* حوار: محمد فرج
“أزمة الثقافة العربية أنها لا تسمي الأشياء بأسمائها”
بصراحة.. عندما ابتعت رواية الكاتب الكبير إلياس خوري الأحدث “أولاد الجيتو/اسمي آدم” كنت خائفاً.. خفت أن يخذلني، أن أقرأ شيئاً مملاً، أو سبق لي أن قرأته من إلياس نفسه، لكن بعد الصفحات الأولي وجدتني مسحولاً وراء الصفحات.
خفت من الخذلان، لأن إلياس خوري (1948) يبقى واحداً من أهم كتاب الرواية العربية، وأيضاً تظل مقالاته ومواقفه السياسية بوصلة للكثيرين، إذ تبقى على درجة عالية من الحيوية والتعاطي العملي مع الواقع، ويبقى بعيداً عن التكلس أو الدوران في فلك دولة أو حزب أو مجموعة، خاصة بعد عاصفة الثورات العربية وفي القلب منها الثورة السورية التي كشفت وفضحت الكثير من المثقفين العرب، وخصوصاً اليساريين منهم، فكنت أخاف أن يخذلني في الرواية، لكن حمداً للرب، وشكراً لإلياس.. فقد خاب ظني.
في منتصف قراءة الرواية، تمنيت أن أكون في بيروت، وأن أحاور إلياس، وبصدفة ما، كنت بعدها بثلاثة أيام في العاصمة اللبنانية بالفعل، وهاتفت إلياس، ووافق الرجل مشكوراً على مقابلتي، وكان الحوار، وكان الرجل على عهدنا به، حديثه يبعث على الأمل، ويرى الواقع، ويحاول تشخيصه، وينطلق في السياسة من تحيزه للإنسان، وليس من تحيزٍ لأصنام.
في روايته الأحدث “أولاد الجيتو/ اسمي آدم” يتحرك رئيس تحرير مجلة “دراسات فلسطينية” في مساحة واسعة زمنياً وجغرافياً تمتد من نيويورك 2015 إلى منشوريا إبان الثورة البلشفية، ومن زمن الشاعر الأموي وضاح اليمن حتى صيف 1948 الذي أعلن فيه قيام دولة إسرائيل، وفي القلب هناك فلسطين، وتحديداً مدينة اللد.
حكاية تنفتح على حكاية وتتفرع الحكايات وتتلاقي، ويفضي بعضها إلى بعض، ليجد القارئ نفسه مع نهاية الرواية قد طاف طويلاً في التاريخ وفي الإنسان، وعبر المأساة.. لذا كان من المهم أن أبدأ معه من الحكاية التي تفضي إلى أخرى. دعنا نبدأ من فكرة الحكاية في قلب حكاية أخرى.. في وسط ما يدور حولنا اليوم من مجازر وخراب، لا نسمع عنه فقط أو نقرأه في الصحف، ولكن يتم تصويره بحرفية عالية، ويحقق نسب مشاهدة مليونية على الإنترنت، في وسط كل هذا الوضوح الصارخ، أما زال هناك داع لاستخدام حكاية من أجل الدخول إلى حكاية أخرى؟
للسؤال أكثر من مستوى، فدعنا نبدأ بالمستوى النظري.. أنا كواحد يعيش في بيروت، أعيش ما تتكلم عنه منذ أربعين سنة، ولست وحدي، فنحن منذ هزيمة 1967 نعيش بالمشرق العربي وأعني فلسطين ولبنان والأردن حالة من الحروب المتواصلة، فالنكبة الفلسطينية التي استكملت في 1967. جعلتنا نعيش في الأردن أولاً تجربة المقاومة، ثم تجربة أيلول الأسود في 1970 وما تبعه من مآس، ثم لبنان وحروبها الطويلة.
فأنا أعيش شخصياً في وسط هذا الدمار والخراب منذ وقت طويل، ومرت علينا أحلام تهدمت، واحتمالات تحطمت، أريد أن أقول أن الخراب الدائر حولنا- أتصور أنه يمكن وصف الوضع العربي كله بالخراب – هو خراب قديم، ربما الآن مع وسائل الاتصال الاجتماعي بدأت الناس تشعر به أكثر، لكن بغض النظر عن وجود وسائل التواصل الاجتماعي، فالجميع يشعر بالخرائب المادية والروحية التي تحيط بنا.
واليوم أيضاً نحن نعيش أكبر مأساة في تاريخ العرب المعاصر، وهي مأساة سوريا، فنصف الشعب السوري لاجئ، عدد القتلى لا يحصى، عدد المخطوفين والمفقودين بمئات الآلاف، عدد الذين يموتون في محاولات عبور البحر إلى أوربا بالآلاف.. إلى آخره. فنحن نعيش في دوامة مأساوية لا تتوقف، وكي نستطيع قراءة هذه الدوامة يمكن أن نبسطها فنقول هذه مؤامرة استعمارية، أو حرب صهيونية، أو استبداد، ولكن الحقيقة أنها مجموعة معقدة ومتشابكة من العوامل، فهي قصص في قلب قصص، وليست على الإطلاق قصة واحدة.
وأصلاً القصة الواحدة، والتي كتبت في أوربا في القرن التاسع عشر، حيث هناك راو عليم واحد يسيطر على النص تماماً، ويعرف القصة جيداً، ويخبرنا إياها، هذه القصة، وهذه الطريقة هي بنت مرحلة قصيرة جداً من تاريخ البشرية، وهي الاستثناء، فالقاعدة هي الفوضى، مثلما يقول مثل صيني: القمر يكون مكتملاً مرة واحدة في الشهر وباقي الشهر يتغير، إما في حالة زيادة أو نقصان، فالتغير هو القاعدة، والثبات والاستقرار هو الاستثناء، وهذا ليس فقط في تاريخ العرب ولكنه في تاريخ العالم كله.
فنحن إذن نعيش داخل مجموعة من الحكايات المعقدة والمتشابكة داخل بعضها البعض، والتي تؤدي إحداها إلى الأخرى، وإذا لم نعشها بهذه الطريقة فسنفقد القدرة ليس فقط على الفعل ولكن على الفهم أيضا. وبالتالي القدرة على الحياة. فإذا أردت أن تعيش فلا مفر من أن تفهم العالم على هذا النحو.
ولكن إذا أخذت فرضية واحدة على أنها هي الحكاية الوحيدة، فلن تستطيع الحياة، من قبل كان يمكنك الحياة في ظل الاستبداد، لأن الاستبداد لديه سردية متسقة، ولكن هذه السردية تحطمت كلياً بالعالم العربي.
وعملياً بدأ هذا التحطم منذ بدأ الوعي بأن هذه السردية ليست متسقة، بل وكاذبة، من الممكن أن يكون هناك تأثيرات للأدب الغربي المعاصر في ذلك، ويمكنني أن أؤرخ لهذا الوعي برواية “رجال في الشمس” 1963 لغسان كنفاني، و”تلك الرائحة” 1966 لصنع الله إبراهيم، وأيضا “ميرامار” 1967 لنجيب محفوظ.
عندما تحلل “ميرامار” نجد أن محفوظ لم يكسر السرد لأنه كان متأثرا بلورانس داريل مثلاً، بالتأكيد قرأه، ولكنه كسر السرد كي يرينا أن “سرحان البحيري” الاشتراكي الانتهازي انتحر، فهو ليس فقط لم يعد يستطيع أن يسيطر، ولكن سيطرته فارغة من المعنى، وقادته إلى الفساد والسرقة ثم إلى الانتحار، والعجز عن حب زهرة.
وإذا نظرنا إلى صنع إبراهيم وهو الماركسي الأرثوذكسي حتى الآن، عندما كتب تجربته الفعلية كسر السرد تماما في “تلك الرائحة”، لأن سجنه حطم السردية، بالتأكيد سنجد تأثيرات غربية على صنع الله من إرنست هيمنجواي و”الغريب” لألبير كامو، ولكن أرى أن المؤثرات لا تصنع أدباً، ولكن تساعدك في الوصول لنفسك، بهذا المعنى نجد أن انكسار السردية الواحدة تم في الرواية العربية نتيجة لأسباب فعلية لها علاقة بالمجتمع، وليس فقط بالمؤثرات الخارجية.
بل وأكثر من ذلك عندما تعيش بحرب أهلية مثل الوضع الفلسطيني اللبناني لا تتكسر السردية فقط، بل تنكسر الحكاية أيضاً. تبدأ حكاية لتجدها قد انكسرت وتحولت إلى حكاية أخرى فعلياً.
فأنا لم أخترع شيئاً، وفي الحقيقة وبعيداً عن التنظير وأنا أستاذ أدب وأستطيع أن أستمر في التنظير كما تريد عندما كتبت “الجبل الصغير” 1977 كنت أريد فقط أن أكتب ماذا يحدث من حولي، كنا ما زلنا في بداية الحرب الأهلية، ولكني أتيت من منطقة مرت بحرب أهلية طاحنة في القرن التاسع عشر، ولم يكتب عنها أي كاتب لبناني، فرأيت أنه من واجبي ككاتب أن أكتب ماذا يحدث من حولي، أن أكتب الحاضر، فوجدت نفسي أكتب بأسلوب لم يكن مخططاً له بالمرة، كنت أميل ساعتها إلى الرواية الفرنسية الجديدة ومقولات النقد الأدبي الفرنسي، لكن ما كتبته لم يكن له علاقة بالمرة بتلك الطريقة، بل وجاءت الرواية على العكس مما أكنت أؤمن به نظرياً.
فالحكاية هي أولاً تعبير عن واقعنا الاجتماعي، العربي، الفلطسيني، اللبناني، السوري، إلى آخره، وإذا لم تستطع رواية هذا الواقع فلن تستطيع الحياة.
وعودة إلى المستوى النظري مرة أخري، فنحن أبناء تراث حكائي عظيم، وفي رأيي نحن أخرجنا للعالم أعظم كتاب في فن الحكاية، وهو “ألف ليلة وليلة” الذي علمنا ويعلمنا أن كل حكاية هي باب لحكاية أخرى، فليس هناك حكاية قائمة بذاتها، وأنه كي تفهم حكاية يجب أن تفهم الحكاية المجاورة، وكي تفهم شخصية معينة يجب أن تفهم شخصيات أخرى بحكايات أخرى، والبطل في أي حكاية هو راو محتمل، وليس بمعنى تعدد الأصوات، ولكن البطل هو نفسه بطل مراوغ.
وفي هذا السياق يمكننا أن نقرأ “أولاد الغيتو”..
وجود حكاية تؤدي إلى حكاية أخرى، أو حكاية تضم حكايات بداخلها هو محاولة لبناء شيء متماسك وسط عالم محطم. ففي “أبناء الجيتو” أنت لست فقط بعالم محطم ولكنه أيضاً بلا ذاكرة مكتوبة، وبالتالي ليس له أول ولا آخر، ولا يمكنك تحديد أوله، وهذه الرواية احتاجت مني وقتاً طويلاً ليس فقط في بناء الشخصيات وعالمها، ولكن أيضاً في البحث التاريخي، فأنا أحكي تجربة تاريخية لم يحك أحد عنها من قبل، وهي تحويل الفلسطينيين إلى لاجئين يعيشون بجيتوهات داخل إسرائيل وقت نشأتها، ففي اللد في الحي الذي بقي به بعض الفلسطينيين قام الإسرائيليون بتسييجه بالأسلاك الشائكة وبقي ممنوعاً على من بالداخل الخروج خارج السياج لمدة عام ونصف، ولم يحدث هذا في اللد فقط ولكن في الرملة، ويافا، وحيفا، وكل المدن الفلسطينية.
وإذا كان هدفي في عمل مثل هذا تقديم سردية متسقة فسأخون الحكاية نفسها، تلك الحكاية التي بحكم طبيعتها تنفجر بين يديك، فالمسألة ليست أن أهوى تشبيك الحكايات، ولكن هذا له علاقة بالحكاية نفسها التي أحاول حكايتها، بالتجربة التي عشتها ونعيشها كلنا بالمشرق العربي.
عندما ينتهي الحب.. ماذا يحدث؟
”أبناء الجيتو” مغزولة بالشعر العربي القديم، كما لو كانت هناك رغبة في حكي حكايات الشعر، أو ما وراءه، كيف ترى العلاقة بين هذا الشعر العربي القديم والنص الحديث الذي تكتبه أنت الآن؟
بداية أنا أرى الشعر في كل النثر العربي، ودعني أعُد مرة أخرى إلى “ألف ليلة وليلة” فالراوي يحكي القصة نثراً ولكن عندما يصل إلى المعنى يصوغه شعراً، والشعر هو تلخيص العالم، والنثر هو سرد العالم.
من حيث الشكل السرد والشعر متناقضان، فالسرد هو التفاصيل التي قد تبدو بلا معنى ولكن بجمعها معاً تكتسب معنى، والشعر هو خلاصات، حتى وإن كان بداخله أحياناً حكايات، لكنها تنتقل بواسطة الشعر إلى مستوي الخلاصات الكبرى. لذا أحب الشعر كثيراً، وأغار منهم، فأنا لا أجرؤ على صنع خلاصات مثلهم.
وفي رواياتي هناك دائماً وظيفة للشعر، ففي روايتي “كأنها نائمة” مثلاً، هي ببساطة حوار بين الشعر والمنام، إميليا بطلة الرواية تعيش حياتها في المنامات وترى مناماتها تحقق، وزوجها اضطر كي يوازن أحلامها أن يقرأ لها شعراً، وشعر المتنبي على وجه الخصوص.
في “أولاد الجيتو” أخذت قصة معروفة من تراث الشعر العربي، وهي في رأيي من أعظم قصص الأدب في العالم.. قصة “وضاح اليمن” ولا أعرف لماذا لم ينتبه لها الروائيون من قبل.
هدفي كان معارضة الرؤية التي اعتمدها غسان كنفاني في “رجال في الشمس” إذ كان يلوم الفلسطينيين لماذا لم يدقوا جدار الخزان، وفي السنوات الأولى لنشأة إسرائيل كانوا يحتقرون ضحايا الحرب العالمية الثانية وأنهم ذهبوا للموت كالنعاج، وأن رأيي أن كلا الافتراضين خاطئ، فبطولة الضحايا هي في ذهابهم للموت كالنعاج، ولا يمكننا احتقار الضحية.
وفي قصة وضاح اليمن هناك مستويان، فالخليفة أخذ الصندوق الذي كان يختبئ به وضاح اليمن ودفنه، ولم يصرخ وضاح، فالسؤال الأول هل لم يصرخ وضاح كي ينقذ حبيبته؟
والسؤال التالي الذي لم يحاول أحد الاقتراب منه أدبياً هو أنه في كل قصص الحب المعروفة في تاريخ الأدب هناك اثنان يحبان أحدهما الآخر وأمامهما عقبات، وإما ينجحان في تخطي العقبات أو لا، لكن لم يكتب أحد رواية من قبل عن محب توقف عن حب حبيبه، الكل كتب عن كيف تحب، لكن لم يكتب أحد عن كيف ينتهي الحب.
وآدم بطل روايتي أحب امرأة عشر سنوات ثم فجأة توقف عن حبها، وهذا طرح عليها سؤالاً: إذا توقف عن حبها فما هو معني الحياة إذن؟ فهل وضاح اليمن في حكايته توقف عن حب حبيبته فلم يعد فارقاً معه أن يموت أو أن يعيش فلم يصرخ وهم يدفنون الصندوق؟
فراوي روايتي “آدم دنون” كان يجرب أن يكتب رواية عن فلسطين، واختار حكاية وضاح اليمن لكي تكون مادة روايته، ورأى في موت وضاح اليمن الصامت أعلى درجات الإنسانية، كان يعارض بمعني المعارضة في الشعر القديم- رؤية غسان كنفاني في “رجال في الشمس” ثم يتعرض آدم لظروف ما فيقرر التوقف عن روايته، فالجزء الأول من “أولاد الجيتو” هو مخطط رواية آدم عن وضاح اليمن عملياً هي رواية مكتملة في صورة مخطط- ثم يبدأ آدم في كتابة شيء آخر لأنه رأى أن الاستعارات لا معني لها، وأنه يجب أن يكتب الحقيقة، ولكنه يكتشف وهو يكتب الحقيقة أنه قد صار استعارة.
وهذه لعبة معقدة، لأنه أي حدث في حياة أي إنسان، إذا اعتبرنا أنه اكتسب معنى فإنه يصير استعارة، فكرة، رمز. فاللعبة هنا بين الحقيقة كما نعيشها، والحياة كما نقرأها، فراوي النص يجاهد ضد الاستعارة، ولكنه يتحول في النهاية إلى استعارة.
الخوف
نعيش دائما في عالمنا العربي محاولة تسييد سردية واحدة سواء من جهة الأنظمة الحاكمة، أو حتى من ناحية المعارضة، وفي ظل تهافت علم التاريخ في جامعاتنا، وفي ظل واقعة تهجير أهل اللد المبنية عليها الرواية والتي كما ذكرت لم يتطرق إليها أحد.. في ظل كل هذا كيف تري العلاقة بين الأدب والتاريخ؟
بداية، الرواية هي تاريخ.. تاريخ الروح، تاريخ المعاناة الإنسانية، وأنا هنا لا أتكلم عن الرواية التاريخية، لكن عن الرواية في العموم، فكافكا مثلاً هو تاريخ القلق الإنساني المعاصر، وكما قلت أن كل حدث يمكن أن يصبح استعارة، فكل رواية هي تاريخ.
من ناحية ثانية تاريخنا المعاصر مليء بما هو مسكوت عنه، فالاستبداد صنع سردية واحدة، والباقي مسكوت عنه، وسأعطيك مثالا واحدا..حرب اليمن، لا يوجد شيء مكتوب عن تلك الحرب، ربما إشارات صغيرة متناثرة هنا وهناك. لكن لا يوجد عمل روائي يتناول حرب اليمن!
فالمشكلة في الثقافة العربية أن المسكوت عنه ليس جزءا تاريخيا، ولكنه جزء من الواقع، ولكنه لا يظهر إلا وقت انفجار المجتمع، ساعتها نكتشف كل هذه المناطق، فمن منا كان يعرف عن الأزديين قبل اجتياح داعش لجبل سنجار.
فتفاصيل حياتنا محجوبة خلف الخوف، فأزمة الثقافة العربية أنها ثقافة خائفة،
عندما أنظر إلى الحرب الأهلية اللبنانية في القرن التاسع عشر وهي حرب طويلة امتدت عشرين سنة (1842-1862) وخلفت بالمقاييس الحالية دمارا هائلا، وعددا ضخما من القتلى والجرحى والمهجَّرين، ولم يُكتب عنها نص واحد، لماذا؟ هنا لا يصلح القمع أو الاستبداد كإجابة، فلم تمنع الأنظمة الاستبدادية أحداً من الكتابة عن تلك الفترة. رأيي أنه الخوف، فالبنية الثقافية تخاف من مواجهة حقائق الواقع، تخاف من أن تسمي الأشياء بأسمائها، لذا أرى أن الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت في سبعينيات القرن العشرين كانت لحظة مفصلية في الثقافة العربية لأننا اكتشفنا أن الخوف من تسمية الأشياء بأسمائها هو مجرد وهم، أمام كل هذا الانفجار الذي ضرب لبنان ساعتها.
فآن الأوان أن نسمي الأشياء بأسمائها، انطلاقاً من هذا أرى أنه لدينا عمل لابد أن ننجزه، لا علاقة له بالتاريخ، فـ “أولاد الجيتو” وإن كانت مرتبطة باللد فهي ليست تاريخاً للمدينة، روايتي محاولة لصنع حكاية إنسانية لحقيقة تاريخية لم يلتفت لها أحد، ولكن نظراً لأن المسكوت عنه والمحجوب في ثقافتنا كثير، فنحن مضطرون لاستخدام ما اصطلح عليه باسم “التاريخ”.
وسأضرب لك مثلاً عن رواية سمت الأشياء بأسمائها وهي رواية “المهدي” لعبد الحكيم قاسم، ما هذه العظمة والجرأة؟ ولكن تم خنق هذه الرواية، فلم يعد طباعتها مرة أخرى، واختفت الرواية تماماً.
ورأيي أن الثقافة العربية منذ بداية عصر النهضة -وقت أن كانت مشغولة بابتداع قيم جديدة ثقافية وقومية- تقصدت أن لا تسمي الأشياء بأسمائها، وأن تغطيها وتحجبها.
وهذا لا يعني مثلاً أننا لسنا عروبيين، فعندما كتبت روايتي “يالو” التي بطلها سرياني، لم أكن ضد العروبية، أنا أكثر عروبي في العالم، ولكن هذا لا يعني أن أحجب الأشياء، فقد اكتشفت مثلاً وأنا أعمل على تلك الرواية أن عشرين بالمائة من اللهجة اللبنانية السورية الفلسطينية هو سرياني، وهذا مصدر غني للعربية ولا يفترض أن يصبح مصدر خوف.
