جورج طرابيشي..المفكر في حالة جدل دائم



ترجل المفكر السوري جورج طرابيشي عن قلمه، الذي خاض صحبته معارك الفكر والدفاع عن العقل، في وجه الجمود العقائدي، والتمترس الأعمى وراء الأفكار، مهما كان منبعها ومهما علا شأنها، محرضاً على البحث والتمحيص، وكد الذهن، في مواجهة العقلية العربية، ونزعتها إلى الدفاع والمنافحة والتبرير، واستثارة العاطفة بدلاً من العقل.
هكذا اختار طرابيشي المواجهة مع أصحاب الفكر الماضوي والتي لا يمكن أن تتم إلا من خلال كل منجزات الحداثة وفتوحاتها على صعيد العلم والفكر، وكذلك من خلال الرجوع إلى نفس المواقع التراثية التي يدّعون أنهم يتحصنون بها.
رحل جورج طرابيشي تاركاً خلفه رصيداً فكرياً كبيراً، تضمن عشرات المؤلفات ذات الطبيعة السجالية التي خاضت في الأسئلة الفكرية الأساسية التي شغلت الفكر العربي في القرن العشرين، إلى جانب ترجماته لأعمال أساسية في الفكر الغربي لأسماء من بينها هيغل وفرويد وسارتر وسيمون دي بوفوار وفاقت أعماله 200 كتاب، ناقش فيها أعلام الفلسفة والنقد الأدبي، أبرزها: «سارتر والماركسية» (1963)، و«الماركسية والإيديولوجيا» (1971)، و«المثقّفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي» (1991)، و«هرطقات» في جزأين؛ كان الأوّل (2006) «عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية» والثاني (2008) عن «العلمانية كإشكالية إسلامية إسلامية». تنقل طرابيشي خلال حياته بين المواقع الفكرية والإيديولوجية، القومية والثورية والوجودية والماركسية، وبعد تلك المسيرة الطويلة، انتهى طرابيشي مؤمناً بأن النقد الجذري هو الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عن المفكّر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر.
غير أن أبرز المشاريع الفكرية التي تصدى لها جورج طرابيشي، كانت من خلال عمله الموسوعي «نقد نقد العقل العربي»، حيث حاول طرابيشي عبر 20 عاماً هي عمر مشروعه، الرد على مشروع وموسوعة المفكر المغربي محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي»، من خلال إعادة قراءة التراث العربي وتوظيفه لاحقاً في معركة الحداثة في وجه دعاة الماضوية. وفي هذا الصدد يقول طرابيشي في أحد حواراته: لقد شاءت صروف الحياة أن أبدأ الكتابة في نقد مشروع الجابري عندما هاجرت إلى فرنسا، وهناك في الغربة والمهجر وجدت مع التراث ومن خلاله وطناً بديلاً. أضف إلى ذلك أن هذه العودة إلى التراث قد توافقت مع صعود موجة الأصولية التي تريد العودة بنا إلى قرون وسطى جديدة».
ويضيف عندما قرأت كتاب الجابري «تكوين العقل العربي»، سحرت به، وقد كتبت عنه في حينه في مجلة «الوحدة» أنه ليس كتاباً يثقف بل هو أيضاً كتاب يغيّر، فمن يقرأه لا يعود بعد قراءته كما كان قبل قراءته، وأعتقد أن هذا مديح كبير للجابري، ولكن هذا المديح نفسه هو ما جعلني أنتقل إلى موقع «نقد النقد» عندما اكتشفت، وربما من قبيل الصدفة البحتة، أن الجابري يصوغ إشكالياته، التي بدت لي في أول الأمر آسرة، انطلاقاً من شواهد مزيفة، بل انطلاقاً من شواهد يزيفها عن عمد لتخدم ما يصوغه من إشكاليات بحيث يجبر قارئه على أن يعطي لهذه الإشكاليات الأجوبة التي يريد له أن يعطيها إياها انطلاقاً من موقف إيديولوجي محدد ومسبق.
وفي حوار آخر قال طرابيشي تعليقاً على انطباعاته الأولى عن كتابات الجابري ثم استعداداته للجدال معه: «لم أعد أوجّه لومي إلى الجابري، بل إلى نفسي، لأنّني حكمت على كتاب في موضوع لم أكن أملك كلّ مفاتيحه المعرفية. وأقسمت بيني وبين نفسي أني بعد الآن لن أقول شيئاً أو أصدر حكماً بدون أن أكون مستوثقاً من كلّ المعلومات بصدده. وهكذا أخذت قراري بإعادة تربية نفسي، وإعادة تثقيف نفسي. وهكذا انكببت، أنا الذي درست اللغة العربية والتراث العربي جزئياً في الجامعة، انكباباً مرعباً على قراءة كتب التراث وعلى مطالعة عشرات وعشرات المراجع الّتي ذكرها الجابري والّتي رحت أدقق كلّ شاهد من شواهدها وأتحقّق من صحّتها في كلّ المجالات.
ولد طرابيشي في حلب عام 1939، حصل على إجازة في اللغة العربية وماجستير في التربية من جامعة دمشق، عمل في عدّة مؤسّسات إعلامية في بلاده وخارجها، منها مدير لإذاعة دمشق بين سنتي 1963 و1964، ورئيس تحرير لمجلّة «دراسات عربية» بين 1972 و1984. عمل طرابيشي أيضاً محرّراً رئيسياً في «مجلّة الوحدة» خلال إقامته في لبنان بين سنتي 1984 و1989، والذي رحل منه، غداة الحرب الأهلية، إلى باريس؛ حيث تفرّغ للتأليف والترجمة. 
____
*الخليج

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *