*يوسف القعيد
كان من المفروض أن تسافر سعاد حسني في اليوم التالي للندن لتبدأ العلاج هناك. في الليلة السابقة على السفر دعتني صديقتي شمس الأتربي. وهي صاحبة أعمال مصرية تهتم كثيراً جداً بالثقافة والأدب والفنون. لتناول السحور في بيتها بالمهندسين. كنا في رمضان. وكنت أمر بحالة من الكسل ثم إن الانتقال من مدينة نصر حيث أسكن إلى المهندسين حيث كانت تسكن شمس. رحلة ربما كان أسهل منها السفر من القاهرة إلى الإسكندرية.
ما إن سمعت منها أن ضيفة جديدة ستكون معنا. ثم قالت اسمها: سعاد حسني. حتى حسم الأمر بداخلي. فسحور رمضاني مع سعاد حسنى مسألة لا تعوض حتى وإن كان الانتقال من القاهرة إلى بلاد واق الواق التي عرفنا فيما بعد أنها اليابان التي نعجب بها في هذه الأيام.
دخلت علينا سعاد حسني عند انتصاف الليل. كانت ترتدي ترنج سوت رياضي. وكانت قد أصابتها بدانة لاحظتها بسرعة. أيضاً ما إن اقتربت مني مصافحة حتى لاحظت أن عصباً في خدها الأيمن يتحرك بشكل تلقائي. وكانت تمد يدها كلما تحرك. ربما لتداريه عنا ولا تمكننا من رؤيته. أو قد تتوهم أنها تمنعه من الحركة بمحاولة وضع يدها على هذا الخد.
لم يكن فيها من سعاد حسني التي أخذت أعيننا ووجداننا إلى الأعالي سوى طلتها فقط. كانت إنسانة أخرى. عندما صافحتها لم أجد ما أقوله لها سوى:
– أنتِ جزء من أحلامنا المجهضة. أنتِ الجزء الجميل من أيامنا الجميلة التي ولَّت ولن تعود.
سحبت يدها من يدي وقالت بيأسٍ لا حدود له:
– بطلوا الكلام الكبير دا. هو ودَّانا في داهية غيره؟.
جلست. كنت أشربها بنظراتي. هل هذه سعاد حسني التي والتي والتي والتي؟! قلت لنفسى لا بد أن أعذرها فهي مريضة لا تعمل منذ سنوات. ومسافرة للعلاج في عاصمة الضباب لندن. التي لم يعد منها أحد سافر إليها من أجل العلاج أبداً. ومع هذا فيها ندَّاهة تنادي على المرضى حتى يفعلوا الممكن والمستحيل للعلاج فيها.
لم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها سعاد حسني. سبق أن رأيتها في المركز الثقافي السوفييتي – الروسي الآن – في حفلٍ أقيم لعرض خاص لفيلم يوسف شاهين: الناس والنيل. وهو فيلم يقف في منتصف المسافة بين العمل التسجيل والعمل الروائي. وفيه الكثير من الجنون الفني ليوسف شاهين.
يومها صعدت سعاد حسني على المسرح. وألقت كلمة عن المناسبة. ثم ختمت كلمتها السريعة والتي تعثرت خلال إلقائها أكثر من مرة بأن هتفت بحياة الصداقة المصرية السوفييتية. وأن تبقى هذه الصداقة من الآن وإلى الأبد.
كانت صدمتي الأولى أنها لم تكن طويلة. وأن طلتها التي تطلها علينا من السينما خلال أفلامها البديعة لم تكن موجودة. ربما لأن الإضاءة يومها كانت تأتي من خلفها. وكانت تقوم بعمل لم تتعوده وهو إلقاء خطبة قبل عرض خاص لفيلم. والناس كلها جاءت لمشاهدة العرض وليس الاستماع لسعاد حسني. كما أنها لم تكن قد شاهدت الفيلم حتى تتحدث عنه. وانصرف كلامها ليوسف شاهين الذي أخرج أفلاماً لعبت بطولتها. كان أهمها فيلم: الاختيار.
بعد الكلمة وبعد مشاهدة الفيلم وقفنا على طريقة المصريين ندردش كلمة من هنا وكلمة من هناك. وتاهت سعاد حسني وسط الزحام. وقلت لنفسي يومها لأحتفظ لوجداني بسعاد حسني التي أشاهد أفلامها فتحدث لي حالة من الفرحة التي لا أعيشها إلا عندما أراها على الشاشة بطلَّتِها وجمالها وسحرها الذي لا يقاوم.
بعدها قرأت في العدد الأسبوعي من جريدة الجمهورية خبراً أنها ستقوم ببطولة فيلم عن روايتي: البيات الشتوي. وبعض البيانات عن هذا الفيلم. كان معي رقم تليفونها. ولم تكن الهواتف النقَّالة قد اخترعت بعد. انتظرت حتى انتصاف النهار. واتصلت بها على رقم منزلها. ردت عليَّ. أنا متأكد الآن أن من ردت كانت سعاد حسني. لكنها لسبب لا أعرفه ادعت أنها الشغالة. وأن ستها سعاد ليست موجودة بالبيت. وعندما تعود ستبلغها باتصالي. ثم تصنعت أنها تحضر ورقة وقلماً وتحاول كتابة اسمي. واستفهمت مني أكثر من مرة عن الاسم وطلبت مني نطقها ببطء لأنها تكتب ورائي.
تصورت لحظتها أنها لا تمثل أمام الكاميرا فقط. ولكن بسبب حبها للتمثيل فهي تمثل في البيت. وتمثل دور الشغالة. لأن لصوتها بحَّة من المستحيل أن تتكرر. وبحة صوتها لعبت دوراً في ارتباط الناس بها. وإقبالهم على مشاهدتها. واعتبارها من أفضل الممثلات المصريات بل والعربيات في القرن العشرين.
سافرت سعاد حسني إلى لندن ولم تعد منها سوى جثة هامدة في صندوق مغلق من صناديق الموتى. وما زالت وفاتها لغزاً. قيل إنها كانت تكتب مذكراتها. وبعض رجال النظام المصري ورجال بعض الأنظمة العربية انزعجوا من هذه المذكرات فقرروا التخلص منها. وأنا لم أصدق هذه الحكاية لأن قدرتها على الكتابة والقراءة كانت محدودة.
الأمر المؤكد أن سعاد خلال وجودها فى لندن عندما أصدر الدكتور عاطف عبيد رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت قراراً بوقف تحويل المبلغ المالى الذي كان يحوَّل لها حتى تستمر في العلاج لأنها استنفذت المدة القانونية لها. بدأت سعاد تبحث عن موارد مالية أخرى. ذهبت إلى هيئة الإذاعة البريطانية وعرضت عليهم أن تسجل لهم رباعيات صلاح جاهين بصوتها. وسجلتها فعلاً. وما زالت حبيسة أدراج هيئة الإذاعة البريطانية حتى الآن.
عندما اشترى نجيب محفوظ مقبرة هو وتوفيق صالح في مدينة الموتى الموجودة على طريق القاهرة – الفيوم. وذهبت معه مرة عندما كان يدفع أقساط بناء المقبرة. وكان حريصاً على أن يذهب في الأسبوع الأول من كل شهر. قال لي إن من جيران الآخرة بالنسبة له سعاد حسني وأحمد زكي. هكذا سمع من التربي. ولا يعرف مكان وجود مقبرتيهما.
وعندما ذهبنا ندفن نجيب محفوظ فى 30/8 سنة 2006 قيل إن سعاد حسني وأحمد زكي كانا في استقباله. وتحول هذا الكلام لمانشيتات في الصحف المصرية. للعلم فقط ولدت سعاد حسني في 29 يناير 1943، وماتت فى 21 يونيو سنة 2001، أي أنها كانت في الثامنة والخمسين من عمرها عندما توفيت.
_______
*جريدة عُمان