حلاوة شعر بنات


*علي السوداني

ثمة عجوزان قدّامي. أقصد في الشرفة التي تومض بمواجهتي. ليست منهما من تشبه جدّتي. جدتي كانت وصلة من سواد مكسور ببياض وجهٍ ووسامة فائتة. أحتاج لرسمهما ثلاثمئة كلمة أو ما حولها بقليل. علاقتي بالمنظر عمرها شهران وكمشة أيام. الانطباع الابتدائي هو أنّ العجوزين توأمان.

ربما كان الأحسن أن تريح الهمزة البائدة عجيزتها فوق كرسيّ. الأمر ليس بمهمّ. طول العجوز الأولى مثل طول العجوز الثانية، لكنّ حدبة قليلةً انفلتت من ظهر ذات الشعر الشائب، جعلتها تبدو أقصر من أخيّتها أُمّ الشعر الحنّيّ. طولاهما أعادني إلى طول سهيل سامي نادر. ربما ستار كاووش. قد تكون الثانية بطول جواد الأسدي.
أزيد الظنّ هو أنّ قامة الأولى مثل قامة موسى كريدي وهو يعتلي قندرة أُم كعب عالٍ. قد يرى واحدٌ منكم أنّني أقوم الآن على بعض إدرار سخيف وإفراط مملّ وحشوٍ في التوصيف. هذا حكمٌ عاسفٌ وأنا أبتغي الدقّة فقط.
طقس العصرية يكاد يُنتجُ نفسه تماماً. عينايَ تأكل من المرأى، وجه العجوزين ودلّة قهوة وفنجانين صغيرين مثل مفتتح فوران صدر صبية. مشهد العجوزين الوحيدتين لا يخلو من رحمة وراحة، لكن ما شيّبَ قلبي هو تلك الطريقة المزعجة التي ترتشف فيها العجوزان قهوتهما. لقد بدا الأمر جدُّ بطيء، وسيتكامل منظر النفور، إذ تدحس كلّ واحدة منهنّ، قطعة شوكولاتة بفمها المزموم كما بقايا حبلٍ سريّ. اجتهدتُ في تأويل المنظر الرحمانيّ فارتحتُ وهدأت روحي اللائبة على هذه الثنائيات المدهشة.
عجوزان تنامان على خاصرة السبعين. سندانتان بشتلتي قرنفل وياسمين. كرسيّان يتكئان على جدار المصادفة. ابتسامتان منطفئتان. قنديلان نائمان فوق كتفي الباب. إبنان بارّان يتناوبان على تقبيل وجنة الأولى ويد الثانية. لوحتان صغيرتان مصلوبتان ببطن الشرفة. طفلٌ أشهبَ مرَّ بحلق الزقاق منادياً على بضاعة. الطفل بائع حلاوة شعر بنات، قد يكون من سبايا الشام الحلوة. انرسمتْ اللحظة ابتسامة واضحة على وجه العجوزين. أُنصتُ الآن إلى طقطوقةٍ عبّاسية بعيدة:
” شَعَر بناتْ، وين أولّي وين أباتْ، أبات بالدربونة، تاكلني البزّونة، أبات بالمحطة، تبكي عليَّ البطة”
الابتسامة تعرضْ. العجوزان تتمايلان على أول الأيام. الطفل الأشهب يموسق حلاوة البنات. العجوز الحدباء تنبش محفظتها من دون جدوى. أهبطُ مثل قطّ متعجل على نغمة شباط. أشتري من الولد الأشهب ثلاث عصيّات ، وأعود إلى تزخيخ أغنيتي العتيقة.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *