إسماعيل الموساوي*
خاص ( ثقافات )
رجع الفتى الوسيم صادق القول والفعل، وبريء المشاعر وكل أحاسيس الحب، في حيرة من أمره، وكله قلق وغضب على الأيام الخوالي، فكر جيداً، فلم يجد من يشاركه في حيرته وقلقه أحسن من شيخه الصوفي الحكيم، ذاك الذي كان قد بلغ من الكبر عتيا، والذي اعتاد أن يصارحه ويحكي له كل شيء حدث له في حياته، بل حتى الأمنيات، وكل ما ينتظره في المستقبل. قصد الفتى الشيخ الصوفي الحكيم الذي عُرف بحبه الشديد له، وقلبه مغموم مهموم، من جراء ما حدث له، وقف أمام الشيخ الحكيم ودموعه تنهمر، رأى الشيخ حال الفتى وإن كان لا يعرف جيداً دلالته وأحواله، ولكنه ابتسم وكأن قلبه على اطلاع بقلب الفتى قائلاً: يا فتى يا من ضاقت بك الحيلُ، ابحث عن حبيب صادق صدوق يرعاك ويخاف عليك، إذا غبت يحفظك، وإذا حَظرت يسعدك، وفي شوقك له فناء في حبك، وإياك من حب مسموم، وعشق مغدور، وصدق مزعوم، وأمل مكذوب، فإن كنت يا فتى من ضحايا الضرب الثاني من الحب، فنصيحتي بأن ترجع إلى نفسك، وأن تعثر على الجمال المبثوث في ثنايا قلبك، ففيه سر حبك، وسر حبيبك المنتظر، وأملك الذي كلما وضعت فيه ثقتك وصلته… ولهذا أدعوك بالعودة وبكل أريحية إلى الحب الصادق المبثوث في ثنايا قلبك، فإذا أدركته جيداً ستجد نفسك في جميع الأحوال أنك أنت المفلح..
تفاجأ الفتى بنقاء وخفة لفظ الشيخ الحكيم، من خلال صَبَاحة وجهه، وصِدق حدسه، وصواب رأيه، وصفاء حبه له، وصِدق قوله لفظاً ومَعْنى، لقد وضع الأصبع عن سيلان الجرح في اعتقاده، وربما قد اعتقد بأنه قد قضي الأمر الذي فيه يستفتيان، وظن الشيخ الحكيم بأنه قد وجد الوصفة السحرية لإنقاذ الفتى من داء “ضلال الحب”، و”تيه العشق”، إلا أن ما بالفتى من داءٍ أعمق من دواء الشيخ الحكيم، مما جعله يضيف قولاً لا يقل أهمية مما قاله الشيخ الحكيم: قال وبكل أريحية:
أدرك بقلبي كل ما لا يستطيع العقل إدراكه، ولا يزال قلبي يدرك حتى إذا استعصى عليه الأمر، زالت صعوبته باستشارة العقل. المهم هو كوني أدرك في جميع الحالات حتى وإن كانت تجاربي في الإدراك خاطئة، فإنني مصر على أنني أدرك بالقلب ما لا أدركه بالعقل، وأدرك بالعقل ما لا أدركه بالقلب، فالحب يا سيدي قيمة لا نهاية لها، فالحب يجمع ويؤلف، وليست له معايير للجمع والتأليف، فهو يتجاوز “الحس” الذي هو قرين المتعة، حتى إذا زالت المتعة انعدم معها الحب، فالحب براء من رأي كل الحسيين. فالحب روح اتخذت من المحسوس والمتعة ما يتمم جمالها، وفقدان المحسوس والمتعة لا يؤثر على الروح في شيء، فالحب عمق، يحتاج إلى السطح لكي ينجلي، وغياب السطح لا يعني غياب العمق، وعلى هذا الأساس، فكل شيء إذا غيبنا العمق فيه صار شيئاً هزلياً لا أقل ولا أكثر..
قول الفتى غاية في الحكمة، فلقد أثار فضول الشيخ الحكيم، مما جعله يتدخل مجدداً، وبكل هدوء وثقة في النفس قائلاً: اسمع يا فتى يا من ضاقت بك الدنيا بما رحبت، إننا: نعيش في عالم واحد وليس في عوالم كثيرة، نعرف أشياء كثيرة وتغيب عنا بعضها لكن الزمان كفيل بفضح ما غاب وخفي مستقبلياً، قد تغرنا أنفسنا مثل غرور فرعون بنفسه أو أكثر، لكن الحقيقة غاية في ذاتها، قد تتأخر، لكن مجيئها يقلب طاولة غرورنا وتخميناتنا وجبروتنا، ولنا في حقيقة فرعون المثل الأعلى… وختم قوله هذا، بسؤال وجهه إلى الفتى الذي لا يخلو من الحكمة بدوره قائلاً:
ماذا نحب ونعشق، في نظرك؟؟
ابتسم الفتى قائلاً:
سأجيب من وجهة نظري..
نعشق الجمال الباطني، نعشق العمق والروح، إنه يبدو وكأنه تعريف غريب للحب، لكن هذا هو ما يضمن سيرورته وعدم توقفه في زمان، مَن عَشق المادة زال حبه بزوالها، أما من عشق السطح بقي طول حياته معذباً لكونه لم يدرك حقيقة الحب العميقة، أما من عشق الجمال الباطني، ظل في نعيمه يتمتع، فيصبح العذاب راحة، والذل عز لا مثيل له، والشوق سعادة، وعقد القران إذا تحقق تتويج، وبداية جديدة لتجربة حب بدأت تخرج من باطنها لكي تأخذ شكلاً واقعياً فتعود إلى حالها القديم، كل هذه الأمور تجعل منه حباً حركياً لا حباً سكونياً يتوقف مع تحقيق الغاية المنشودة….
تفاجأ الشيخ الحكيم بدوره من عمق ألفاظ الفتى، قائلاً: “إن الزمان بمثلك كان بخيلاً علينا”، لقد أدركت جوهر اختلافنا إنه اختلاف فكري، وما أبهاه اختلاف، وعموماً ستوحدنا “عقيدة الحب السمحة”…
* باحث في الفلسفة من المغرب، ومهتم بالموسيقى الروحية والصوفية