*وليد أحمد الفرشيشي
خاص ( ثقافات )
كلّ ليلة…
مثلَ لحن حزين لا يتغيّر كالموت، أجلسُ قرب سريرك، وأفكّر فيك، أنتِ التي يرفضُ قلبي تصديق أنّك لم تعودي هنا. أخاف أن أزيح السّتائر الثقيلة، لأنّك تكرهين، كما قلتِ لي، حين يزورك الملاك أن لا تري نوره الذّي يشعُّ على غرفتك الصغيرة.
أنا لم أصدّقك، في البداية، حين كنت تخبرينني مطمئنّة بزياراته المتكررة لك. عيبنا، نحن الكبار، أنّنا لا نصدّق أطفالنا. نعتقد أنّهم يبتكرون أصدقاء خياليين، يتحدثون معهم، ويلعبون معهم، ويخبرونهم بأسرارهم الصغيرة التي نرفض نحن أن نفتح لها قلوبنا.
أجل لم أصدقك وأنت تقولين لي:” بابا…بابا…لماذا تضحك الملائكة دائما للأطفال؟”…
في حزني الدائم عليك، كنت أتحسّس جبينك الذّي تأكله الحمّى، وأقول لك بيقين ثابت:
– أنت محمومة يا وردتي الصّغيرة…
– ولكنّه يضحك لي الآن…
– أجل..أجل…حين تخفت الحمّى قليلاً…ستكتشفين أنّ وجه أبيك هو من يبتسم لوردته الصغيرة…
كنت تغضبين حين أعاندك، وتخفين وجهك المتعرّق بيديك الصغيرتين…
أقتربُ منك، وأبدأ في لثم وجهك وأطرافك التي تفوح منها رائحة الأدوية…وأهمسُ لك بأنّ الملائكة تضحك للأطفال لأنّها أحبّ خلق الله إليها…
كنتُ أقول لك هذا حتّى أرضيك…أنا الأبُ الملتاعُ الذي يرى حياتك تتسرّب منك ببطء ومعها روحه.
* * *
كلّ ليلة…
مثل لحن حزين لا يتغيّر كالموت، أجلسُ قرب سريرك وأفكّر فيك.
كنّا وحيدين دائمًا. كنتُ طفلك الوحيد وكنت طفلتي الوحيدة. أعترف يا وردتي الصغيرة أنّي كنتُ أغار من ملاكك حين تسهبين في وصفه. قلت لي مرّةً أنّه يريد أن يأخذك لتري الماما. قبل أن تدخلي في نوبة من البكاء.
حين سألتك “لم تبكين يا وردتي الصغيرة”، قلت لي:” لقد أخبرته أنّي لا أريد أن أترك بابا وحده”. هل تذكرين ما أخبرتك به ليلتها وأنا أداعب وجنتيك الغائرتين؟ هل تذكرين؟ قلتُ لك:” لنتفق على أمر واحد. يوما ما، ستقابلين الماما حين تكمل الوردة دورة حياتها. ستكبرين أولاً وتنجزين أشياء عظيمة في حياتك. وعندما تشيخين، ستجدينني أنا والماما في انتظارك.”
أعجبُ جدّا لابتسامتك تلك، وأنت تشخصين لتلك الستائر، وعيناك تشعّان بفرح عظيم. حين أسألك، تقولين لي:” صديقي هناك…يقولُ إنّي لن أكبر بعد الآن…سأرى الماما قريبًا”.
ليبدأ حفل الرّعب في قلبي. أسارع إلى مهاتفة الدكتور مفتّشا عن أمل كاذب. يغمغم بكلماته القاتلة فيسقط في يدي.
* * *
كلّ ليلة…
مثل لحن حزين لا يتغيّر كالموت، أجلسُ قرب سريرك وأفكّر فيك.
لقد رتّبت حياتي على إيقاع أنفاسك المضطربة ونظراتك الواهنة وشفتيك اللتين ترشحان بالجمود. كان الخوف يأكلني عليك. كنتُ محطّمًا. وحينَ تبدأ عيناي في فكّ ارتباطها بالدموع، كنت تتحرّكين قليلاً. حركة بسيطة ولكنك تقومين بها بمشقة عظيمة.
تمسكين كفّي وتقولين لي:
– بابا…بابا…
– نعم يا وردتي…
– صديقي غاضبٌ منك…
– صديقك الملاك؟ أقول مستفسرًا…
– هو غاضبٌ منك كثيرًا…
– هل هو من قال لك ذلك…
تديرين وجهك إلى تلك الزاوية الخالدة شاخصة ببصرك إلى ما اعتقدت أنه ستائر…وتصمتين وكأنّك تطلبين الإذن منه…
– هل هو من قال لك ذلك…؟
– أجل…هو يقول إنّك يجب أن تؤمن…
– ولكنّي رجلٌ مؤمن بالفعل…
– هو يقول إنّ إيمانك ناقص بابا…لأنّك ترفض أن ترى الأمر كما هو..
– وكيف يجب أن أرى الأمر يا وردتي؟
حين سألتك، أغمضت عينيك، وغبتِ. قفزتُ مرعوبًا واضعًا أذني على قلبك. أسمع دقاته الخافتة وأحمد الله على تأجيل لوعتي…
* * *
كلّ ليلة…
مثل لحن حزين لا يتغيّر كالموت، أجلسُ قرب سريرك وأفكّر فيك.
أحدّق كالمسلوب في جسدك النحيل وقد برزت عظامه. ذراعيك امتلأتا بالثقوب كروحي تمامًا. فمك يسيلُ منه نسغُ الحياة كلّما فتحتِه على أنّةٍ طويلة ومهدودة. أرى نفسي في جسدك. حينما تدخلين في لحظات غيابك، تأخذني الذكرى القريبة إلى تلك الوردة التي تنبضُ حياة وبهجةً. تلك الوردة التي أحاطت بها الآن الغرفة الموحشة والآلات الطبية وأكداس الأدوية كما تحيط الضباع بغزال شاردٍ في البريّة.
أين ذهب ضجيجك المحبب إلى قلبي يا وردتي؟ لماذا تركت الصمتَ يفتضّ روحي بهذا الشكل المفاجئ وكأنّه يسخرُ من أملي فيك يا وردتي؟
وكأنّك، في غيابك، تقرئين أفكاري، يشعُّ وجهك فجأة بابتسامتك الحلوة. أمسك كفّك الصغيرة وأضمها إلى كفّي بلين. حينها تفتحين عينيك…
– بابا…صديقي…يُحبّ ما تقولُ لي…حين كنت تهدهدني وأنا صغيرة…أريدُ أن أسمعها منك…
أجيبُ دامعًا:
– من هو أجملُ من الآخر…أنتِ أم أنتِ؟
بصوتٍ واهنٍ تجيبين:
– أنا…أنا…
– من هو أقرب إلى روحي من الآخر…أنتِ أم أنتِ؟
– أنا…أنا…
– من هو أحبُّ إلى قلبي من الآخر…أنتِ أم أنتِ؟
– أنا…أنا..
ونصمتُ معًا. كان صمتنا دامعًا.
أكسره قائلاً:
– لماذا صديقك غاضبٌ منّي…؟
– لأنّ قلبكَ يرفضُ أن يراه كما يراهُ قلبي.
– أنا أراهُ أيضًا يا وردتي…أنا أراه…
– بابا…قلت لي من يكذب يذهب إلى النّار…
– أنا لا أكذب يا وردتي…أنا أراهُ بقلبي…نعم أنا أراه بقلبي…ولكنّي أرفضُ أن يأخذك منّي…
– هو لن يأخذني منك…سيأتي من أجلك أيضا…سنكون معا بابا…أنا وأنت والماما…سنكونُ معًا…
تقتلني الآن ابتسامتك التي سرعان ما يبتلعها الغياب…
* * *
كلّ ليلة…
مثل لحن حزين لا يتغيّر كالموت، أجلسُ قرب سريرك وأفكّر فيك.
لقد كان الخوفُ يسكنُ روحي. الخوف من صديقك الذّي زار أمّك وهي تضعكِ، في ليلة شتوية، عوى فيها الموت في شراييني. أعترف أني، يا وردتي، لم أكن أحبّه. ليلتها وصرخاتك الأولى تشقّ الحياة، ترسّب في أعماقي غضبٌ مبهم. بكيت، صرخت، كسّرت ما طالته يدي، وانهرتُ كبناية عظيمة. كنت كومة صغيرة من اللحم وأنا كنت كومة كبيرة من الأتربة التي انهالت على إيماني فطمرته. لمّا بدأت في التجذيف، اقتربت منّي الممرضة، ووضعتكِ بين ذراعي. لحظتها، ماءٌ باردٌ أطفأ الجمرة، وشفتي تلثمان جبينك. لحظتها، رفعتُ قلبًا مترعًا بالدموع وقلتُ:
– ربِّ…احفظها لي…ولا تحرمني منها…
ولكن، في أبعد نقطة في روحي، ظلّ الخوفُ من صديقك يسكنُ قلبي.
* * *
كلّ ليلة…
مثل لحن حزين لا يتغيّر كالموت، أجلسُ قرب سريرك وأفكّر فيك.
وحدي الآن، أواجهُ ليلتنا الأخيرة معًا. كان جسدك الصغير ينتفضُ في قوّة وأنا…أنا…يا وردتي كنتُ عاجزًا…أخذتُ وجهك بين يديّ صارخًا فيك:
– لا تتركي بابا الآن…لا تتركيني يا وردتي…
نزّت دموعي الساخنة على شفتيك اللتين انفرجتا عن ابتسامة زرقاء شاحبة…
– بابا… من هو أجملُ من الآخر…أنتَ أم أنتَ؟
أجبتكِ ملتاعًا:
– أنا…أنا…
– من هو أقرب إلى روحي من الآخر…أنتَ أم أنتَ؟
– أنا…أنا…
– من هو أحبُّ إلى قلبي من الآخر…أنتَ أم أنتَ؟
– أنا…أنا..
وقبل أن تغمضي عينيك…قلتِ:
– صديقي…يقولُ لك…لا تحزنْ…سنلتقي قريبًا بابا…
ونمتِ…مرّة واحدة وإلى الأبد.
صرختُ فيه:
– خذني أنا واتركها…خذني أنا….
ولكن الصمتَ ضربَ غرفتكِ…وضرب قلبي…
* * *
كلّ ليلة…
مثل لحن حزين لا يتغيّر كالموت، أجلسُ قرب سريرك وأفكّر فيك وفيه.
كلّ ليلة…أنتظرُ صديقك يا وردتي… !
___________
من مجموعة حكايات نيئة الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي لسنة 2016 (المركز الثالث).