سعاد محمد: حلاوة البساطة


*نصير شمه

صوت متكامل فنياً، معبر، يجمع التطريب إلى الإحساس بطريقة لينة وقوية في آن واحد. هي سعاد محمد النجمة التي توفيت سنة 2011 وسط غمرة أحداث كبيرة في مصر وتونس وفي بقاع كثيرة من العالم العربي.
رحلت سعاد محمد تاركة إرثا موسيقيا مهما ربما غاب عن إسماع الكثيرين من شباب جيل اليوم، وأذكر انها وقبل وفاتها بسنة تقريبا كانت تقف على مسرح دار الأوبرا المصرية ليكرمها مهرجان الموسيقى العربية الذي كان قد أسسه الدكتور محمود الحفني عام 1932 وأنقطع لعقود لتستأنفه وترأسه لسنوات طويلة أبنته الفنانة الكبيرة الراحلة دكتورة رتيبة الحفني لغاية رحيلها قبل أقل من عامين، يومها كرمها المهرجان وغنت بالمناسبة.
وقفت سعاد محمد على المسرح كطفلة كبيرة توسعته واستدارت إلى الفرقة الموسيقية مرارا بخبرة طويلة وفي الوقت نفسه كهاوية واثقة تقف على خشبته لأول مرة. وأذكر يومها ان في الاستراحة التي كانت تفصل بين تكريمها وما جاء بعده ان كثيرين كانوا يتساءلون عن غيابها الفادح بالرغم من انها ما تزال حيّة وبالرغم من ان صوتها ما زال محتفظاً بجماله ودقة أبعاده وقوته وان أداءها ما زال ناصعا ويطرب. يومها كان الكثيرون يتساءلون عن سبب ابتعادها وغيابها بالرغم من ان الساحة الفنية بدأت بإنتاج أغنياتها نفسها بأصوات جديدة ومثالنا على هذا أغنية «وحشتني» التي سمعناها في السنوات الأخيرة بصوت أكثر من فنان وفنانة.
ربما ان مهرجانا كمهرجان الموسيقى العربية تكمن بعض أهميته في استحضار المنسي، ولا أعني المنسي تماما، فالمهتم عادة لا تغيب عنه هذه الأصوات، ولكن الجيل الجديد وعجلة الحياة وظهور أساليب الغناء المتعددة والفيديو كليب، كلها أمور جعلت من لا يواكبها ذكريات قديمة، ولم يبق من جيل الكبيرة سعاد محمد ومن سبقها إلا من استطاع ان يواكب المتغيرات ويدخل في عجلة التكنولوجيا الجديدة التي واكبت الأغنية.
الكبيرة سعاد محمد لم تفعل، توارت خلف صوتها، وتركت لنا إرثا غنائيا مهما لا نزال ننهل منه كما سيفعل من سيأتي من بعدنا، لكنها هي بشخصها اختفت من المشهد الفني الذي يستطيع ابتلاع كل من لا يسعى طيلة الوقت للتواجد في كادره. هكذا غابت جسدا وصورة عن الحضور، ولكنها لم تغب عند محبيها وهم كثر.
غنت سعاد محمد عددا كبيرا من الأغنيات التي تنوعت مضامينها الإنسانية والعاطفية والوطنية والدينية أيضا. حينما غنت دور «أنا هويت وأنتهيت» لسيد درويش و»غنيلي شوية شوية» كأنما كانت تضع غيابها اللاحق كله في صوتها، وتطالبنا نحن الذين نحبها بمناداتها كي تغني لنا «شوية شوية».
يوم رأيتها واقفة على خشبة المسرح كنت أحاول بسرعة ان التقط كل الأشياء التي تلف حضورها، جسدها النحيل وقامتها وطريقة وقفتها وحركة يديها بل وحتى أصابعها والتفاتاتها، كنت أرى وأسمع بعض ما تمنيت ان أراه وأسمعه بحضورها الشخصي.
كانت تستلم تكريمها بفرح كبير، وكنت في داخلي وانا أجلس مراقبا لها ابني مونولوجا داخليا من حوار بيني وبينها، لماذا غبت «يا ست» ؟ ولم أجد تفسيرا لغيابها، ولم تقنعني إجاباتها التي سمعتها منها في المونولوج الداخلي، فلا شيء يسمح لصوت ظهر في عصر العمالقة ان يغيب هذا الغياب الفادح.
استمع مرارا إلى «هو صحيح الهوا غلاب» واستمع إلى أدوار عديدة غنتها الراحلة الكبيرة وأتأكد في كل مرة ان هذا الغياب ما كان يجب ان يكون، فمن ينسى الأدوار التي أطربتنا بها والأغنيات التي عاشت معنا؟
جاءت سعاد محمد من لبنان لأم لبنانية وأب كما يقال من أصول مصرية، وقد تزوجت في بداية حياتها من مكتشفها وهو صحافي لبناني أنجبت منه عدة أولاد وبنات كان من بينهم ابنتها نهاد فتوح التي سرعان ما شقت طريقها سريعا في عالم التطريب. فقد ظهرت مطربة متمكنة وواثقة تربت في بيت فني عريق وتتلمذت على صوت سعاد محمد، لكن الغريب أيضا ان نهاد فتوح التي لمع نجمها سريعا، عاودت سيرة ومسيرة الكبيرة الراحلة كأنما تمشي على خطاها واختفت هي الأخرى كما اختفت والدتها من قبلها وبالكاد نلمح لها ظهورا في أي مكان له علاقة بالساحات الفنية.
بداية سعاد محمد لم تكن عادية، فقد انطلقت من دمشق ومن إذاعتها تحديدا ومنها توجهت إلى حلب حيث أقامت عدة حفلات، وكانت حلب تُعرف في ذلك الحين بأنها مدينة الطرب ومن لا يعترف به أَهلها فنيا فلا مكان له على الساحة الفنية. وفي حلب توجها الجمهور كأجمل صوت نسائي، ومن هناك انطلقت نحو مصر لتبدأ حياتها الفنية بطلة لفيلم «فتاة من فلسطين» ولتصبح فيما بعد نجمة كبيرة ومضيئة في عالم الفن.
خلال السنوات التي غنت بها سعاد محمد قدمت للمكتبة الموسيقية الكثير من الأغنيات والموشحات والأدوار وانتزعت الآهات من جمهورها في كل الوطن العربي، كانت تغني بسلاسة وبلا تعب، تغني لساعات طويلة دون تعب، وتطرب لساعات طويلة أيضا من دون ملل.
رحلت سعاد محمد في غمرة أحداث كبيرة، وربما لهذا لم يستوقف رحيلها الكثيرين، وربما لان غيابها الكبير كان قد سبق رحيلها، غير ان بصماتها وصوتها وأغنياتها كلها ما زالت حاضرة بيننا تذكرنا بزمن الفن الجميل، ولا بد لذاكرة الأذن ان تستحضر صوتها مرارا، فهي من عصر الكبار واستطاعت ان تحفر لنفسها في ذلك العصر مكانة خاصة بها.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *