الكتابة العربية بتويتر: أغاريد أم تغريدات؟


*سعيد يقطين

عندما ظهرت الصحافة الورقية كتب فيها المثقف لينقل معرفة ويسهم في تنوير القارئ، وعندما تطورت الوسائط الجماهيرية مع الإذاعة والتلفزيون تراجع البعد التنويري ليحل محله الإمتاع، وبات نقل المعلومة أساسيا في العمل الذي يضطلع به الصحفي، مع الشبكات الاجتماعية الرقمية تبدلت الوظيفة والعامل والوسيط.
تعددت مواقع التواصل الاجتماعي، وصار لأي شخص أو جماعة إمكانية التفاعل معها، وبواسطتها، أو تأسيس موقع خاص تقدم فيه مجانا معلومات أو كتابات مختلفة، أو مواقف، أو صور بقصد التبادل والمشاركة، وبذلك صارت الشبكات الاجتماعية الرقمية فضاءات حقيقية للمعلومات والتواصل بصورة مختلفة عما كان في أي زمان سابق، كما باتت الوسائط الجماهيرية التقليدية توظفها -بدورها- للأغراض نفسها.

في الشبكات الاجتماعية الرقمية لا نتحدث عن كاتب وقارئ، ولكن عن صاحب حساب ومتابع، ويمكن للمتابع أن يكون صاحب حساب أيضا، لذلك يمكننا الحديث عن “الصاحب-المتابع” الذي يقوم في وقت واحد بتقديم تمثلاته الخاصة، ومتابعة تمثلات غيره في هذا الوسيط التفاعلي، فإلى أي حد ساهمت هذه الوسائط في خلق مجال تفاعلي حقيقي يسهم في تطوير العلاقات الاجتماعية الثقافية وتقريب وجهات النظر وفتح حوارات موضوعية حول مختلف القضايا التي تشغل الصاحب والمتابع؟
في ظل الانتشار الواسع لتويتر بدأ الكتاب يستغلون بدورهم في تقديم الأفكار والمعلومات، فما هو الدور الذي يلعبه تويتر في المشهد الثقافي الأجنبي والعربي؟ وهل صار فعلا فضاء للإبداع والتجديد يساهم في تقديم نوع “إبداعي” جديد نفضل تسميته “أغرودة”؟ أم أنه ظل فقط عبارة عن “تغريدات” خارج السرب نريد فرضها على المتابع بتسخير هذا الوسيط الجديد لـ”الغرد”، والمراد بهذا المصدر الذي جاء من “غرد” المجرد، يغرد: رفع الصوت بالغناء، فهل رفع الصوت يصاحبه التغريد دائما، أم أنه يمكن أن يظل بدون تطريب؟.

وسيط جديد
إذا انطلقنا من الفكرة التي تذهب إلى أن وسيطا جديدا للتواصل يؤدي بالضرورة إلى بروز أنواع إبداعية جديدة نجدها تنسحب بشكل كبير متى تحقق الوعي بأهمية هذا الوسيط الجديد، ولمناقشة هذه الفكرة نحاول التوقف على التجربتين الفرنسية والعربية للمقارنة من خلال اتخاذ الكتاب نموذجا للتواصل والتفاعل.

عند الفرنسيين تقاليد ثقافية عريقة، وللفرنسي كيفما كان مستواه وتحصيله علاقة وطيدة بالكتّاب، ومن بين أهم ما يغري القارئ الفرنسي لغة الكتابة، لذلك نجد أحد المواقع يرصد الكتاب المتابعين أكثر في تويتر، يصدر تقريره بقولة أراها تلخص موقف الفرنسي من الكتابة “قديما كانت أهم الأقوال المأثورة لكاتب ما تختفي وراء كتبه، أما اليوم فإن أهم هذه الأقوال صارت تتوارى خلف أغاريد تويتر”.

وفي ضوء هذه القولة يقدم الموقع حساب برنار بيفو صاحب البرنامج الشهير “أبوستروف” الذي يعنى باللغة الفرنسية وثقافتها، ويبين التقرير أن هذا الكاتب الأشد حرصا على نقاوة اللغة الفرنسية لم ير مانعا من اللعب بالفرنسية ليقدم أغاريده محافظا على صفاء اللغة ونقائها، مبدعا من خلال هذا “اللعب” نصوصا لا يمكنها سوى أن تستقطب اهتمام التابعين.

وفعلا عندما نتابع حسابه على تويتر يبدو لنا ذلك بجلاء، فهو ينطلق من كون “تويتر” شكلا، ومن خلال هذا الشكل يمكن تقديم أي محتوى بغض النظر عن نوع العلامة الموظفة، أو عدد العلامات المستعملة مع الحفاظ بطبيعة الحال على جمالية اللغة وقدرتها على التوصيل والتواصل الأنيق.

وحتى عندما يمارس الفكاهة أو السخرية فإنها تظل على مستوى إبداعي عال، ويواصل التقرير تقديم عينات أخرى من أحسن خمسة مواقع لكتاب فرنسيين يشتركون مع بيفو في تحقيق الخصائص التواصلية نفسها.

وبمتابعة تقارير أخرى في المجال نفسه نجد دائما الاحتكام إلى الإبداعية في تقديم “العقد” التغريدية المختلفة، والروابط المتعددة التي يمكن أن تتضمنها بعض تلك العقد، ولذلك نجد العديد من الكتاب يستفيدون من الخدمات التي يوفرها تويتر لتقديم إبداعاتهم، وللتعبير عن تصوراتهم الخاصة بخصوص القضايا المطروحة في الساحتين الثقافية والسياسية، أو إشراك المتابعين همومهم الثقافية والإبداعية.

ولذلك يعتبر تويتر من الوسائط المهمة التي تحقق الغايات التي رصد من أجلها، وهي التفاعل والمشاركة بين الكاتب وقرائه، سواء من خلال الكتاب الورقي أو الواقع الافتراضي، باعتباره امتدادا للواقع، ويكفي أن يتابع المرء حسابات بعض هؤلاء الكتاب ليجد نفسه منخرطا في فضاء ثقافي ينهض على أساس تقاليد عريقة في الحوار والإبداع والاختلاف بروح نقدية عالية.

عرب وفرنسيون
تبدو مقارنة حسابات الكتاب الفرنسيين بنظرائهم العرب على تويتر شبه مستحيلة، فالبون شاسع بين الطريقة التي يتواصلون بها ويتفاعلون وبين ما نعتمده في مجالنا العربي، فإلى جانب الإحجام الكبير للعديد من الكتاب العرب عن فتح حسابات في تويتر نتساءل: ما الذي يدفع كاتبا عربيا إلى فتح حساب؟ إن هذا السؤال جوهري لأن الجواب عنه هو ما يحدد العلاقة بالوسيط وكيفية فهم طبيعته ووظيفته.

ولعل أهم جواب يختزل -واقعيا- علاقتنا بالوسائط المتفاعلة بصفة عامة، وليس فقط الشبكات الاجتماعية الرقمية هو تقديم الذات للآخر، ومعنى ذلك بصريح العبارة هو: إثبات حضور الذات التي تعاني من التعبير عن نفسها في الواقع بالكيفية المُرضية والطبيعية، هذا الهاجس الأساس هو ما يحدد علاقتنا بهذا الوسيط، لذلك لا نتعامل معه بصفته وسيطا للإبداع وفق محدداته الخاصة، ولكن فقط أداة لإبلاغ هوياتنا وتمثلاتنا للأشياء والقضايا التي يزخر بها واقعنا.
إننا -بصفة عامة- لا نتخذ تويتر فضاء للإبداع، أي لتقديم نوع خطابي جديد نقدم من خلاله رؤانا للإبداع وخصوصياته المتلائمة مع هذا الوسيط الجديد، ولكن نسخره فقط للتعبير عن “أفكارنا” و”مواقفنا” التي لا نستطيع التعبير عنها في الوسائط الجماهيرية، أو في المنتديات والملتقيات.

ومن خلال متابعتي لبعض حسابات الكتاب العرب قد نجد أحيانا “أغرودات” بالمعنى الذي أعطيه لها، لأنها تبدو لنا محملة بالطاقة الإبداعية الجديدة، لكنها في الواقع حين نتأملها نجدها “تغريدات” هدفها الأساس هو “رفع الصوت” أولا، والتطريب قد يحصل أو لا يحصل حتى وإن كانت الصيغة المقدمة تحاول اعتماد أسلوب ينهض على أساس فني.
وحين يتوارى الفني خلف الموقفي يبدو التعيين بدل الإيحاء، وتسيطر الفكرة على الإبداع، ويكون الهدف الأساس هو “بعث رسائل” لا “إنتاج رسالة”، ولعله لهذا السبب لا يمكننا الحديث عن إنتاجية خطابية جديدة في تعاملنا مع هذا الوسيط الجديد، وخير دليل على ذلك تأخرنا في إنتاج أدب رقمي أو بلورة دراسات رقمية.

إن الكتابة في تويتر في عالمنا العربي هي بمنأى عن الكتابة بمعناها الإبداعي الذي يمكن أن يخلق متابعين بالصورة التي تحققت مع قراءة الشعر في السبعينيات والرواية منذ الثمانينيات، لذلك نجد المتابعين في أغلب الأحيان هم من الكتاب أو أشباه الكتاب، أو الكتاب في طور التكوين.

ولما كانت الموضوعات التي يتم تناولها عامة ومتشعبة ومتعددة يغدو الموقف الفكري أو السياسي هو محدد المتابعة، ولذلك لا يمكننا الحديث عن متابعة متواصلة ومستمرة وإبداع مستمر ومتواصل، ولو أتيحت لنا قراءة دقيقة وإحصائية لعقد تويتر وروابطه فسنجدها تعبيرا ليس عن رؤية ثقافية متواترة، ولكنها رصد لقضايا واقعية يومية، ومتابعة لها من رؤى الكتاب ومواقفهم منها.
تغير رؤيتنا -من خلال النقاش الفكري والمعرفي- حول الشبكات الاجتماعية الرقمية كفيل بجعلنا ننتقل من “التغريدة” بمعنى رفع الصوت إلى “الأغرودة” الدالة على التطريب أيضا، وبذلك يمكننا أن نجعل من هذه الشبكات وسائط للتفاعل مع الآخر، لا الاكتفاء بالعمل على إثبات الذات من جهة، ومن جهة ثانية استثمار تاريخ الوسائط كلها فتكون المساهمة في نقل المعرفة والمعلومات والارتقاء بالوعي، إلى جانب الإمتاع والإبداع، مع الحفاظ على قدر كبير من الحوار البناء واحترام الرأي الآخر.
_____________
*الجزيرة.نت

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *