الخوف


*منذر ابو حلتم


خاص ( ثقافات )
يبدو أن الصيف قد انتهى فجأة .. ففي الأمس فقط كان الشارع دبقاً حاراً ، وتحت أشجاره القليلة الجامدة كالتماثيل ، كان يتجمع الناس في انتظارهم للباصات وسيارات الأجرة ..
نعم .. يبدو أن الصيف قد انتهى ، فها هي ريح أواخر أيلول تحرك أغصان الأشجار بقوة .. وغيوم داكنة تمتد شيئاً فشيئاً لتغطي المساحة الباقية من وجه السماء .
كوب الشاي ينشر رائحة النعناع في جو الغرفه .. والغيوم البعيدة خلف البنايات التي تسد الأفق تثير في النفس أحاسيس وذكريات عديدة . هي بدايات الشتاء .. هكذا دائماً ، تنبش أعماق الذكريات .. !
أقف خلف النافذة المغلقة المطلة على الشارع الممتد حتى الدوار ، شارع شهد طفولتي ونشأتي وشبابي ، وشهدت أنا توسعه وامتداده وتطوره ..
لقد تغير كل شيء فيه .. تغير كثيراً ، هذه المحلات التجارية ذات اللافتات المضيئة الملونة .. المخبز الآلي.. محل الألعاب الألكترونية .. الكافتيريا وصالون السيدات .. كلها لم تكن موجودة . بيتنا هذا كان مكوناً من غرفتين متجاورتين مثل معظم بيوت الحي في ذلك الوقت . وبعد صف غير طويل من المنازل المتجاورة كان يقع السوق التجاري للحي ‍!.. فرن (غالب الفران ) ثم (دكان أبو فتحي ) ومحل للخضار ، ثم المسجد وبعده (مقهى الشرق) .. وبعد المقهى ساحة ترابية واسعة ، كانت ملعبنا وساحة معاركنا الكثيرة وملتقى أحلامنا ومغامراتنا .. وبعدها مباشرة كان (المنزل المهجور ) كما كنا نسميه .. !
وحده المنزل المهجور لم يتغير .. فها هو يقف مكانه كما كان منذ ذلك الزمن ،يكاد يختفي خلف أشجار الصنوبر الكثيفة التي تحيط به ..
اشرب قليلاً من الشاي .. الغروب يقترب بسرعة والمنزل المهجور غرق شيئاً فشيئاً في عالم من الوحدة والعزلة .. زادته بداية الشتاء وحشة وغموضاً . لست أدري لماذا أحزنني قرار هدمه .. ! فقد ظهر ورثة له فجأة .. وقرروا هدمه وإقامة مجمع تجاري حديث مكانه .. فالمنزل أصبح جزءاً من ذكريات جميع أهل الحي ..لم يحبه أحد في يوم من الأيام ، ولكنه كان شيئاً أساسياً ثابتاً وغامضاً،لم يتصور أحد أنه قد ينتهي أو يزول ..
الريح تشتد .. والبرق يلمع في طرف السماء .. يتلوه صوت الرعد يهدر من بعيد . كم من القصص نسجت حول المنزل المهجور ، وكم من الأساطير والأوهام .. ولكن قصة واحدة رهيبة رسخت في الذاكرة ولا يمكن أن تمحوها الأيام ..! تحدث الناس فيها طويلاً .. زادوا فيها وأضافوا إليها ما شاءوا من أوهامهم ومخاوفهم ، لكنها كانت مفصلاً هاماًفي تاريخ علاقتهم بالمنزل المهجور .
حدث هذا منذ سنوات عديدة .. كنت أيامها صبياً شقياً ، أتصدر زعامة فتيان الحي، وكم خضنا من معارك مع فتيان الأحياء المجاورة .. وعندما أحاول أن أتذكر أسباب هذه المعارك ، لا أجد سبباً واحداً .. لكنها كانت معارك حقيقية تسيل فيها الدماء وتتمزق الملابس.. !
وكانت الساحة الترابية ، حيث تقوم المدرسة الآن مكاننا المفضل وعنواننا الدائم ، وعلىالرغم من أن المنزل المهجور يقع على طرف الساحة إلاّ أننا ودون اتفاق مسبق ، وبحكم العادة كنا نتحاشى الاقتراب منه أو مجرد ذكره .
كان هناك اعتقاد جماعي يصل إلى درجة الإيمان لدى أهل الحي بأن المنزل مسكون ..! .. الجميع كانوا يخافون الاقتراب منه ، وإذا اضطر أحد أن يمر بالقرب منه ، وخاصة في الليل .. فهو يمر سريعاً وهو يتمتم بما يحفظه من القرآن الكريم ، ويستعيذ بالله من العفاريت . كانت هذه الحكايات تثيرنا وترسم في مخيلاتنا صوراً وأساطير لا نهاية لها .. وعندما كنا نحاول أن نفهم تكون الإجابة جاهزة وقاطعه :
– إنه منزل مسكون .. بسم الله الرحمن الرحيم ..!!
أو تكون الإجابة أكثر حدة :
– لا تقتربوا منه .. وكفى .. ! وعندما كنا نلح في السؤال ، يأتي الجواب مشوباً بالقلق ونفاذ الصبر :
– إنه منزل مشؤوم مهجور .. لا تسكنه إلا العفاريت !..
شخص واحد فقط كان يعارض الجميع .. لم يكن يعبأ بكل هذه القصص والحكايات .. إنه (مسعود ) ، الرجل المسكين أو (الأهبل) كما كنا نسميه ..
كان مسعود يردد دائماً أنه لا يخاف من العفاريت ، بل كان يذهب إلى أكثر من ذلك .. فيعلن أنه ينام في المنزل المهجور ..
في البداية لم يصدقه أحد، ولكن أكثر من شخص شاهده يدخل إلى المنزل في الليل أو يخرج منه في الصباح الباكر .
.. وازدادت الحكايات ، فمسعود متزوج من جنية ! .. وله منها أطفال عيونهم مشقوقة بالطول ! ولهم قرون صغيرة، كما كان يؤكد غالب الفران .. وعندما كان الرجال في المقهى يسألونه بسخرية مفتعلة :
– وهل رأيتهم بعينيك ؟! .. كان يتردد قليلاً ثم يقول بحدة :
– نعم ..! لقد رأيتهم يلعبون في ساحة المنزل عند أذان الفجر ، عندما كنت ذاهباً لفتح الفرن ..!
وعندها كان يخيم صمت ثقيل تقطعه البسملات وقراءة المعوذات ..
وهكذا أصبح مسعود جزءاً من الأسطورة .. يتحاشاه الكبار ويخافه الصغار .. ثم لا أدري كيف ..! ولماذا ؟..
أصبح مسعود فجأة شخصية مشهورة ، حتى في الأحياء المجاورة ..وأصبح يلقب بالشيخ مسعود .. يكتب الحجب للعجائز.. ويعالج العقم والأمراض المختلفة بكلمات غريبة لا يفهمها سواه ! لقد أصبح ببساطة قوة لها وزن .. وارتبط في أذهان الناس بالمنزل المهجور ، واستمد من غموضه رهبة ليست بالقليلة ..
وذات يوم خريفي ، وأثناء لعبنا في الساحة الترابية ، مر مسعود بالقرب منا وهو يضع في عنقه مسبحة طويلة ويرتدي في قدميه حذاء عسكرياً ضخماً ومعطفاً قديماً واسعاً .. سار ببطء ، ثم دخل إلى ساحة المنزل المهجور واختفى بين أشجار الصنوبر الكثيفة ..
ران علينا صمت ثقيل ، ثم وبلا مقدمات .. ودون أن أدري كيف .. أصبح دخول المنزل المهجور تحدياً رهيباً عليّ اجتيازه ..!! نعم .. تراهنا على دخول المنزل كمقياس على الشجاعة والرجولة ، وكزعيم للمجموعة لم يكن بمقدوري أن أجبن أو أتراجع .. جبن كثيرون وتردد كثيرون .. وأخيراً قررنا أن نغامر ، كنا ثلاثة ، أنا واثنان لا يقلان عني شقاوة ورغبة في الزعامة .. وتقرر أن يكون موعد التنفيذ بعد صلاة العشاء ..!
مر الوقت سريعاً .. وكدت أتراجع أكثر من مرة .. ولكني لم احتمل فكرة أن أفقد منصبي كزعيم ..! وعندما حان الموعد خرجت متسللاً ووصلت إلى مكان اللقاء .. الساحة الترابية ، بالقرب من المنزل المهجور ..
كان المنزل يقف في العتمة .. مخيفاً كما لم يكن من قبل ! .. انتظرت دقائق ، ثم جاء أحدهما وأخبرني أن الولد الثالث قد جبن وتراجع ..
.. اقتربنا ببطء من الباب الحديدي القديم ، دفعناه قليلاً ، لكنه لم ينفتح .. دفعناه بقوة فانفتح مصدراً صوتاً عالياً جعل قلبينا يقفزان .. وكدنا نهرب .. لكن كل واحد فينا نظر إلى وجه الآخر ، ثم دخلنا إلى ساحة المنزل ببطء .. وحذر ..!
كانت الساحة غارقة في العتمة ، والأشجار الكثيفة تزيد المكان رهبة ووحشة . تقدمنا .. وصاحبي يبسمل بصوت متهدج ، كان كل منا يمسك بيد الآخر بقوة ، لدرجة مؤلمة .. وفجأة قفز شيء جعلنا نقع أرضاً وقد جحظت عيوننا .. كان قطاً ضخماً نظر إلينا بعينين لامعتين ، ثم اختفى بين الأشجار وهو لا يصدق أن أحداً قد تجرأ على اقتحام هذا المكان الهادئ دوماً ..
ولمحنا ضوءاً خافتاً ينبعث من نافذة في جانب المنزل ، اقتربنا بحذر محاولين معرفة ماذا يوجد في الداخل .. لكن النافذة كانت عالية ، سألني صاحبي بصوت متقطع :
– هل نرجع ؟ .. فأجبته بصوت فيه من الرجاء أكثر مما فيه من السؤال :
– هل خفت ؟ .. لكنه أجاب بسرعة : – لا .. هيا ندخل !! .. وندمت على استفزازه بسؤالي الغبي ..!
اقتربنا من باب المنزل الداخلي .. باب خشبي قديم متآكل .. دفعناه فأصدر صوتاً مفزعاً كالتأوه .. ودخلنا وأنا أتصور أن مخلوقاً مشقوق العينين وله قرون صغيره سيقفز على ظهري بين لحظة وأخرى ..
الضوء الخافت يبدو في آخر الممر ، ولاشيء سوى العتمة .. ورائحة غريبة لم أعرف ما هي حتى اليوم تملأ جو المكان .. وفجأة تعثر أحدنا بشيء ما .. فسقطنا مصدرين ضجة تردد صداها في أرجاء المنزل ، وتناثر شيء كالرماد على رؤوسنا ووجوهنا .. حاولنا أن نقف ونركض ، لكننا تسمرنا في مكاننا دون حراك .. ثم لمحنا ضوءاً خافتاً يتراقص من بعيد .. وصوت متهدج متقطع يهذي :
– السماح ..! السماح .. العفو يا أسياد المكان .. ! بسم الله .. الرحمن .. الرحيم ..!
لم نفهم شيئاً .. وكنا في حالة لا يمكن وصفها . ثم لاح وجه شاحب بعينين جاحظتين تضيئه شمعة مرتجفة ، وعندما رأى وجهينا وقد غطاهما الرماد صرخ بجنون :
– السماح ..!! السماااااح !
وسقط على الأرض دون حراك .. وانطفأت الشمعة . لا أدري كيف هربنا .. كل ما أذكره هو أننا كنا نركض بجنون .. ثم اقتحمنا المقهى حيث كان بضعة رجال يجلسون باسترخاء .. ونحن نصرخ :
– المنزل المهجور .. العفريت ..!
في الصباح تجرأ عدة رجال ، ودخلوا إلى المنزل ليجدوا مسعود جثة هامدة ، وعلى وجهه تحجرت أقسى تعابير الرعب .. ووجدوا في إحدى الغرف فراشاً بالياً وبعض الأغراض .. أغراض مسعود وملابسه .
ومنذ ذلك اليوم ، لم يعد للمنزل المهجور غموضه المعهود .. فقد انتهكت حرمته .. أما أنا وصاحبي فقد أصبحنا بطلين وتعززت مكانتنا كزعيمين لا يشق لهما غبار .. رغم الضرب الذي تلقيناه من والدينا ..
.. ولكن رغم كل شيء فقد بقي للمنزل هيبة لا تمحى .. وهالة أسطورية ما زالت تفرض غموضها حتى اليوم .. وأصبح مسعود حكاية جديدة .. البعض يقول أن الجن قتلوه ، أما غالب الفران فهو يؤكد أنه رآه أكثر من مرة في الليل واقفاً مع أبنائه ذوي العيون المشقوقة في فناء المنزل .. بين أشجار الصنوبر ..!
أما أنا فقد كنت أعرف أنه مات من الخوف .. والى اليوم ما زال هناك شعور بالذنب يسكن أعماقي ..
المطر يزداد شدة .. فجأة أشعر بالبرد ، أنظر إلى المنزل المهجور وقد اختفى خلف المطر وأشجار الصنوبر . أغلق الستارة وابتعد عن النافذه .. ترى هل نحن من قتل مسعود ؟! .. شعور بالحيرة والذنب يسكن أعماقي ويطفو على السطح كلما مررت بالقرب من المنزل المهجور .. وكلما جاء الشتاء ..!
__________
*كاتب أردني يقيم في الكويت 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *