هاجس الفانتوم أيضاً


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
مساء رائق في الظاهر على الأقل، وعبد السميع يتأمّل الحيّ المكتظّ بالناس من على سطح بيته، يتأمل الناس بعض الوقت ثم ينساهم دون قصد بطبيعة الحال. 
يتمشى مُعْتدَّاً بالرحلة التي قطعها وبالجهد الذي بذله، وها هي ذي النتيجة: أولاد في الوظائف والمهن، بعضهم في البلاد وبعضهم الآخر خارج البلاد، وبنات مستقرّات في بيوت الأزواج، لا حَرَد ولا فضائح ولا مشكلات، وبيت من ثلاثة طوابق وروف، (كان يمكن الاكتفاء بطابق واحد وروف) الطوابق في أيدي مستأجرين أوادم واولاد ناس، والروف مخصّص لعبد السميع وفطّومة لكي يقضيا فيه ما تبقى لهما من عمر، ولكي يحظيا بشيء من الراحة والهناء (أو هذا على الأقل ما يتوقّعانه).
فطّومة تنهض عن كرسيها، تلمّ الروب السماوي على جسدها الممتلئ باعتدال، تتخطّر على بلاط السطح مثل فرس (من يراها لا يصدق أنها أنجبت خمسة أولاد وثلاث بنات) تتمشى قريباً من عبد السميع وهي تقول له في واحدة من تأملاتها المرتجلة التي لا تبتعد عن محيط بناتها وأولادها: على قدر نياتكم تُرزقون، وربنا سبحانه وتعالى أعطانا. الاولاد طلعوا ملاح، لا بينهم سكير ولا لاعب قمار ولا جاسوس. والبنات طلعن بنات حلال، مستورات وقاعدات في دورهن ويا ما شا الله عليهن! 
فطومة تراقب زوجها بحذر وهو يقيس بعينيه ارتفاع السطح عن قاعدة البناء، تخشى عليه من عودة الهاجس الذي سبّبه الزلزال، تقول له برقّة مقصودة: حان وقت الحمّام الذي تأخذه كل مساء. قال: اذهبي أنت، تحمّمي، تمدّدي تحت الماء، وأنا آخذ دوري بعدك. اطمأنت إلى كلامه وبدا لها أن كل شيء على ما يرام. نضت عنها ثيابها وتمدّدت في البانيو تحت الماء، فيما بقي عبد السميع يتأمل بهدوء طائرتي هيلوكبتر إسرائيليتين ظهرتا في السماء. أثار منظرهما قلقاً خفيفاً في نفسه، بعد قليل غابت الطائرتان، ابتعدتا. اندلع بعد لحظة صوت طائرة فانتوم، لم يهتد عبد السميع إلى مكانها في السماء إلا عبر تتبّعه لمصدر الصوت المدوّي الذي ينبعث منها. لم تلبث الطائرة إلا لحظات في مجال رؤيته، ثم ابتعدت تاركة خلفها زمجرة مكتومة لئيمة. تكدّر عبد السميع قليلاً، ثم صرف الكدر من رأسه وراح يتأمل من جديد بيوت الحي وساكنيه: رأى أحد المستأجرين لديه يقود طفله وهو عائد إلى البيت، رآه يطيل لحيته على نحو لم يعهده فيه من قبل، قال لنفسه: حينما أجّرته البيت قبل خمسة أشهر لم يكن ملتحياً. لم يتوقّف كثيراً عند هذا الأمر. اتجه إلى داخل البيت، جلس فوق سريره، فتح المصحف وراح يقرأ سورة “البقرة”، ولم يكن ثمة من ضجيج سوى صوت الماء الخافت الذي يتساقط على جسد زوجته في الحمّام.
فطّومة متمددة على طولها في البانيو، والماء يتساقط من علٍ على جسدها المتين، فطومة تغتنم كل لحظة في الحياة للتعويض عما فات من أيام التعب. تخشى في أية لحظة أن ينقلب الحال، هي لم تنس بعدُ، الحالةَ التي تلبّست عبد السميع، حينما وقع الزلزال الذي ضرب المنطقة قبل ثلاثة أشهر، قبيل منتصف الليل بقليل. عبد السميع طلب منها أن تريح رأسها على صدره تلك الليلة، وراح يسرد عليها قصصاً مسلّية، لا لإنه معنيّ بسرد القصص وإنما لأن النوم طار من عينيه، عبد السميع أحسّ حركة غير عادية في البيت، البيت يهتزّ ذات اليمين وذات الشمال، خزانة الملابس تطقطق، الشبابيك تصدر صريراً غير مألوف، عبد السميع نهض مرعوباً، غطّى عريه في الحال، قال: اركضي يا فطومة، هذا زلزال. عبد السميع وفطومة هبطا درجات البناية راكضَيْن. الجيران كلهم تقريباً خرجوا من الغرف التي هزّها الزلزال. الجميع تجمهروا مذعورين في ساحة الدار. قرأوا الأدعية والتعاويذ وتضرّعوا إلى الله أن يحميهم. عبد السميع تأمل بيته بطوابقه الثلاثة وبالروف، شعر بأنه عرضة للدمار في رمشة عين، اقترب من فطومة وقال: لا أمان ولا اطمئنان في هذي الدنيا، كل شيء يمكن أن يضيع في لحظة. قالت له لتشدّ من عزيمته: توكّل على الله يا عبد السميع، توكل على الله. 
تغلغل الرعب في صدره وأعصابه واستقرّ هناك. لم يعد قادراً على الاقتراب من فطومة. كلما لمس جسدها عاوده هاجس الزلزال. لم يعد يتجرأ على التعري قربها خوفاً من مفاجأة الزلزال له وهو على هذا الحال. أحضرت له “طاسة الرّجْفة” بناء على نصيحة إحدى الجارات، ملأتها ماء وسقته منها، على أمل أن تتحسن أحواله، فلم تتحسّن. ذهبت إلى سوق العطارين، اشترت زنجبيلاً وحبة البركة، اشترت جوزاً ولوزاً، ولم تتحسّن أحواله. ذهبت إلى الفتّاح، قال لها: اطبخي له ديكاً كل صباح. أعطاها حجاباً وضعته تحت وسادته. طبخت له رطلاً من الفلفل الحرّاق. قالت لها جارتها: لَتْكُون نفسُه عافَتْك، وعينه على إمرأة أخرى. ردّت عليها: الله لا يسمح ولا يقدّر، كل شيء إلا هذا الكلام. ذهب إلى الطبيب بعد تردّد طويل، وصف له دواء، اشتراه من الصيدلية، وعاد مثل الحصان.
انتهى من سورة “البقرة” وراح يقرأ سورة “آل عمران”، وهي لم تنته بعد من حمّامها الذي يجعلها منتشية كل مساء. عاد الوئام إلى عشّ الزوجية الذي يجمعهما. فطومة اعتقدت أن ما حدث لن يتكرر بإذن الله، لكنه تكرّر على نحو فاضح هذه المرة: عبد السميع ينام قربها في ساعات ما بعد منتصف الليل، يحلم أن البيت يميد به، ينهض مرعوباً من نومه، يصيح وهو متجه نحو الباب: الزلزال، الزلزال. يركض عارياً وهو يملأ الدرج بصوته المتلجلج المرعوب: الزلزال، الزلزال! يصيح منبّهاً الجيران: اطلعوا يا ناس، اطلعوا يا ناس! يطلّ الجيران من شرفات الشقق ومن نوافذ البيوت، يطلّ الرجال، تطلّ النساء. عبد السميع بكامل عريه تحت نور المصباح، وليس ثمة زلزال. وعبد السميع ما زال مذعوراً يصيح وينشر ذراعيه على جانبيه: اطلعوا يا ناس، زلزال. يفطن إلى عريه الفاضح، يحجبه بيديه ثم لا يلبث أن ينسى نفسه، يلوّح بذراعيه: زلزال، زلزال. والرجال يأمرون زوجاتهم بعدم الاستمرار في تأمّل المشهد، يطلبون منهن الابتعاد عن الشرفات والنوافذ. فطّومة تهبط ركضاً نحو عبد السميع، تناوله دشداشته التي نسيها قرب السرير. يرتديها، يصحو على نفسه، يصعد درجات البناية وهو يتوارى من أعين الجيران (فكّر بعض الجيران بمغادرة البناية إلى غير رجعة، ولم يمنعهم من ذلك سوى أزمة السكن المستفحلة، والأيمان المغلظة التي حلفها عبد السميع مؤكداً أنه لا يقصد سوءاً بأحد، وأن ما جرى تم بقصد شريف، ونتيجة حلم متسلّط لعين).
خرجت من الحمام تلفّ وسطها بمنشفة وردية، جلست تمشّط شعرها وانتظرت حتى انتهى من قراءة القرآن. قالت له: جاء دورك للذهاب إلى الحماّم. قالت: اخلع دشداشتك وانزل تحت الماء. بدا مأزوماً على نحو لم تتوقّعه. حدقت فيه ملياً: مالك يا عبد السميع؟ قلبي مقروص من جارنا محمد. محمد؟ إنه أحسن جار، في حاله في باله. حينما استأجر الشقة ما كانت له لحية طويلة يا فطومة. طيّب وانت بدك تقعد حارس على لحى الجيران؟ إيه! افهميني يا فطومة، لحية طويلة، يعني الرجل يمكن أن يكون من حماس. وافرض انه من حماس يا عبد السميع. إيه! والدار اللي حطّيتْ دم قلبي فيها يا فطومة! ما لها الدار؟ نسيتِ شو صار قبل شهرين؟ نسيتِ الفانتوم اللي ضربت قنبلة وزنها ألف كيلوغرام على دار الشيخ صلاح شحادة؟ قتلته، وقتلت زوجته وأولاده وقتلت الجيران، نسيتِ يا فطومة؟ يا بن الحلال، بس انت توكل على الله. همّ عبد السميع بخلع الدشداشة، وفي اللحظة نفسها سمعَ صوت طائرة، اتجه مسرعاً إلى الخارج، حدق في السماء. قالت فطومة لنفسها بصوت عالٍ: رجعت ليالي النكد.
رجعت ليالي النكد فعلاً. عبد السميع خائف على البيت الذي بناه. خائف من قنبلة تسقطها طائرة فانتوم، لكي تقتل جاره محمداً، الذي أطال لحيته لسبب ما. القنبلة ستقتل محمداً وزوجته وأولاده، ستقتل أيضاً بقيّة الجيران وزوجاتهم وأطفالهم. ستقتل عبد السميع وفطومة. فطومة ستنتقل إلى رحمة الله وهي لم تشبع بعد من الحياة. أنا أعرف فطومة جيداً، فطومة لم تشبع بعد من الحياة، والبيت الذي بنيته بعرق الجبين، سيصبح أثراً بعد عين! لا، لا، ملعون أبو اسرائيل، هذا غير معقول.
غير معقول! كل يوم تقع جرائم ضد بيوت الفلسطينيين، ولا أحد يستطيع منع ذلك. ما الذي ستفعله؟ هل ستطلب من الجار محمد أن يبادر إلى إخلاء البيت، والذهاب للسكن في حي آخر؟ هل تشي بمحمد؟ هل تخبر سلطات الاحتلال بأن لديك مستأجراً أطال لحيته فجأة، ما يعني أن له علاقة بحماس أو بالجهاد؟ (أو بكتائب شهداء الأقصى يا سيدي، حتى لا تختل معادلة التنافس بين الفصائل) مستحيل، مستحيل أن يصبح عبد السميع بعد هذا العمر واشياً. إذن، يطلب من محمد إخلاء البيت، يكذب كذبة بيضاء: ابنه الذي يعمل محاسباً في السعودية سيعود بعد شهر، وهو بحاجة للشقة لكي يسكن فيها هو وزوجته. ولكن، من حق الساكن ألا يخرج بهذه الطريقة من الشقة، ومحمد كما يبدو رجل طيب، ولا يليق بعبد السميع أن يسيء التصرف مع رجل طيب. طيب على راسي، بس ما بدّي يتسبب في هدم داري. تأمل عبد السميع خواطره لحظة، وبدا كأنه يعيد النظر من جديد في كل هذا الذي وصل إليه.
لم يتخذ عبد السميع أيّ قرار، لم يشاور فطومة في أي شأن يتصل بالجار. لم تزعجه فطومة بأي استفسار. تركته يتصرّف على النحو الذي يرضيه. صار يقضي وقتاً غير قليل خارج الدار، يتفقّد الحيّ خوفاً من دخول عناصر مشبوهة إليه. عبد السميع يعرف أن الطائرة لا تضرب إلا بعد أن تتلقّى إشعاراً من عميل مدسوس في الجوار. يؤكّد للطيّار عبر أجهزة دقيقة أن الجار محمداً دخل البيت، آنذاك يبتعد العميل عن موقع القصف، تنقضّ الطائرة على البيت، تقصفه وتقتل كل من فيه، ثم تبتعد محلّقة في السماء. عبد السميع، زيادةً في الحذر، راقب الجار محمداً، وذلك لكي يطمئن إلى تصرّفاته. راقبه ساعة مغادرته الشقة، وراقبه ساعة عودته إليها. راقب من يجيء إليه ومن يخرج من عنده، فلم يلحظ شيئاً غير عادي، بل إنه خجل من نفسه مخافة أن يظنّ به الجار محمد الظنون، فيعتقد أن عبد السميع مكلّف من جهة ما بمراقبته ورصد حركاته، خصوصاً، بعد أن تصادف لقاؤهما عدداً من المرّات عند مدخل البناية، وبالقرب من باب الشقة التي يقيم فيها الجار. 
فطّومة عادت إلى التدخّل النشيط في وضع زوجها الذي لم يعد يروقها بأيّ حال، راحت توجّه له النصيحة تلو النصيحة. عبد السميع يفكّر بكلام فطّومة لحظة، ثم يقع فريسة الهاجس الذي يكبر في صدره، يتلجلج، ولا يعرف كيف يتصرّف أو كيف يستقرّ على حال. وفي الليل يتأرّق عبد السميع، ولا يبقى في البيت حينما يسمع هدير الطائرات، يطلب من فطومة أن تغادر البيت معه، فلا تستجيب لرغبته، يغادر البيت وحده، يغيب وقتاً حتى تغيب الطائرات ثم يعود. 
ذات صباح، فوجئ عبد السميع بجاره محمد وقد حلق ذقنه، فعاد مثلما كان، همّ بأن يطرح عليه سؤالاً حول هذا التغير والتغير المضاد، لكنه لم يفعل، لأن مثل هذا الأمر تَدخُّلٌ في شؤون الجيران. ارتاح بال عبد السميع بعض الشيء. بعد أسبوع، نقل محمد إلى عبد السميع خبراً مفاجئاً: سيخلي البيت مع نهاية الشهر، لأنه سيذهب إلى الشمال للعمل هناك. هذا ما قررته الشركة التي يعمل فيها. 
عبد السميع أذعن لرغبة الجار، إلا أنه لم يستطع مغالبة هاجس جديد ظل يعتمل في نفسه: ربما ظنّ محمد أن عبد السميع مكلّف بمراقبته من جهة ما. قالت فطومة: صارحه بالأمر وتخلّص من هذا الوسواس. عبد السميع ظلّ حائراً، ولم يصارح محمداً بالأمر، لأنه لا يقبل أن يكون موضع شك أو اتهام. 
________
*قاص وروائي فلسطيني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *