طه ياسين حافظ
لم يعد أمام المؤرخ اليوم إلا إعادة النظر في قراءاته الأولى ونتائجها بعد أن انسحبت بعض من أهم موضوعات التاريخ إلى الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع وبعد أن تدخلت علوم اللغة لتقول لنا بان النص الذي نقرؤه هو لغة، واللغة تتكرر كتابتها بتكرر الأزمنة والمراحل، وأن الحكم في جميع الأحوال للتأويل الفردي وطبعاً التأويل وراءه ثقافة والثقافات مختلفة المحصلات.
لكننا نلحظ في واقعنا الثقافي، والديني بخاصة، وانا اعلم ان الدين ثقافة أيضا، انهم ما يزالون يعتمدون “الحدث” المروي والتسلسل التاريخي في البحث عن الأصول. ومعلوم ان دراسات تاريخية مثل هذه لا تسمح بتشكيل طريقة ايجابية للمعرفة.
فنحن امام نصوص او روايات تقول، بامتياز وأحقية شخصية معينة في الزعامة أو الحكم ولم يتحقق لتلك الشخصية ذلك. نحن لا نجد تفسير عدم التحقق هذا في التاريخ التقليدي الرسمي أصلا. نجده في دراسة المجتمع آنذاك وجغرافيته واقتصاده السياسي (او مركزية “رؤوس” المال)، وفي صراع العقائد القديمة والجديدة المتجاورة او المتجايلة، وقلق تلك العقائد في تلك المرحلة. فنحن يمكننا أن نستشف عدم اختفاء قناعات الناس الأولى وعقائدهم، وإنها ظلت في احتكاك يومي مع الجديدة وفي صراعات مكشوفة وغير مكشوفة، والناس في حال كهذه، يكونون في شك وفي حال انتظار الكشف او الاستسلام للقوة ان كانت رادعة او “قامعة” .. لا بأس من جمع الشواهد للفهرسة او لأغراض تصنيفية لكنها غير قادرة وحدها على رسم طريق معرفي سالك ولا إيديولوجية تاريخية فاعلة لاتخاذ قرار، او لتفسير الأمور بطريقة جديدة. ربما كان كتاب احمد صالح “اليمين واليسار في الإسلام” محاولة كشف تعتمد الإيديولوجية أكثر مما تعتمد علم الاجتماع، لكنها خطوة جيدة في الطريق.
إن القول، مثلا، بان نفوذ قريش هو بسبب تجارتها مع الشام، صحيح ولكن مكملات صوابه، لكي يصبح الكلام علميا، بحاجة إلى معرفة أُخرى. هنالك تجار آخرون في اليمن وفي سواها لهم تجارتهم، غير قريش، فلم يتحقق لهم ما تحقق لقريش. أما سدانة الكعبة والإشارة إلى إبراهيم وإسماعيل، فيضعف الحجة ان المجتمع وثني وان الأصنام في الكعبة (؟) ومادامت العبادة فيها عبادة أوثان كيف نحتج بذلك التفسير؟ منطقة غير واضحة تماما حتى إذا فكرنا بالمسافات الزمنية ووجدنا فيها عذراً. كما ان وجود الأوثان ليس سببا كافيا، لقدوم الناس إلى مكة والتجمع فيها فالأوثان يمكن ان تكون في أي مكان، فهي مواد قابلة للنقل وسهلة الصنع محليا .. واذا سلمنا بمركزية مكة الدينية والتاريخية آنذاك، لأي من الأسباب، فنحن بحاجة إلى تفسير آخر لاستمرارية هذا المركز خلال مراحل مختلفة، وليس صحيحا طرح تفسير حاضرنا على الماضي. لكل زمن أحكامه وأنظمته وتفاعلاته وهذا ما نريد كشفه.. لقد كانت مكة ساحة تجمع لممثلي القبائل ومندوبيها وممثلي مصالحها. ألا يعني هذا أيضا انها مركز تجمع أفكار وعقائد ومقراً لـ “هيئة القبائل” ولا أقول “هيئة أمم”، للبحث عن حلول للمشاكل والتفاهم على استراتيجيات المستقبل وعلى الخلافات وتقاطع المصالح الذي ماانفك في الجزيرة يوما؟ لا احد يستطيع القطع بحكم اعتمادا على مدونات ومرويات التاريخ (والمدونات ايضا كانت مرويات ..) نبقى إذن نحتاج إلى مزيد من المعارف غير التاريخية لكشف أسباب مركزية هذا المكان الدينية واستمرارها. في مناطق كثيرة من العالم غابات لكن تجارة الخشب وصناعته في بعض منها ولا نجدها في البعض الآخر. ومناطق كثيرة تربي أغناما، ولكننا لا نجد إلا في القليل منها صناعات صوفية. وهنالك مقامات دينية ومراقد في مدن مختلفة ولكننا نجد الدراسات الدينية في بعض منها ولا نجدها في البعض الآخر.
قد يكون وراء ذلك البعد عن “السلطان”، عن القوة الحاكمة والتقاطع مع ما يسمى بـ “الأحكام السلطانية” وربما هي الصراعات والتضادات السياسية والبحث عن مكان محايد للتفاهم، او للتفرغ العبادي، او الحاجة إلى مسافة فاصلة او تضاريس، لكن لا هذه ولا تلك مما قرأنا في الكتب المدرسية تصنع علما حقيقيا لعصرنا.
اخلص إلى القول: ان إغفال معرفة أحوال المجتمعات ودور “العامة” او “العوام” او “غمار الناس” او “سوادهم” (لاحظ التسميات ومدى التعالي والترفع الطبقي فيها)، ومن نسميهم اليوم الجماهير الشعبية، أقول عدم معرفتنا بأحوال تلك القطاعات الواسعة من البشر، يجعل فهمنا لأي ظاهرة، ولأي حدث، منقوصاً. ذلك لان هؤلاء العوام، العامة، الغوغاء، الغمار، السواد هم وراء كل حركة المجتمع ومنحى مؤسساته الاقتصادية ووراء الإجراءات التاريخية باعتبارها “أحداثا”.
استمع لرجال الدين الأجلاء يحدثوننا عن وقائع متسلسلة، او متقطعة من سير التاريخ كأنهم يتلقون كشفاً إلهياً يحتجون به. المسألة التاريخية لم تعد روايات تروى، او تؤلَّف، ولا أقوال توظفها الذاكرة لاحتياجاتها، فهذه نادراً ما تكون صافية من الشوائب المصلحية، بل قد تكون مصنوعة بأكملها.
الدراسات الحديثة تجاوزت هذه الأسانيد بوصفها أحكاما إلى توظيف كل العلوم الاجتماعية، بل الانثربولوجية والنفسية وعلوم اللغة لفهم الظاهرة او التحول ولفهم النص المروي. اذكر قولاً للسيد “امير علي” يقول فيه :
“بموت الإمام علي مات النظام الجمهوري في الإسلام..” كان هذا الرجل استقرائياً كبيراً مثلما هو ينطلق من ثقافة تأويلية كاشفة، وان لم يكن “التأويل” شائعاً في زمنه كما نفهمه اليوم. يمكن ان نستشف من قوله الموجز ذاك ان النظام السياسي كان قلقاً ( الخليفة الاول عيَّن الخليفةَ الثاني تعييناً وسماهُ باسمه وبعد الخليفة الثاني تم الاختيار من بضعةِ أسماء لا أكثر..) ولهذا وصل الامل بنظام جمهوري الى الامام علي متعباً، فما أن مات الإمام علي، مات النظام الجمهوري في الاسلام وهنا أحكم اليمين قبضته واستمرت الملكية. السؤال الان: لماذا ظل قلقاً بعد كل تلك السنين؟ والسؤال الآخر هل كان هناك نظامٌ جمهوري؟ متى كان ذلك؟ هل كانت له بدايات وكان مؤملاً ان يكون والآن انتهى الأمل فيه؟ هذه الأسئلة يجب ان يتخلى التاريخ عن الإجابة عنها بآلياته “القديمة” والتقليدية وحدها، لان الجدير بالإجابة عنها هو علم المجتمع او مجموعة العلوم الاجتماعية كما تُعلّمنا المدرسة الفرنسية الحديثة وضمنها العلوم السياسية. ذلك أولا للتكامل المعرفي، ثانياً لتنحية العناصر اللا تاريخية فلا تسطو على الحقائق وتسلخها من مواقعها او تضيعها.
المناهج القديمة، هي مناهج “موجهة” أصلا من سلطات دينية او دنيوية (المعنى واحد)، مناهج أضرت بالحقائق العلمية كما غيبت فعل قوى حتى كأن لا وجود لها فنحن بإزاء ممالك ودول وإمبراطوريات بلا شعوب. هي فقط ملوك وقادة عسكريون وحوادث وأسماء انهار وحصون ومدن. القائد فيها يقود أشباحا لا بشرا. فنحن نعرف كل شيء عن الملك وقواده وولاته ولا نعرف البشر الذي يحارب ويموت، او يرفض فيُقتل، او يزرع او يصنع او يواجه المجاعات او يتمرد… معنى هذا أننا نجهل القوة المحركة للتاريخ، نجهل تاريخ الشعوب وصراعاتهم وتقاطعات مصائرهم وأفكارهم وتطور آليات نضالهم اليومي. لو عرفنا هذه، لو تبنتها دراسة التاريخ، لما وافقنا على ظاهرة معزولة او مفاجئة، بخاصة الظواهر الفكرية والتحولات الكبرى.
فليس في صالح الإسلام، مثلاً، ان نجهل صراع الأفكار والحراك الاجتماعي في حواضر الجزيرة العربية قبل ظهور الرسالة. وليس في صالح فهم الرسالة اننا لا نعرف جيدا، بل نجهل التأزمات الاجتماعية واحتدامها لتأتي الرسالة حلاً وإنقاذاً وحين عرض النبي الإسلام على القبائل التي جاءت إلى مكة، رضي بعضهم بالإسلام ورفضه الآخرون. لماذا رضي هذا البعض؟ هل أوحي لهم بالرضا؟ لقد رضوا بوعد ثوري إنقاذي، بخلاص من واقع، وكان لأولاء مظالم، كما سنرى، ومعاناة من وطأة الأنظمة القبلية وقد بدأت بذور انتباههم، بدأت أوليات الوعي. لقد جاءتهم شعارات ترفع مطالبهم وتؤشر إلى الاحتياجات الجديدة و “المستقبلية”.
كما ان مقاطعة قريش، “وجهاء قريش”، لبني هاشم والمطلب واجهت انشقاقاً. وشق الصحيفة على يد المطعم بن عدي، احد سادات قريش في العقبة الأولى، لم يكن مجرد تعاطف اعتيادي. لقد كان هناك صراع أفكار!
مسألة أُخرى لها خطورتها فهي تكشف عن أمر مهم، هي ان معظم المسلمين كانوا أميين يجهلون القراءة والكتابة وان الأسرى من المشركين، او اليهود، كانوا يقرؤون ويكتبون، او ان نسبة كبيرة منهم يقرؤون ويكتبون مما دعا النبي إلى ان يفك الأسير اذا علّمَ “عشرة” من المسلمين القراءة. “عشرة” هذه تدل على حجم من لا يعرفون القراءة والكتابة بين أصحاب النبي. إذن، أكثر من التف حول الأفكار الجديدة وارتضى او صدق بالرسالة هم من “العوام” و “غمار” الناس الذين لايقرؤون ويكتبون. ومن قاومها، يمثلهم هنا الأسرى، كان بعضهم، او جلهم، يقرؤون ويكتبون. ولهذا دلالاته الاجتماعية. لابد من فك الرموز ومن كشفٍ لنرى الحقيقة. نحن أيضا، استنتاجا من ذلك، بإزاء واقع سياسي مستجد يمثله تحرك العوام وسواد الناس.
ولو كانت هناك عفوية سياسية او سذاجة، لماذا تعهدت قريش في “حلف الفضول” برد كل مظلمة لأهلها؟ ما هي هذه المظالم وما حجمها؟ لتكون شعار عمل؟ ولماذا في هذا الوقت فقط تنبري قريش لرد المظالم وطمأنة الناس على حقوقهم؟ ما هي هذه المظالم التي استوجبت حلفاً؟ الا يكون الدافع تنامي التحرك والتململ من النظام السائد؟ هل من رأي آخر ام نكتفي بما ورثنا من أقاويل تسمى تاريخا، سؤال آخر: هل كان ذلك الحلف “من اجل تنظيم الجماهير” لرد الأحباش وقد بدأت نذر هجومهم؟ وكيف نفسر ظهور جماعة من الرؤساء في مكة اشتهروا بالحرب والسياسة والتجارة ساعدوا على تأليف ما يشبه “حكومة النقابات” في القرون الوسطى؟ وماذا يعني جمع الحرب والسياسة والتجارة؟ اليس حماية وضمان مصالح؟
وليس صحيحا أيضا ان نقصر فهم تأزم العلاقة بين علي والخلفاء الثلاثة قبله بسبب الخلافة ونعلم أن الزهد كان مبدأ أولا، ام انه كان بسبب موقف او كلام، والموقف والكلام لا يأتيان من فراغ. هناك تقاطع مصيري كشفت عنه تقاطعات مواقف الأمراء والولات والجباه في عهد علي مع التعاليم الطهرانية المثالية التي يريدها علي بزهده وتطبيقاته. وراء هذا الخروج او الاستياء او الخلاف قلق فكري إيماني. لو كان الإيمان بوجود النار والجنة حقيقياً كاملاً، لما مال احد لما يلقيه في النار الأبدية ولما تخلوا عن منافع وأملاك ونعيم ازلي في الفردوس. ثمة واقع اجتماعي تغير باتجاه الدنيا و “بقايا” قوة تريد اعادته إلى المثال. أولئك الأشخاص رموز ودلائل على ما كان يجري. ما يروى لا يكشف كل شيء ويغيب كثيرا من التفاصيل.
إن اعادة توجيه خطاب التاريخ يحتاج الى الإلمام بحقول معرفية من تلك التي تقدمها العلوم الاجتماعية وضمنها الاقتصاد السياسي. أكثر من ستين سنة مضت على بدء التوجهات الجديدة في قراءة التاريخ وكتابته. حان الوقت لفتح الحدود بين التخصصات لاستكمال الحقائق. فلا نرى صحيحا او كافيا ان يكتفي الخطاب الديني المعاصر بالاعتماد على المدونات والمرويات، مما يوردها التاريخ. فالتزييف وابتداع المقولات طالت حتى الأحاديث النبوية. لا بد من تفكيك المغاليق وتمحيص المدونة التاريخية مختلفة المصادر مختلفة الأغراض. والغريب ان تاريخنا يشترك في روايته العالم والجاهل وقد يعتمد العالم منهم على ما سمعه صدفة من احد..
واستقاء المروي من ثقافة “عالِمَه” وأُخرى “شعبية” يعني خلطا مربكا للرؤيا، كما هو مربك للدرس التاريخي. وهذا يعني، من بعد، أننا سنظل في دائرة لا تنتهي من عمليات التصفية ومن تنقية إلى تنقية للوصول إلى تاريخ “علمي” يرتضيه المنطق العقلاني للعصر …
( المدى )