أحمد بن قاسم الغامدي
الدين والفنون مشترك فطري إنساني جُبل الناس عليه، وكلاهما يحقق للآخر معاني يستدل بها على الحق والصواب والجمال، وبهما يرتقي العقل والروح والسلوك والحياة، والفنون يدرك بها الحسن والقبح ومراتبهما، وتقوى بها ملكات الإدراك وتمييز الفروق، وغيابها غياب للمعاني الروحية وجماليات الحياة، يتولد عنه قصور في فهم الدين، وجفاء وسطحية في المجتمعات، ويورث وقوع البعض في الكراهية والتطرف، وأقلّ ما يمكن أن يورثه القصور المعرفي والعجز المعنوي والفكري.
إن الفنون ترتقي بفهم الدين ويرتقي الدين بها، وتدفع بالمجتمع المتدين لفتح مجالات وآفاق جديدة للفنون، فتقوى الملكات ويقل العجز عن إدراك الأفكار والمعاني والحقائق.
الفنون تعين على الوصول إلى الصواب وإدراكه عبر الأدوات الصحيحة، وهذه القدرة هي التي تمنح الإنسان الارتقاء وليس الصواب بذاته، وبغير ذلك فإن الشخصية الإنسانية ستغرق في الضعف والوصاية المولدة للعجز في الحكم على الواقع ومفرداته وتفاعلاته واحتياجاته وأولوياته.
إن الفنون تمنح الإنسان ملكة وذائقة وحدسًا يحمي من الضعف، وبإشراك الفنون فإننا نمضي بالمجتمع إلى المناعة من الخواء والضعف والخوف ونقص المعرفة، ونخلصه من الوقوع في الكراهية والتطرف.
غياب الفنون غياب للملكات
إننا دومًا بحاجة لرؤية الأشياء كما هي، والفنون تحفز ملكات الأفراد على التمييز بين الصديق والعدو، وقياس نضج الأفكار والمعاني وتمييز مستواها، والحكم على المنتجات والخدمات، وترتيب الأولويات والحكم والاختيار بذائقة جمالية محببة للنفس توفر للمجتمع ما لا توفره بيئات التعليم ووسائل الإعلام والعمل والعلاقات والمستجدات اليومية، وغياب الفنون غياب للملكات وتأسيس للعجز عن رؤية الأشياء كما هي، ولذلك تتكيف السلع والمعارف والتقنيات والأفكار مع قدرة الناس على الرؤية والتقييم، فتزداد هذه الأشياء في مستواها وجمالها بمقدار فهم الناس وضعفهم.
فالفنون تمنح الناس مهارات وملكات لرؤية هذه الأشياء ووصفها والتعبير عنها، وتعين على تشخيص الفكرة المعنوية أو تحويلها إلى واقع محسوس، ولذلك تدهشنا قدرة الفنان على ملاحظة التفاصيل وعرضها في لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية أو مهارة معمارية أو قصة أو شعر، وغياب تلك الذائقة يفقد كثيرين قدرتهم على رؤية الأشياء على حقيقتها، ويصبح الناس أكثر عرضة للخطأ والتضليل والتبعية وعدم القدرة على التمييز والتقييم، فالمجتمع بحاجة لتلك الذائقة؛ ليدرك الفاسد والقبيح من ضدهما، وهذه الذائقة كملكة في الحكم على الأشياء والأفكار تكاد تنحصر كمهارة يتعلمها الإنسان من الفنون والجماليات، التي عندما يفقدها الإنسان، فإن تدينه وحكمه على المسائل والأشخاص يكون خاليًا من القدرة على ملاحظة تنوع وتفاوت الخير والجمال في الناس حتى يصبح ليس أمامه إلا (الأنا) و(الآخر)، فيضيّق (الأنا) دائرة الدين إلى الطائفة ثم الجماعة ثم المجموعة حتى يكاد يقتصر على الذات، ويتسع الآخر ليبدأ بمن ليس من (الأنا) حتى يكاد يكون كل إنسان آخر.
إن غياب الفنون يمثل غيابًا لوضوح الحياة، وغيابًا للنمو والنجاح والمشاركة العامة والانتماء، فلا يكون حينها إلا الخواء، الذي يستوي معه الوجود والعدم، وعندها لن نمثل فرقًا لأنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا وأوطاننا.
الفنون ضرورة كبرى للدين والدنيا
إن الخواء يتشكل عند عجز الإنسان عن إدراكه الصواب، فالصواب وإن كان موجودًا إلا أنه قد يتعذر إدراكه، والنجاح والارتقاء إنما يكونان بإدارة نقص المعرفة، وتحويل هذا النقص إلى إبداع وارتقاء بالروح والنفس، وهنا تكون الفنون ضرورة كبرى للدين والدنيا، ولا يمكن للمتدين أن يستغني عنها، فالمتدين متى اعتقد أنه يملك الحقيقة ويتبع الحق فقد وقع في الوهم، والكارثة تكون عندما يتبع وهمه على أنه اليقين، ثم يكتشف أنه في وادٍ آخر، وكان الواجب أن يستحضر الإنسان أنه لا يعرف وإنما يحاول أن يدير عدم معرفته.
إن غياب هذه القدرات يجعل الفرد يلجأ إلى المجموع ليحمي نفسه، والمجموع ليس سوى أفراد ناقصي المعرفة إذا كانوا مثله، فهم جميعًا يحتمون باليقين الذي هو في الحقيقة ليس سوى وهم، فلا يحميه ولا يحميهم، والتواطؤ على الوهم وهم مركب يزيد المجموع خواء وضعفًا، ويتحول إلى شعور وهمي بالصواب، وربما ينظر إلى الصواب على أنه خطأ، وتواصل متوالية الخواء تشكيل أتباعها في مزيد من الضعف الذي يقود إلى التعصب والكراهية والتطرف.
فالفنون تعالج ذلك بما تمنحه من ملكات فردية تملك بذاتها منعتها وتماسكها فيداري الفرد بها عجزه، وينشئ بها طريقًا تحميه، فيتشكل وعيه لنفسه على نحو صحيح انطلاقًا من قدراته وملكاته الفردية، فيعرف ماذا يريد وكيف يحقق ما يريد، وغياب ذلك يعني أنه يسير في طريق لا يعرفه ولا يعرف عنه سوى الأنس بالسالكين معه، ولو كانوا على باطل.
إننا اليوم في عالم الإتاحة والإغراق بالمرئي والمسموع والمقروء الذي لم تعد الجامعات والمؤسسات الدينية والعلمية والكتب التراثية والتاريخية معه سوى قطرة في محيط المعرفة المتدفق الهادر المتطور المبهر، فلم يعد مجديًا التدين الذي يقدم للناس خارطة طريق جاهزة، ولم يعد صوابًا أن يقال للناس كيف يفكرون ويفهمون وماذا يقرؤون أو يسمعون أو يشاهدون، ولم يعد صوابًا إقصاء الفنون وهي تمنح حصانة ومنعة وذائقة وقدرة على التمييز، وتعوض الإنسان عن الوحشة والصعوبة في عالمه المتغير، وتقرب المسافة بين الفكرة والمعرفة والتعبير عنها، وتحفز الشعور فيه بالحاجة للمعرفة كسبب للدأب وحماية الذات من ثقل اليقين المتوهم؛ ليشق طريقه مستعينًا بملكات الفنون حين تعجز المنظومات المعرفية الأخرى عن إدراك بعض الأشياء.
إن الفنون تلهم الحياة والفكر، وتلهم فهم الدين؛ لأن تذوق الفنون بشكل عام كجزء من الحياة، يمكن أن يلهم على نحو مباشر وغير مباشر عزيمة وأفكارًا وقدرات ومعارف، كما لو أننا نقرأ كتابًا عظيمًا، يزيدنا فهمًا للدين والحياة والطريق بشكل أمثل.
___
*مجلة الفيصل