*محمد العباس
يقال إن تحليل المتعة والجمال يدمرها، وربما كان هذا هو هدف المقالة الشهيرة للباحثة في نظرية الأفلام لورا ملفي Laura Mulvey (اللذة البصرية وسينما السرد) Visual Pleasure and Narrative Cinema، حيث يمكن التاريخ للنسوية السينمائية به، فهو بمثابة المانفيستو لحركة النقد النسوي لصناعة السينما، ولأنها ضد فكرة التسليم والاستئناس بالمكرّس، أقامت ما تسميه بالمتعة المحلّلة فكرياً، قبالة فكرة التلذذ البصري، لتفكيك سطوة الرجل الممتدة من خارج الفيلم إلى سياقات وآليات إنتاجه، حيث أوكلت لنفسها مهمة فضح الوظائف الأيديولوجية للأفلام في مراحل تاريخية، وفي ممارسات ثقافية متباينة.
بكشاف فرويدي لاكاني صارت تحلّل اللاوعي المدّبر أو ما تصطلح عليه بالتحديقة الذكورية The Male Gaze. فهي لا تحاكم النظرة التقليدية العابرة، بل تتوقف عند النظرة المركزة التي تتحول إلى بحلقة أو ما فردته على طاولة التشريح النقدي تحت عنوان نظرة التلذذ التلصصي، المنطوية في جوهرها على مخيال ذكوري، حيث تنبني تلك التحديقة على ثلاثة أبعاد ذكورية، قاسمها المشترك هو الرجل، الرجل كصانع للفيلم، والرجل كبطل داخل الفيلم، والرجل كمشاهد، لأن الفيلم بمقتضى ذلك الضرب من التحليل حادثة نسقية ثقافية، وعلى اعتبار أن النسق ذاته عنصر مركزي، وهذا هو جوهر نظريتها النقدية النسوية Feminist Criticism التي اعتمدتها في مجمل مقارباتها.
الثالوث الأبوي
مقالها الأشهر هو منصة انطلاقها لقراءة تاريخ السينما، وعرض منظومة من الأفلام من ذات المنطلق، وهو الذي دفعها لأن تتحول إلى منظّرة في هذا الحقل، كما في بحثها التأصيلي (المتعة البصرية ومتع أخرى) Visual and Other Pleasure، الذي فككت فيه ثالوث النظام الأبوي. فباعتقادها تتأسس هيمنة الرجل في مجمل مظاهرها على صورة المرأة المخصية، وهو المبدأ الذي يتم ترحيله إلى السينما، على اعتبار أنها نظام متقدِّم. وبمقتضى منظومة من الأساليب المدروسة يُنشئ اللاوعي، المشكّل أصلاً وفق نظام الهيمنة، طرائق الرؤية والمتعة والنظر. فالمضمر في خطاب الأفلام له القدرة على نسخ المعلن، وهذه هي سمة من سمات النسق القائم على المخاتلة واستثمار الجمالي والمجازي لتمرير مضمراته التي لا يمكن كشفها إلا بالقراءة الفاحصة،
وهكذا تتحول المرأة المعروضة أو بمعنى أدق، تعمل داخل الفيلم على مستويين: مستوى الإثارة الجنسية للبطل الفاعل داخل الشاشة، وكشيء مثير جنسياً للمشاهدين في صالة العرض، حيث يتم توحيد النظرتين نحو المرأة باعتبارها مادة خام، سلبية في حضورها، مقابل نظرة رجولية إيجابية بالضرورة، كاستكمال أيدلوجي فني لنظام الهيمنة الأبوي، بمعنى أن المشاهد امتداد عضوي للرجل داخل الفيلم، وهو في الموقع الذي تفترضه صناعة الفيلم، أي في محل تصعيد الإباحية وتركيزها داخل ذلك النظام، وتأكيد موقع الذكر المتلصّص.
السرد البصري على الشاشة، بهذا المعنى، هو حالة من التلصص، فهو، بتصورها، يهب المشاهد وهماً بأنه يقوم بزيارة قصيرة إلى عالم خاص، حيث ينشأ التلذذ البصري من المتعة في استخدام الشخص الآخر، أي المرأة، كعينة للإثارة الجنسية من خلال المشاهدة، ومن خلال وهم الاندماج مع الصورة المرئية، حيث تتحقق الإشباعات الجنسية عند المهووسين الذين يصنعهم الخطاب السينمائي الإمتاعي، من المشاهدة. وبالتحديد من تشييئ المرأة والإحساس بالسيطرة عليها عبر التحديق، وهي مسألة تتعارض مع مفهوم الفيلم المساواتي، وتكرس الصور النمطية Stereotypes التي تتوطّن في الأذهان بموجب التكرار وكثرة الطرق على النمذجة السلبية.
تشييء المرأة
إن تاريخ العدسة السينمائية ذكوري بامتياز، وذلك من خلال التوظيف البارع والمبسط والمباشر للمتعة البصرية، فهي منذورة لتشييء المرأة، والتحديق في جسدها، واستعراض مفاتنها، إذ تستجيب التقنيات السينمائية بكفاءة عالية ومكر مدّبر لجهاز الرجل المفاهيمي، الذي يحاول حبسها في قوالب إغوائية، وتأملها كمتعة بصرية، وبموجب هذا التقعيد، رسمت لورا ملفي مسار الرؤية ضمن ما تسميه بشكل اتهامي مرضي شبق النظر ScopoPhilia.
وبموجب ذلك المنطلق النسوي، أرادت جنسنة المشاهد، على إيقاع ظهور فكرة النوع في السينما، كمحايثة لما تم طرحه وتداوله في التاريخ الأدبي، حيث استعرضت في دراساتها مجموعة من الأفلام المصنوعة بذهنية وأدوات ومشاعر الرجل، لتكشف عن قيم التحيز الصريحة والمستبطنة في الأفلام ضد النساء، فيما يبدو حالة من الالتقاء أو التأسيس مع تيارات جديدة ظهرت ملامحها عند سيمون دوبفوار، وهي تحاكم السينما كأداة اضطهاد سياسي للمرأة.
المرأة على الشاشة، بتصورها كنسوية، لا تنقل الواقع بقدر ما تعكس نظرة الرجل، وهو أداء سلطوي يقوم به لاوعي المجتمع الأبوي ببناء شكل الفيلم، وهو المكمن الذي يكشفه التحليل النفسي كسلاح سياسي، لفحص الآلية والكيفية التي يتم بها تعزيز التشويق وتشييد بُنى السحر التي تسمح بفقدان مؤقت للأنا قبالة الشاشة، حيث تميل إلى وجود نظرة أحادية لصالح الرجل في صناعة السينما، مبنية على كذبة دونية المرأة في المجتمعات الغربية، كما ترى من خلال دراستها أن المرأة في السينما تراوح ما بين المرأة العادية والاستثنائية، مع ميل صريح إلى أن سمة المرأة العادية الخاضعة للرجل هي الأكثر، بما يؤكد خرافة الكمال الذكوري والنقصان الأنثوي.
قراءة بعين نسوية
وكما حاولت الحركة النسوية قراءة تاريخ الحيف الذكوري في الأدب، واقتراح الصورة التي ينبغي أن تكون عليها المرأة داخل النص الأدبي، توجهت كناقدة نسوية سينمائية إلى المكامن ذاتها فيما يتعلق بالصورة، بدءاً من مطالعة جداريات التعري المزدحمة بالنساء، وتحديداً من خلال حركة النقد السينمائي، لفضح مضمرات الخطاب الذكوري الراسب في البُنى العميقة للأفلام، لتؤسس لمراجعات نقدية نسوية المنزع في هذا الحقل، فيما بات عنواناً لحركة تحرير سينمائي للمرأة، لتعديل ذلك اللاتوازن الجنسي السينمائي الذي قسّم متعة النظر إلى إيجابية ذكورية خيالية وسلبية أنثوية استعراضية.
وهكذا تمكنت من دفع قضية الجنوسة إلى قلب الصناعة السينمائية، وأخذت نظرية المشاهد منحاها الجدلي، وذلك بتوسيع قاعدة الاتهام لتاريخ سينمائي طويل، طالما لعب على مستويات اللاوعي، لتوطين منظومة من الصور النمطية عن المرأة، كما تحلقت معظم السجالات حول مفهوم الجندر المعروض على الشاشات بوعي ذكوري، كما باتت الأفلام عُرضة لاتهامات أيدلوجية، لأن النص السينمائي المسرود بصرياً لا يخلو من المعاني المقصود استزراعها في المشاهد، بمعنى أنها تصدت بمنهجية وووعي للوهم الذي طورته السينما ليعادل فكرة الحقيقة حول النساء.
إن التلذذ بالتلصص جزء من المتعة الفيلمية التقليدية. والسينما بشكل عام تُشبع رغبات وغرائز بدائية للمشاهد بما تجلبه من متعة عبر الشكل. ولذلك موضعت المشاهد بهذا المعنى النسوي في مقام الذات الفضولية الراغبة في الاستمتاع، أي التماس الحسّي بين ما تمثله المرأة المعروضة وما تثيره، حيث يبدو الفيلم وكأنه قد تم إعداده لاستدرار كل خزين الصور المعبأة في أفق توقع المشاهد عن المرأة.
الفيلم في جوهره فرضية ذكورية يتم إثباتها من خلال تخليق تلك المتوالية من التصورات وتعميقها في الوجدان التي تستولد بدورها سيلاً من التخيلات الفيتشية، واستفزاز حس التلصُّص الذي يراه فرويد معزولاً كغريزة عن الإثارة الجنسية ذاتها، فيما يربط فعل التلذذ بفكرة تحويل الآخرين إلى أشياء يمكن السيطرة عليهم من خلال تلك التحديقة الغريبة، وهو أمر لا يمكن التسليم به تماماً لا عند الباحثين ولا الممثلات أيضاً، لأن البُعد الهوياتي في هذا النمط الأحادي من المشاهدة، يلغي وجود المرأة أو يضعها في صورة المشاهد الخامل.
مستويات التلقي
لا يخضع الفيلم لآلية واحدة أو أحادية من آليات التلقي، فهناك تفاوت في المشاهدة بموجب مستويات الطبقة، والثقافة، والنوع، والجندر، والجيل، والعقيدة. وهي مستويات تقرها النسوية ولا تعاندها لورا ملفي، بمنطق اعترافها بالسينما كنظام تمثلات، حيث أدى تطور السينما إلى ظهور سينما متطرفة بالمعنى السياسي الذي تقع المرأة داخل اهتماماته واشتغالاته، كما أدى إلى بروز النظرية المساواتية. التركيب المشهدي للفيلم بمعانيه الجمالية لا يتأسس دائماً على مخاطبة الحواس بلذة شبقية مصمّمة بمزاج الرجل. وما تلعبه صورة المرأة في الفيلم لا يمكن ضغطه في خانة الإغواء المدبر، بل هو جزء من السرد الحكائي للفيلم، وهو الأمر الذي جعلها تميل إلى أن حضور المرأة المرئي البصري يعمل أحياناً ضد تدفق الحبكة، بدل أن يلتحم عضوياً بمستلزمات السياق المشهدي، وبالتالي تتسبب بشيء من الشرود الذهني. إن إبطاء الحركة عند مرور المرأة في الفيلم، هي دعوة لتأملها بنظرة متأنية وفاحصة، وهذا عرض إغوائي لا جدال فيه، خصوصاً أن العدسة لا تكتفي بالمرور العابر لكليانية الجسد الأنثوي، بل تتوغل في التفاصيل، وهذه هي النظرة التي قصدتها مالفي بالتحديد، إذ لا خلاف على النظرات العابرة، وهنا مكمن القراءة المتسائلة، فالعدسة الفائضة بالذكورية تفترض أن المشاهد رجل، وأن الفيلم بصدد عرض بضاعة قبالة شبق العين: تضاريس جسد مارلين مونرو، ساق مادلين ديتريش، ووجه غريتا غاربو وهكذا…
عرض إغوائي
إن إبطاء الحركة عند مرور المرأة في الفيلم، دعوة لتأملها بنظرة متأنية وفاحصة، وهذا عرض إغوائي لا جدال فيه، خصوصاً أن العدسة لا تكتفي بالمرور العابر لكليانية الجسد الأنثوي، بل تتوغل في التفاصيل. وهذه هي النظرة التي قصدتها مالفي بالتحديد، إذ لا خلاف على النظرات العابرة. وهنا مكمن القراءة المتسائلة، فالعدسة الفائضة بالذكورية تفترض أن المشاهد رجل، وأن الفيلم بصدد عرض بضاعة قبالة شبق العين: تضاريس جسد مارلين مونرو، ساق مادلين ديتريش، ووجه غاريتا غاربو وهكذا.
__________
*الاتحاد الثقافي