*صالح العامري
1-
أعتقد أن أيّ كاتب يمكن أن يستفيد من مأزق عصره ووجوده كي يشرع في كتابة ما، خصوصاً وأن هذا القرن/ العصر/ العالم ينعت نفسه كرونولوجيّاً بأنه: (يدافع عن الحريات، ديمقراطي، تقدمي، طليعي، مستنير، متحضر، مشرّع للحقوق المدنية، متسامح، منفتح على الحوار والاختلاف)، مع أنّه (مستفِزّ، ظالم، بالغ الانحطاط على أكثر من صعيد، مجهري فاضح، جاسوس، استلابيّ، إرهابيّ، قبيح في كثير من وجوهه).
إنّ أيّ شخص واقع تحت مرمى نيران سلطات هذا العصر السياسية والاجتماعية والثقافية وإكراهاته القسرية، قد يجد المحرض الملائم للتعبير عن نفسه وعن وجوده بطريقة من الطرق، ومن بينها الكتابة، التي تمتلك نزوعاتها الخلاقة في ذلك الرفض لتحقير الحياة والفن والحلم، كما ترفض مصادرة حق الإنسان في الاختلاف وإبداء الرأي المختلف والمعارض (وهي الحالة التي تُوِّجت في هذا العصر(التقدمي) بقطع ألسنة الشعراء وسجنهم وإعدامهم). من هنا تصبح الكتابة خياراً لا بدّ منه للدفاع عن الذات المصابة العزلاء، في عالم متضخّم وعدوانيّ، ومقاومة فنية وجمالية ضد القبح والصدأ والاستلاب. إنّ خياراً كهذا (أي الكتابة) هو فادح وعجائبيّ بالضرورة، يشبه ما يفعله ذلك الطفل الذي يستميت في الحفاظ على لعبته وضمها إلى صدره المرتعش، بينما تُدكّ نوافذ بيته بالقذائف والرشاشات. إن تلك الدمية أو اللعبة جزء من وجوده المعنويّ والرمزيّ، وسقوطها أو التفريط فيها هو سقوط له وسقوط لوجدانه وولعه وطفولته وعالمه كلّه. وبهذا المعنى، تصبح الكتابة محاولة لإنقاذ جسد الكائن وروحه من العدمية والابتلاع الطاحنين، أو تخفف من ثقل وطأة عار هذا العالم ومن عدم القدرة على الانسجام فيه ومعضلاته الخرساء.
-2-
إذ لا أمتلك، ولن أمتلك، أدنى شغف لإصلاح هذا العالم ولا لتجبير ساقه المصابة أو نزع الخنجر المسموم من ظهره المغدور، فإنني أحسّ، بأنني سادرٌ يَعْرُجُ في شقائه الداخليّ، ورأسي يعجّ بالحطامات والخرابات، وإنساني (الذي هو أحد ذواتي النوعية) ليس فقيهاً ولا واعظاً ولا حزبياً ولا منتمياً ولا صاحب طريقة ولا واضع حلول أو راسم خرائط، وليس بإمكاني أن أرشد العميان كي لا يسقطوا في حفرتهم المقدرة، ولا أن أوقف كرة النار من الوقوع على رؤوس الملأ، ولا أن أصد الزوبعة أو أن أنطح الطوفان. لهذا أحدس بأن الكتابة جزء لا يتجزأ من الالتحام بمزق العالم وشظاياه وأشلائه المتناثرة، ومحاولة التسكع الصافي بين أطلاله وخرائبه، واحتضان خوائه المهلك، أو مداعبة أرنبة أنفه الطافية على بِركة القنوط والسأم في الظهيرة القائظة. (قدر لي ذات يوم- في حلم يقظة مرعب، ولم يكن حلماً ليلياً أو كابوسا- أن أحتضن غوريلا ضخمة. وقد ارتأيتُ أو قرّ لي في نفسي أن تلك الغوريلا لم تكن إلا الكآبة، أو الخواء، أو هي الكتابة ذاتها متجسدة في نقيضها، أو ما يدفع إلى الانصياع لها ومعانقتها).
-3-
أكتب في انقذاف حرّ وإراديّ جهة الهوامش الصغيرة وأمراض القلب التي لا علاج لها، جهة المطحنة المجنونة التي تتطاير منها أوراق أتراحي وأفراحي، جهة اللحظات الخفيفة كمنطاد، العارمة كحبة كبريت، الزاهية كسنبلة قمح ذهبية، الحارة كرغيف خبز، الشهية كقطار تحتشد أمتعته وركابه وعجلاته ورحلاته في سطر شعري يأكل الأفق.
-4-
لا لأنجو أو لأنني أغرق، لا لأنني حيّ أو لأنني ميّت، بل أكتب لأنّه ليس بمقدوري أن أرسم الغزالة كما يجدر بها الوصف أو يليق بها المقام، وليس بمقدوري أن أدسّها في كوخي، ولا أن أصدّ عنها السهم المميت، ولا أن أنتحب في عينيها، ولا أن أحتفظ بها في متحفي. أكتب كي أشد خيطي إلى خيطها، وسري إلى سرها، وكي أرشد رمال الصحراء إلى قمرها الغامض وتبرها المترحّل.
-5-
أكتب لأنّ النار لا تحرق هشيمي أو تبدده، بل تفتله وتغذيه. ولأنني أجمع الزَبَدَ الذي لا يذهب جُفاء بل يتحول إلى فضة روحية ورذاذ سماويّ. ولأن صيّادي يعيد الأسماك إلى بحرها. ولأنني أعود بخفّي حُنين. ولأن الخسارة حبيبتي التي أكتب على ركبتها قصيدتي الناقصة.
-6-
أكتب لأن مقهاي جَذِلٌ هذا الصباح، وحانتي تكرع أشواقها، وطريقي دائخ. وأنا هشّ وسكران بالأشياء والكائنات التي لا حول لها ولا قوة إلا أن تثمل بجراحها وآلامها وضحكاتها المدويّة، وأن تنظر إلى المرض شزراً باعتباره فاكهة أو معجزة.
-7-
أكتب لأنّني أود أن أزنِّر الأعياد، وأضلّل المآتم، وأشجّر الحُلم، وأطلق ألوفاً مؤلفة من زيزان الحصاد، وأنشر رائحة أول الصيف، وأسترق النظرمن كوّة الغيب، وأهمز حصاني لملاقاة أصدقائي الغائبين الذين ظن الموت أنه قد خبأهم عنا بمزحته الخبيثة.
-8-
أكتب لأنني مجرد صيّادٍ لظلالي الحُلمية. أكتب لأنني مجرد فلاحٍ لبذاري الحمقاء.
_________
*جريدة عُمان