*حلا السويدات
خاص ( ثقافات )
هناك سؤال هاجسيّ مهم يلوحُ في أفق كل من لديه جانب بالمعرفة، بحثًا وإحاطةً، وهو العلاقة التبادليّة بين مفهوميّ السلطة والمعرفة، أي؛ هل تُلزم المعرفة اتخاذ إجراءات تتسم بها السلطة، فتشكل الهيكل العام لوصاية الفلاسفة والمثقفين التي نادى بها أفلاطون، وهنا نقع في جدلية البحث في أحقيّة كل منهما بإقامة نفسه في الآخر، ولنكون أكثر تحديدًا ودقة، علينا أن نستطيع الفصل بينهما أولًا، لنجاذبهما لاحقًا. فالمعرفة من حيث هي بدهيّة لم تكن إلا لإنماء العقل العامل في حسيّات الكون، وخفاياه، وتشابكاته، وفي الإنسان وجودًا ووهمًا، وفي التحصيل الفردي في السياق العام من المعطيات، حيث تبرز الذاتية الفلسفية، أكثر من النتيجة العامة التي تهدف إلى الارتقاء المعيشي اليوميّ بالناس، فالفلسفة، لا تبحث بعدد ساعات العمل وفترة الراحة، بل تنظر بما يحكم علاقة العامل بالإنسان غير العامل، بالأرض، بالطبيعة، وتفلسف له ما يضمن حقه، ضمن مستوى من الوعي إسقاطي من أعلى لأسفل، وهنا تبرز الوصاية، أي أنّ المعرفة المدركة لِكُنْهِ الإنسان وذاته، وأيقونته الاجتماعية تستلزم إبراز الفَهم لمشاكله وواقعه، مع اتخاذ أنماط من الدراسة المعرفية التي تتناول التجريد والتجريب والذاتية المطلقة كحالة معرفية متمردة على المعطيات التاريخيّة وعلى الحدود التطوريّة الزمكانيّة، الّتي تستلزم الانصياع لتبئير المكان ثم الدوران بفلكته، وفيها تكون المعرفة منطلقة من التأمّل المطلق، للحيثيات (من – إلى، ذات الأطراف المحددة) والتي يشترك فيها الإنسان، ضاربًا في عمق المعادلة. فنخلص إلى أنّ المعرفة، أو تحديدا( التفلسف حول المعرفة) يقتضي الالتقاء بالزمان، ثمّ بالتاريخ، فيقتضي في نفسه أنموذجًا إذْ كان قابلاً للإلقاء والإسقاط والإفهام، ثم التلقي والفهم والتفّهم والأخذ بعين الاعتبار والتغيير، أي أن يكون أفلاطون، في محاولة نقله ملامح كرسيّه، وفي محاولة مسكه زمام الأمور، السياسية و( العمالية )، يتنازل قليلاً عن بوصلة الحقيقة، بما تفرضه لغة الواقع، وحيثياتها التي تتعامل مع الصور بشكل أكثر حيوية مما مع ما يقارب الحقيقة، وهنا لا تقتضي المعرفة الإدراك لخفايا الأمور والنظر إليها برؤيا الممحص والمحايد والمقوّم والباحث عن الحقيقة لا عن ( الطريقة )، مما لا يدركها الكثير من الناس، العامة، وربما ذوو القدر المتوسط من العلم، لذا يكون ثمّة مقعد فارغ لرجل رؤيا وبصيرة، يقود العامة إلى (الحقيقة) وهم يمارسون (الطريقة)، المختلفة والمتناقضة، لاختلاف السّمت المعرفيّ والمفاهيميّ لدى النّاس ولتفشّي الفرديّة الّتي لم تغلب عليها الجماعة، فالبحثان متناقضان رغم أن أحدهما يعرف أكثر من الآخر، لكن في إطار ما، احتاج التاريخ إلى معرفة أكثر حيادية تجاه الهوس بالحقيقة، التي تتعلق بتنظيم حياة المحسوس الوحيد وهو الإنسان، فصارت هناك أشكال من التنظيمات منها دينية ومنها سياسية من أهمها الفلسفة السياسية اليونانية، التي عدت من أهم المحاولات التي ناقشت جدلية الاعتبار ما بين السلطة والمعرفة.
لكن، هل نستطيع الاكتفاء بفكرة، بنمط، ، بتنوير، بسياسة، باعتبار، بأحقية، بعلم، بأسئلة، بمثقف واحد أو عدد من المثقفين ضمن الظروف ذاتها لسنين طويلة، مما يجعلنا نأخذ من نسقهم المعرفي أنموذجا مقدسا ومرجعيا من حيث قيادة الحقيقة للطريقة دون التماس بينهما حق التماس؟ هذا لم يحدث حقًا، وتجنبت الفلسفة في المراحل اللاحقة التصادم مع الواقع، وصارت السياسة تقتاد إلى قوانين تحكمها مصلحة الجماعة والمنفعة العامة، ومنها ما فشل ومنها ما نجح، وانتقلت الوصاية لشكل آخر من أشكال الوعي مستقل عن البناء المعرفي الأوليّ، له إحداثياته التي تحكمها الوقائع والتاريخ، والناس والثورات، وانتقلت الحقيقة إلى مبناها التجريدي، وسارت الطريقة إلى سبيل محكوم بتشابكية الزمن والعقول والأهواء والأفكار والحروب، وانتقلت الوصاية إلى مكان آخر غير ذي ارتباط وثيق بلغة الوعي التجريدية، بل إلى مجال من المعرفة التي ينتجها الواقع في نفسه، ويشكلها في وعيه، فصار النّاس وهم أساس الحضارة، المادة التي تنقل الوعي من مرحلة إلى أخرى، فتنتقل معها الوصاية مع شرعية الثورة، والتي ينقاد لها المقتنعون، والجاهلون إذا شعروا بأحقيتها، ومفرطو الوعي إذا أقنعت طريقتهم، مع تحييد لها بالتأكيد، فيشار إلى أنّ هذا الانفصال حدث لانقياده لعوامل تطور البشرية، ووصل في واقعه إلى واقع من الاعتبارات، وهو النموذج السياسي المستقل، الذي أفزره الواقع سلبًا كان أم إيجابًا وإن كان ثمّة ثورة ستغيره، فإنّها ستغيّر واقعها أولاً.
وعوْد إلى ذي بَدْء، ننظر في فكرة أن يكون المثقفُ المرشحَ الوحيد للسلطة، من باب أنّه صاحب أطروحة أخلاقيّة حكيمة وعارفة، وأنْ نعتبره المكلّف الوحيد في كل الحالات للترشح للقيادة، للإفتاء، للتشريع، علينا أن نحلّ أولا إشكاليات كثيرة تتعرض له كصاحب أطروحة، مثلاً، كيف يمكننا أن نحقق الرضا التامّ عن فكرة واحدة ووحيدة، وأن تمارس شرعيتها على مدى طويل دون أن يختلق أفراد آخرون شرعية أخرى يظنون كأفراد أن لها الأحقية التامّة في أن تصبح فكرة بديلة، وهكذا، فالمثقف الواحد عليه أن يترك المجال لفكرة أخرى نقيضة، ومختلفة ومستقلة، قد تأتي بعد زمن، تلغي أو تضيف على الفكرة السابقة. فتتسم _ قسرًا _ المجالات الزمنية لسلطة المعرفة بالتبدل والتحول، لأن الفرد والصوت الواحد، قابلان للتمحيص والنقد، عدا أنهما بطبيعة الحال لا يستطيعان التعامل مع الطوارئ بالتبديل والانعكاف عن النسخة الأولى من الأطروحة ( الذاتية ) هذا بعد أن تخرج إلى حيّز الفاعلية والسلطة.
الفكرة لا تموت، لكنّها تُلهم، وتتطور، وتتذاكى، وتتغير، على عكس الأفكار ذات الشرعية القوية التي عهدها التاريخ، وهي غالباً أفكار دينية، تقبض على الجموع بالتسيير لفكرة الإرادة العليا، وغير بشرية، لكن ليس لفرد موازٍ لهم بالقوة، بالعقل، يشرّع من الزاوية ذاتها ما يعدّه مصلحة عامّة. ونقاشنا عن رأي الفرد، لا يعني بالضرورة دحض الطريقة التي سلكتها الجماعة لحفظ الأمن وتنظيم شؤون الحياة، وهذا ما تبلور في أوقات الاستغناء عن الطريقة الدينية في تسيير الأمور، وهي السياسية المحضة، بعد الثورة العلموية والعلمانية، ثمّ الوصول لمرحلة فصل تامة عن التشريع( القانون) وعن الفرد الذي يخضع بطبيعة الحال للدستور، ويتخذ ممثلا له، في القرارات والطوارئ، وهنا يكون الاعتراض فيما يمكن أن يعد انحرافا عن العقد، في هذه المرحلة تكون الحقيقة غير ضرورية، وغير مجدية لحركة الأموال، وحركة الحنق والظلم، تظلّ الحقيقة مختصّة، لها مجال البحث لا مجال التطبيق، فالإنسان يبحث عن حاجاته ويستسلم لها، ويتعايش معها أكثر من البحث عن فكرة قطعية تفند كل الهواجس والتساؤلات، بيدَ أن هذه التساؤلات تظل فردية ويعود إليها الأفراد، الفلاسفة، الشعراء، القارؤون، البوهيميون، العبثيون، وكل الذين لم يتجاوزوا بعد مفهوم الجدوى لمفهوم الحاجة والمصلحة، فنّد التّاريخ المثقف، المغيّر، الذي يعيد التفكير بشكل يوميّ بالمعطيات والمقدمات والأوليات وما تمّ التوصل إليه سابقا والمبدع للتأويلات الجديدة، على مدى الساعة، لكنّ ذلك الانفصال ما بين السياسة والفلسفة المتأملة، لم جعل الأولى ذات صبر على الثانية، إذ تقبلت فيها ما هو فلسفة فيها وما يعينها، كمدار للإعلام والقراءة، مثل الليبرالية السياسية، العلمانية، وغيرها، نافيةً الوجودية وكل تلك الفلسفات التي لم ترهق نفسها بفرض نظام كليّ إلى حيّز الذاتية، حيث تقبل الجميع الواقع، وحيث صارت الفلسفة والأدب والفن، هو ما يعني الذات المتلقية كذات، ونظامها كنظام شخصي ذاتي، لا كنظام حياة كليّ.