنا ، ولقد عملت الصور الشعرية على تجسيد واقع نعيشه “(43).
ولعل أبرز ما أثارته القصيدة هو إسقاط الواقع العدائي في الرواية على الواقع المعاصر الذي نعيشه في زمننا الراهن؛ ومن هذا المنظور؛كشفت القصيدة عن مفترقاتها الشعورية المحتدمة ورؤاها العميقة منذ البداية؛ كما في قوله:
“في كتاب الأساطير تمحو الأساطير..
للأزرق الأثيني..
قال. . يسألُني كلُّ من ألتقيه في هذه المدينةِ
لِمْ ولماذا.. تُشَوِّهُ هيلين صورة هيلينْ
ولماذا.. يُسَفِّهُ هومير أشعار هوميرْ
كنتُ أقول.. من هي هيلين؟!
وأنا ما سمعتُ بهومير..
لمْ أرَ في ما قرأتُ من كتب الأقدمين..
أو كتب المُحْدَثين.. أخبارهُ !!
أو تأكَّدَ لي ما يُقالْ
بعدَ أنْ نزلَتْ في البلاد النوازلُ
أصحو على هَرَجٍ..
لمْ يكُنْ حين غادرتُ مقهى المدينةِ في أوّل الليلِ
كان الطريقُ إلى البيت يفتحُ للقمر الرماديِّ ..
باباً
سيدخلهُ آمناً..ويطوف على كلِّ ما كان في البيتِ..
يمسحُ أِشجارَهُ والرياحَ..
وأحلامَ أطفالِهِ والأغاني القديمةَ والماءَ..
بالنورِ..
هذا الفضاءُ الذي لا حدود للشعر فيهِ..
للحبِّ و الأسئلهْ
صارَ حقلَ رمادٍ تمدَّدَ في كتب السَفَهِ..
اقترحَ السُفهاءُ..”.(44).
إن القارئ يلحظ الإيقاع الشعوري والتمهيد العميق لإيصال ما في باطن الرواية إلى سياق قصيدته؛ محاولاً اعتماد الرمز مركزاً بؤرياً لإشعال دلالات القصيدة؛وكأنه يتحدث عن قصة أو أسطورة من الأساطير لأن ما يقع من اقتتال ومفارقات دامية بين الأخوة ؛(الأخ /وأخيه)و(الابن/وأبيه)ما يدعو للتساؤل ؛واللجلجلة بالسؤال مراراً وتكراراً؟؛وهذا ما يعكسه على صراعاتنا العربية بين بلد وبلد؛ وإنسان وإنسان؛ وأخ وأخيه؛ وهو بهذا المنظور يؤكد سوء المجتمعات العربية وطابعها الانتحاري من زمن الجاهلية إلى الآن؛ وقد عبر بالصورة الموحية عن مرارة ذلك؛ كما في قوله:”هذا الفضاءُ الذي لا حدود للشعر فيهِ../للحبِّ و الأسئلهْ/صارَ حقلَ رمادٍ تمدَّدَ في كتب السَفَهِ”؛ وكأن كل ما يحدث على أرض العراق هو ناتج صراع الأخوة واقتتالهم؛وهذا ما عبر عنه بمصداقية وشفافية عالية:
“أنْ تطرد البلادُ بساتينَها
ويكونُ على كلِّ مُنعَطَفٍ مقصلهْ
وتودِعُ أشجارهُ السودُ في كلِّ غصنٍ تدلّى على الطرقات..
ومسَّ حجارتها .. قُنبلهْ
وسيزرًعُهُ القتَلَهْ
حنظَلاً..”(45).
إن القارئ يلحظ فيوضاتها الدلالية المكثفة ؛ورؤاها المحتدمة؛وواقعها الرؤيوي المفتوح الذي تدل عليه؛فالبلاد فقدت نضارتها؛ وخصوبتها الجمالية ؛ ومعالمها الطبيعية؛ ما عادت كما كانت فالأشجار تحولت إلى مشانق ومقاصل؛ والأحجار السوداء إلى قنابل؛ والقمح حوَّله الظلمة إلى حنظل؛وسرعان ما يعمق الواقع ليصير أكثر قسوة ودموية؛ وكأننا على موعد دائم مع القتل والدماء والجثث والموت؛ محكوم على بلادنا أن تكون بركاً لدمائنا لا دماء أعدائنا؛ لدماء تناحرنا وتصارعنا نحن العرب الأشقاء؛ كما في قوله:
أوَ كُنّا على موعدٍ بالذي كان..
لا أحَدٌ في البلاد التي تتعثَّرُ بالموتِ..
ينجو من الموتِ
مَن لمْ يمُتْ بالرصاص المُخَبًّأ في الخبز..
يقتُلهُ الخبزُ
ومَنْ لمْ يَنَلْهُ رصاصُ الجنودِ
نالهُ من رصاص أخيهِ !”(46).
إن الشاعر يعبر بفاعلية رؤيوية عميقة عن عالمنا الوجودي العربي المحتدم؛ وواقعنا المأزوم؛بصور شديدة الكثافة على مدلولها المأساوي العميق:” مَن لمْ يمُتْ بالرصاص المُخَبًّأ في الخبز../ يقتُلهُ الخبزُ/ ومَنْ لمْ يَنَلْهُ رصاصُ الجنودِ/ نالهُ من رصاص أخيهِ !”؛وهو- بهذه الرؤى المكثفة – يثير الشعور المقاوم.
ومن البنى الرؤيوية المرتكزة للقصيدة نأخذ البنى التالية:
بث العادات والتقاليد بإحساس جنائزي تراجيدي حزين:
تعمد القصيدة في تحفيز رؤيتها على تعرية الواقع الدموي المتصارع بين الأخوة؛ لتحريك إيقاعها الرؤيوي الكاشف عن عمق جراحنا وشدة مأساتنا نحن العرب وكأن مكتوب علينا أن نعيش في مأتم دائم؛ وأسىً واحتراق شعوري مستمر؛ كما في قوله:
“في الليلة الأخيرةِ من موعدٍ لن يكونْ
تذهبُ كلُّ نساء القرى بثياب الحدادٍ..
إلى المقبَرَهْ
يتبادلنَ جمرَ المراثي ويسألنَ عن دم أبنائهنَّ
فارغة كانت القبورُ
ومهجورة هذه المقبرهْ
. . . . . .
. . . . . .”(47)
إن رصد المشهد الجنائزي لحال النسوة هو لتعرية واقعنا الموحش حتى قبورنا وموتانا؛أصبحت موحشة مقفرة كذلك فقدت سحرها وجمالها وأنسها الروحي؛ وأصبح يسكنها القفر والخواء؛وقد عبر عن إحساسه المأزوم بالعلامات البصرية إذ ترك مداً نقطياً مفتوحاً للدلالة على شدة الوحشة والقفر الوجودي وحالة العقم والفقد العربي المفتوح على كل الاحتمالات والرؤى المأساوية الدامية.
إثارة الإيقاع الدرامي المحتدم:
إن أبرز البنى الدالة في القصيدة تحفيز الرؤى وتكثيفها للرؤى المحتدمة بتوليف فني بين إيقاع السرد والدراما؛ كما في قوله:
يخرجُ من كلِّ بيتٍ إمامان..
يفتي الأب القادمُ من صفحات كتابٍ عتيقٍ..
بغير فتوى ابنه الداخلِ في كذبٍ الحاضِرِ..
يختلفانْ
كُلٌ له من قراءاته الفاسدهْ
لغةٌ باردهْ
ويَقتَتِلُ الأخوةُ.. كلُّ الذين يموتونَ..
جاءوا إلى الموت .. من مدن الفقراء
والفقهاءُ..
يغتنمون الأساطيرَ والوهمَ..
من أجل متعتهم بالدماءْ
. . . . . .
. . . . . .”(48).
إن إيقاع الاحتدام والصراع الدائر بين الأخوة لهو أشد إيلاماً من جراح الأعداء؛ خاصة عندما تصل درجة العدائية إلى أشد درجات توترها واحتدامها عندما يتحير الأب كيف يميز بين دماء أولاده؟؛ وهذه قمة التراجيديا والمأساة الشعورية؛ كما في قوله:
“يقفُ الأبُ بين بنيه وبينَ بنيهْ
لا يُفَرِّقُ من أيِّ أبنائهِ ..اخترقتهُ الرماحْ
كأنَ الكلامَ بين أخٍ وأخيه .. انتهى
ليسَ من لغةٍ..
بينَ مَنْ فَرَقّتهمْ أساطيرُ سوداءُ..
غير السلاحْ”(49).
إن درجة الدرامية تبدو في هذا الحراك الشعوري المحتدم الذي تقوده الذات في لحظات احتراقها عندما يقف الأب لا يميز بين القاتل والمقتول وكلاهما في نظره مقتولان؛ الأول بالغيرة والحقد، والثاني مجابهته لأخيه بالسلاح؛ وهنا، تزداد درجة الاحتدام والدرامية في القصيدة إلى نهايتها.
المنفى/ ونيرانه(المنفى الذاتي / والمنفى الوجودي):
إن أبرز المؤشرات الدلالية الفاعلة في تكثيف الرؤية الشعرية؛ هو إبراز دائرة النفي الذاتي/ الوجودي؛ فالشاعر في روايته يطرح معادلة مهمة وهي أن المنفى الذي يعانيه هو منفى وجودي؛ كما في قوله:
على هامشٍ من كتاب.. الأساطير تمحو الأساطير
يكتبُ شيخُ الطريقة .. يأتي زمانٌ على هذه البلادِ
يُسَفِّهُ فيه المعريُّ شعرَ المعريِّ..
تُسفِّهُ فيه النساءُ النساءْ
يعمُّ البلاءْ
ويهجرها الشعراءْ
يعتزلُ الوردُ أكمامهُ والحدائقَ والماءَ
كانَ تبرّأَ من عطرهِ
أتُرى سيغادرُ ألوانِهُ ويهاجرُ .. معتزلاً
ضَيِّقٌ.. ضَيِّقٌ .. ضَيِّقٌ
في المنافي الفضاءْ
. . . . . .
. . . . . .(50).
إن إحساس الشاعر بالنفي الوجودي قد عبر عنه الشاعر بعمق، وشفافية ،وأسى واحتراق؛ فإن المنفي يعاني من حرقة وجودية غاية في الأسى،والاحتراق، والوجاعة؛ كما في قوله:( ضيقٌ.. ضيقٌ.. ضيقٌ في المنافي الفضاء)؛ وبهذا الإحساس الوجودي المختنق تعاني الذات في لحظة اغترابها المرير؛ وهكذا، تختتم القصيدة بهذا المد الرؤيوي الدافق؛ كما في قوله:
“يتوارى القتيلُ والقاتلُ خلفَ تواريخ رعناء
ينسبها قائلٌ غامضٌ . . لرواة غلاظْ
وينسبُهُم – أيّ أكذوبة يتوارثها الجهلاءُ –
إلى ملكوت السماء!!
كلُّ ما جاء في كتاب الأساطير تمحو الأساطير..
ليس سوى كذب وافتراءْ
ليس سوى مرجعٍ.. يستظلُّ به القتلهْ
هل سيعرفُ بعد فوات الأوان .. أخٌ وأخوه يقتتلانْ
أين هي المعضلهْ ؟!”(51).
وهكذا؛ تعبر القصيدة عن قمة المفارقة والأسى الوجودي؛ عندما ختمها بالسؤال الاستنكاري الجارح( أين هي المعضله؟!). والسؤال بقدر ما يحمل من الألم بقدر ما يحمل من حرقة وأسى مرير؛ (هل سيعرف بعد فوات الأوان.. أخٌ وأخوه يقتتلان)؛ وهو بهذا الأسلوب التصادمي يعمق الرؤية الاستنكارية الاحتجاجية الرافضة بكل أساها واحتراقها الشعوري.
بلاغة الرؤية الشعرية/ أو كلمة القصيدة الأخيرة:
إن القصيدة تطرح رؤيتها بجسارة عبر شعرية الموقف الشعوري الاحتجاجي الصارخ بنفي كل مظاهر الجريمة والقتل التي تقع بين الأخوة والأشقاء ببعد تعروي رؤيوي عميق أو فاضح ؛ غايته الكشف من خلال واقع الرواية الواقع الدموي المعبر عن واقعنا العربي القائم على التناحر والتباغض، والاقتتال؛ وكأن القصيدة تمثل صرخة احتجاجية غاضبة على الواقع العربي الضائع الذي أصبح دمية يحركها الأمريكان وحلفاؤهم في بلادنا العربية كيف شاء وبالشكل الذي شاء؛ وهذا ما زاد من مآسينا على مر الأيام والسنين منذ الأمس وحتى وقتنا الراهن.
وصفوة القول: إن الحركة الجمالية التي تخطها قصائد( أولئك أصحابي) تتأسس على المقدرة الفنية على تفعيل الشخصيات الواقعية بالحدث الشعري والموقف الرؤيوي المراوغ، وحنكة المشهد الشعري وجوهر الرؤيا المبثوثة في ثناياها،
نتائج أخيرة:
إن ولع الشاعر بالإضافة إلى الشخصية الروائية المستحضرة البطلة رؤية جديدة أو بعداً رؤيوياً جديداً أسهم في إغناء الحركة الشعرية، والشخصية المستحضرة بعداً إضافياً جديداً؛ قد لا يجده قارئ الرواية ذاتها؛ فهي تضيف رؤية جديدة؛ومنظوراً مغايراً؛ وهذا ما يثير الأهمية، ويبعث على تلقيها الفني الجمالي؛إذ إن من خصوصية الإبداع التميز والإضافة؛ وهذا ما امتازت به قصائده على المستويات كلها.