فالخوف هو مرضنا الحقيقي، وليس الدين، كما يدعي بعض مثقفينا الآن، فالظواهر الإيديولوجية الكبرى هي جزء من خوفنا ومن أزمتنا في عدم تسمية الأشياء بأسمائها، ومن التعامل معها كما هي، ومن معالجتها، ومن كتابتها. ما الذي يمكن أن نخسره أكثر من ذلك، نحن أصلاً في حضيض العالم، فمن ماذا ما زلنا نخاف بعد؟
لكن في ظل أنه كلما بدا أن الحلقة ستنكسر نجد أنفسنا في وضع أسوأ من سابقه.. فانتفاضات 2011 الشعبية آلت إلى الوضع الحالي على سبيل المثال.. برأيك متى يمكن لهذا الخوف أن ينكسر؟
أنا أتكلم الآن عن نفسي.. أنا إلياس خوري ليس باستطاعتي الآن احتمال الخوف لأني الآن بالحضيض وليس لدي ما أخسره. وشرط الخروج من الحضيض تسمية الأشياء بأسمائها، وأقصد مشاكلنا وأمراضنا الفعلية وليس المتوهمة، فمثلاً اكتشفت البنية الثقافية العربية اكتشفت الآن الجنس، فليكن الجنس مهماً، وأنا مع الكتابة في الجنس وعن الجنس، لكن الجنس ليس هو التابو الذي تعاني منه الثقافة العربية، أقرؤوا كتب التراث فلن تجد عند العرب مشكلة في الجنس، التابو الحقيقي هو الحقائق الاجتماعية، لكن الموضة الآن الجنس، وأن نصبح أكثر جرأة، وهذا غير صحيح، ليس هناك جرأة في الموضوع، نحن لا نحكي عن التابو الاجتماعي، وإذا تكلمنا عنه نغطيه.
وأعود مرة أخرى لرواية “المهدي” لعبد الحكيم قاسم إذ هي في رأيي نموذج للكتابة التي تكسر التابو، ولهذا لم تعد طباعتها مرة أخرى، فأنا أريد أن أدرسها مع طلابي في الجامعة لكنها غير موجودة، بينما كتب الجنس يعاد طبعها مرات ومرات.
المشكلة ليست في أن نكتب كتابة متحررة جنسية وأنا مع تلك الكتابة- ولكن أن نكشف البنية الاجتماعية المبهمة بالنسبة لنا، إحدى مهمات الكاتب ليس أن يقول الحقيقة، ولكن ما يعتقد أنه الحقيقة.
فمثلاً التابو الأكبر بموضوع فلسطين هو حكايات النكبة، التي لا يريد أن يرويها أحد، لأنهم يظنون أن من العيب أن نحكي عن امرأة ألقت طفلها تحت شجرة زيتون وقت الهروب ذكرت تلك الحكاية في باب الشمس وأيضاً في أولاد الغيتو- فكل تفاصيل النكبة الفلسطينية المليئة بالعار والذل والإهانة، لا تجد من يرويها، لأننا انشغلنا بأننا “عائدون”.. فليكن سنعود، لا شك لدي في أننا عائدون، ولكن يجب أولاً أن نعرف من نحن؟ أي ركام بشري نحن؟ أي صدمة نعيش فيها؟ ومن أين جاءت؟ وأن نكتب كل هذا.
وهذا هي المشكلة المركزية تحديداً في وجهة نظري، وليس أننا لم ننتقد الإسلام بشكل كاف، لأن نقد الإسلام بالأساس هو جزء مفترض من عملية تسمية الأشياء بأسمائها، فالإسلام حياة وممارسة وتاريخ، وليس فقط عقيدة، فيجب وضعه في إطاره الاجتماعي والسياسي، كي نفهم على الأقل.
عن فلسطين ومركزية القضية
متى ستكف فلسطين عن كونها “القضية الجوهرية” ويصبح لدينا قضايا جوهرية أخرى مثل سوريا، وتونس واليمن ومصر..
أولاً: لم تكن فلسطين قط قضية جوهرية، هذا وهم، ومنذ حرب 1948 التي كانت كذبة كبرى، لأن كل الجيوش العربية المشتركة في الحرب كانوا 23 ألف جندي ومقاتل، يواجهون 80 ألف جندي إسرائيلي، وعملياً كانت تلك الجيوش العربية تقاتل بعضها البعض، فالأردن كان لديه مشروع بالاتفاق مع الحركة الصهيونية، وهذا مكتوب في مذكرات قادة إسرائيل، وكتبه المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم اعتماداً على وثائق أردنية، حيث كان هناك اتفاق بين الملك عبد الله وجولدا مائير على أن الضفة الغربية من نصيب الملك عبد الله، وسوريا كانت مرتعبة من الهاشميين الذين كانوا ملوكاً لسوريا في وقت سابق، وهناك خوف من رجوعهم مرة أخرى، مصر كانت بلا قرار، بالإضافة إلى أن النظام الملكي في مصر كان يكره الملك عبد الله، فحرب 1948 كانت حرباً بين العرب، وليست حرباً ضد إسرائيل.
في رأيي من أنشأ إسرائيل هم العرب أنفسهم، فأكبر عامل في نشوء وصعود وتعاظم قوة إسرائيل هو العالم العربي، أعود وأقول إن فلسطين لم تكن أبداً قضية العرب، هذه دعاية الأنظمة لنفسها، لكن بالممارسة لم تكن يوماً قضيتهم.
حتى بعد حرب 1967 واحتلال أراضٍ من مصر وسوريا، لم تكن فلسطين هي الموضوع، فمصر لم تفاوض على فلسطين، وإنما على سيناء. الأردن لم يفاوض على الضفة الغربية، وإنما على حدوده مع إسرائيل، سوريا لم تفاوض لأنه لا يوجد من يريد مفاوضتها، وليس لأن حزب البعث يؤمن بفلسطين.
فلسطين كانت أحد الأحجبة التي تستعملها الأنظمة لحجب المسائل الاجتماعية، لكن لم تكن فلسطين فعليا قضية العرب، بل وأكثر من ذلك أري أن من يقولون أن فلسطين هي قضيتهم، إنما يحبون فلسطين ويكرهون الشعب الفلسطيني، وأنا أكره فلسطين وأحب الشعب الفلسطيني، ففلسطين مهمة لأن بها الشعب الفلسطيني، التراب مهم لأن أجدادنا قبروا فيه، وليس لأننا نحب التراب، هذا هو الواقع فالأنظمة العربية تكره الفلسطينيين، فهم عاشوا ويعيشون بمخيمات اللجوء بلبنان وغير لبنان، وواجهوا ويواجهون توحشا غير منطقيا، قتل وقمع وتجويع، معروف مثلا أن الفلسطيني في لبنان لا يمكنه العمل، ولا يستطيعون السفر لأن الأمن العام لا يمتلك مالاً لتجديد جوازات السفر الفلسطينية، فأنت كفلسطيني في لبنان لا تمتلك حق العمل ولا الهجرة.. هذا هو حب فلسطين مثلاً عند نظام عربي واحد.
بالإضافة إلى أنه لا يوجد نظام عربي لم يغمس يده في دماء الفلسطينيين، يمكننا أن نحكي عن “صابرا وشاتيلا” وهي واحدة من أبشع المذابح التي تعرض لها الفلسطينيين، ولكن أيضا هناك مذبحة “تل الزعتر” التي خلفت ثلاثة آلاف قتيل ولعب “الجيش السوري العربي الباسل” دورا أساسيا في سقوط تل الزعتر، وهذا نظام آخر يحب فلسطين.
من ناحية أخرى برأيي كنت طوال الوقت أرى وما زلت- ضرورة استقلال النضال الفلسطيني عن الأنظمة العربية، ولكن أيضا هناك ضرورة لأن يكون للنضال الفلسطيني عمق عربي، كي يستطيع الصمود، لا الانتصار، فنحن لن نستطيع هزيمة إسرائيل، هي ستهزم نفسها بنفسها، مثل كل القوى المستكبرة في التاريخ.
وكي يستطيع الفلسطينيون الصمود، هناك مسئولية على النخب العربية الشابة الجديدة التي أفرزتها موجات الانتفاضات العربية، ورأيي أن هناك مصلحة عربية مشتركة في الصمود الفلسطيني، والصمود ضد إسرائيل التي قدمت وتقدم نموذجاً للدولة العنصرية الطائفية الدينية، فأول دولة دينية في المنطقة هي الدولة اليهودية.