إن الرغبة الجامحة في شخصياته الروائية إلى إبراز التحدي والإصرار هو ما حفز قصائده إلى تكثيف الأدوار المتعلقة بها،وهذا يعني أن فاعلية الشخصية تأتي من فاعلية الأحداث الجديدة والرؤى المكتسبة من سياقها الشعري الجديد؛ولهذا، يجد القارئ في الشخصية الروائية تلكم الشخصية الشعرية المغامرة في عالمها والمجابهة للحياة بقوة وعظمة وكبرياء, ولهذا لايمكن أن تندرج هذه الشخصيات ضمن دوائر دلالية محددة،إنها تنفتح على الحياة بوجوهها المتناقضة وأحداثها المختلفة،واحتداماتها الوجودية بين الثنائيات الضدية.
إن الموهبة الخلاقة وعمق التمثل الفني لهذه الشخصيات هو ما رفع الفاعلية الجمالية لهذه القصائد،وأكسبها عمقها في النبض والإيحاء والشفافية،وكأن الشاعر مسكون بهاجس الرغبة لتجاوز زمنه الراهن إلى أزمنة خصبة بالتغير والاختلاف والبشائر والذكريات والأحلام،ولانبالغ في قولنا : إن معظم شخصياته الروائية تمثل وجهي الحياة المتناقض،وتملك جسارة في صمودها ومجابهتها رغم بعض مظاهر الضعف والانهيار التي تظهر عليه أحياناً .
إن قصائد( أولئك أصحابي) تطرح رؤيتها،وفق منظور رؤيوي متكامل،اشتغل عليه الشاعر فترة طويلة من الزمن،حتى اختمرت رؤيته ونظرته، وهنا،يكثر الشاعر من الرؤى المصطرعة التي تبين أوجه الحياة باصطراعها ورؤاها المتمردة،ليعلن في النهاية ثورة إبداعية في مماحكة الشخصيات المبدعة والعيش معها واقعاً فنياً رؤيوياً متمرداً يصل أرقى مرتبة الإثارة والفكر والإبداع. وهذه هي ثمرة المنتجات الإبداعية التي تتوخى البقاء وتجاوز زمنها الإبداعي الراهن إلى أزمنة جديدة، تثيرها وتماحكها فنياً وإحساساً جمالياً بعيداً عن الإدراك والتمثل التام.
إن شعرية قصائد( أولئك أصحابي) تسبح في فضاء المحاورة والمناورة الفنية على صعيد تكثيف الأحداث وتنويعها في تفعيل الشخصية الروائية،وهذا ما يجعل الشخصيات الروائية واقعاً فنياً رؤيوياً جديداً لتنطق بواقعها وواقع الشاعر وهذا ما يمنحها الحركة الجمالية والرؤيوية لتكشف عن واقعها بمزاوجتها لواقع الشاعر ،وكأن الشخصيات الروائية تعيش متنفسه الإبداعي الوجودي في الإثارة والتحفيز النصي.
الحواشي
المصدر نفسه،ص43.
المصدر نفسه،ص44.
المصدر نفسه،ص44.
المصدر نفسه،ص45.
المصدر نفسه،ص45.
المصدر نفسه،ص45-46.
المصدر نفسه،ص46.
المصدر نفسه،ص46.
المصدر نفسه ص47
المصدر نفسه،ص48.
المصدر نفسه،ص48
المصدر نفسه،ص49
المصدر نفسه،ص49
المصدر نفسه،ص50
المصدر نفسه،ص50-51.
المصدر نفسه،ص51
المصدرنفسه،ص51
المصدر نفسه،ص51-52.
مخلف الحديثي،حمدي،2016-تكامل الرؤى بين واقعية الرواية ورمزية القصيدة، مخطوطة،ص35.
سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي، ص52
المصدر نفسه،ص52
المص المصدر نفسه،ص53.
المصدر نفسه،ص54.
المصدر نفسه،ص55.
المصدر نفسه؛ص55.
المصدر نفسه،ص55.
مخلف الحديثي،حمدي،2016-تكامل الرؤى بين واقعية الرواية ورمزية القصيدة، مخطوطة،ص37-38.
سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي،ص56.
المصدر نفسه،ص56.
المصدر نفسه،ص56-57.
المصدر نفسه،ص57.
المصدر نفسه،ص58.
المصدر نفسه،ص59.
المصدر نفسه،ص60.
مخلف الحديثي،حمدي،2016-تكامل الرؤى بين واقعية الرواية ورمزية القصيدة، مخطوطة،ص39.
سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي،ص61
المصدر نفسه،ص61-62.
المصدر نفسه،ص62-63.
المصدر نفسه،ص63..
المصدر نفسه،ص63.
المصدر نفسه 64
مخلف الحديثي،حمدي،2016-تكامل الرؤى بين واقعية الرواية ورمزية القصيدة، مخطوطة،ص41.
المرجع نفسه،ص41.
سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي،ص67.
المصدر نفسه،ص67.
المصدر نفسه،ص67.
المصدر نفسه،ص68.
المصدر نفسه،ص69.
المصدر نفيسه،ص70.
المصدر نفسه،ص70
المصدر نفسه،ص70.