هناك مصلحة عربية مشتركة في الصمود أمام إسرائيل -وأنا هنا لا أتكلم عن الأنظمة العربية، فمصلحة الأنظمة كلها من المحيط إلى الخليج مع إسرائيل- وإلا فسنخسر الكثير، فيجب الفصل بين هذه المستويات وإلا فسنظلم أنفسنا وعقولنا والفلسطينيين، عندما نظن أن فلسطين هي قضية الأنظمة العربية الاستبدادية، فهل كانت فلسطين هي قضية القذافي؟
انطلاقاً مما تقول.. كيف ترى “التطبيع”؟
أولاً مصطلح التطبيع صار وراءنا تاريخياً، الآن هناك حركة بفلسطين وبالعالم اسمها “حركة مقاطعة إسرائيل BDS”، ضجة التطبيع لم تكن تظهر إلا فيما يتعلق بالشأن الثقافي في مصر، لكن في الزراعة، والتجارة والميادين الأخرى لم نكن نسمع ضجة التطبيع.
أعود وأقول أن المسألة هي الصمود ودعم صمود الشعب الفلسطيني، وحركة مقاطعة إسرائيل تلعب في دور عالمي كبير الآن، ويجب علينا أن نكون جزءاً منها لأن إسرائيل دولة عنصرية ولأسباب ليس لها علاقة بالخطاب القومي، لها علاقة بالخطاب الإنساني.
فأنا مع المقاطعة كلياً، ولكني أيضاً ضد الأفعال الحمقاء، فمثلاً من فترة صدر لي كتاب بالعبرية، وطلبت مني جريدة “هآراتس” إجراء حوار وثار علي الكثير هنا، وقبل إجراء المقابلة اشترطت عليهم ألا يكون هناك أسئلة، وقلت في هذه المقابلة: “أن إسرائيل يجب أن تنهزم حتى تصيروا بشراً”، ونشر كلامي بالفعل كما قلته. فنحن يجب أن نكتب، وأن نخاطب الرأي العام اليهودي والعالمي. وأن نساهم في حركة مقاطعة البضائع والمؤسسات والجامعات الإسرائيلية، فهذا هو أحد أهم إطارات النضال حالياً. وأنا أدعو كل المثقفين والناشطين العرب للنشاط فيه، خصوصاً أن خطاب الحركة ليس قومياً كما أشرت، وهي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل لأنها دولة عنصرية. والحركة تحقق نجاحات كبيرة في أوروبا وأمريكا بشكل يدفع إسرائيل للجنون، إذ تركز الحركة ليس فقط على المقاطعة الثقافية أو الأكاديمية ولكن أيضاً الاقتصادية وهذا ما يعطي للحركة ثقلاً.
أدب الثورات
في كلمة ألقاها غالي شكري أمام مؤتمر الأدباء العرب في بغداد عام 1969، تحدث عن أن أدب يونيو لم يكتب بعد هزيمة 1967، ولكنه ما كتب قبلها، ودلل على ذلك بأعمال عديدة منها بنك القلق للحكيم، الفرافير ليوسف إدريس، والحلاج لصلاح عبد الصبور وغيرها من أعمال كتبت قبل 1967، إذا استعملنا فكرة غالي شكري هل يمكن القول أن أدب الثورات العربية هو ما كتب في الفترة السابقة على اندلاعها؟
في الحقيقة لا أملك جواباً على هذا السؤال، ولكن يمكنني القول أنه عند قراءة أعمال الفنانين والكتاب السوريين كنموذج مثل أفلام أسامة محمد، وعمر أميرالاي، وروايات هاني الراهب، والجيل الجديد خالد خليفة، سمر يزبك، وغيرهم ستجد مؤشرات كثيرة على انهيار النظام وتفككه.
وإن كان يمكنني أن أقول أن الأعمال التي أشار إليها شكري هو أدب الشعور باقتراب الكارثة، فأدب يونيو يكتب الآن، ولم يكتب من قبل، فنحن الآن ندفع ثمن حرب حزيران.
نحن بحاجة لكتابة أدب التفكك، فاللحظة التي نعيشها الآن نشهد فيها تفكك وانهيار البني السياسية والاجتماعية القديمة، لأنه شرط إعادة بناء المجتمع أن نعرفه، وهذه ليست وظيفة الأدب، بل وظيفته القدرة على قراءة الواقع، فأدب يونيو لم يكتب وما تلا ذلك أيضاً لم يكتب بعد. وهذا يحتاج كما ذكرت من قبل أن نسمي الأشياء بأسمائها.
* أخبار الأدب.