المهدي عثمان*
خاص ( ثقافات )
الشخوص
سين: مسؤول عن الأمن وحفظ النظام
جودفري: هو الدوق “جودفري” الذي نجحت قواته في تحطيم التحصينات الخارجيّة الشمالية للقدس في الحرب الصليبية التي نادى بها البابا “أربان الثاني” أثناء انعقاد مجمع كلير مونت بفرنسا عام 1099.
بولس: لا بدّ من تطبيق أقصى العقوبات التي يسمح بها القانون.
ماديلا: ليست السجون أعظم المتاحف.
قيافا: الحاخام الأكبر.. ويتكلّم عيسى “إذا أمرتَ بقتلي، ترتكب ظلما كبيرا لأنك تقتل بريئا ويصرخ قيافا، إنه ليس بريئا، إنه كافر. اسأله ماذا يقول في مواعظه عن الكهنة وخدمة الهيكل”.
الرئيس: سنرى إن كان بإمكانك أن تأكل القانون.
رجل البوليس: كرهت الاستجوابات
باب إيلو: قد يكون الحيّة القرناء.. “هل يخرج الحيّ من الميت”؟
المرأة: كانت موطئ قدم لأصحاب السوء
الفصل الأول
المشهد الأول
لا صهر.. لا ماء.. لا صلصال
باحة أو هي ساحة أقرب إلى صحراء بلا تراب.. سراب يلفّ هذا المكان.
سراب، أو هو خراب يتجلّى في خلائه من أيّ فضاء يُنعت بالخراب.
زرقة السماء اسْتحالت رمادا رماديّا، سوادا يشبه عتمة الليل…سكونا.
ركودا، استحال رذاذا خفيفا.. نسيما يضوع في الأرجاء.
رومانسية لولا ضجّة الليل وقتامة الفضاء واشتداد الريح.
زوبعة.. طقطقة لأشجار كُسر، ولا أشجار هنا..
صرير لباب حديديّ صدئ ولا باب يُغلق أو يفتح.
مطر.. سيول غمرت.. فاضت.. ضجّت.. ضاق الفضاء بها.
رعد.. برق.. عتمة.. سواد كالح
(نُفخ في البوق مرة أولى)
(نفخ ثانية)
(ثالثة نفخ في البوق)
جفّت مياه السيل.. امتصّت السماء سوادها.. تفرّقت السحب والتحفت بزرقتها، ولم تبلغ الشمس إلا حمرتها شوّكت في أقاصي الغروب، لتشهد الجمع يتقدم من جهة ذاك الغروب.
يتقدّمون وأجسادهم تتابع خطوات ظلالهم عكستها شمس محمرّة الوجنتين كسيدة أفرطت في السهر.
كلّما اقتربوا علت ضجّتهم. كل واحد يحمل كرسيّه بيده اليمنى أو اليسرى ولا أحد بهما معا. يضعونه في المكان المخصص له.. يجلسون يمينا أو يسارا أو وسطا..
هكذا الجلوس.
لستَ تدري كيف انتصبت قبالتهم منضدة توسّطت شجرتا تين وتفاح، ولا نبات ولا حيوان ولا كائن أصلا.
قضبان تشبه السجن، وليست بالسجن، تطوّق “متهما” له عينان من حمرة متقدة كمن أضاف لهما بنزينا.. ضبابي الملامح، لا تكاد تبين تفاصيل وجهه.
طغت غشاوة على العيون لئلا يُبصروا أعضاء هيئة المحكمة.. يسوّون أجسادهم على الكراسي قبالة الجمع الغفير.
أُزيح الغشاء.. اكتمل النّصاب.. بان المثلث الهرميّ:
محكمة، شهود، متهم.
قال الخشوع كلمته، وانتصب الوقار على عمائم هيئة المحكمة.
ـ هنف هاتف:
عملا بالقوانين التي شرّعنا وطبقا للنواميس التي أسسنا، يَمثل أمام عدالة المحكمة المتّهم المسمّى…(يصمت برهة) سيشيح عن اسمه طبقا للتهم المنسوبة إليه.
[عدّل رئيس المحكمة من جلسته.. ألقى بكمّي جبّته على كتفيه واستدار قليلا أو كثيرا حيث يقبع المتهم بين قضبانه، وإن شئت بين قضبان السلطة والقضاء.
حتما سيوجّه كلامه لمن خلف القضبان.. لا يكاد يظهر وجهه وملامحه. فشيء من غرابة بنيته الجسدية تغطيه وتسحب على الحضور رداء الدهشة والاندهاش.
(يلتفت رئيس المحكمة للمتهم بكل ما له من وقار وخشوع)
ـ الرئيس:
الاسم الكامل
ـ المتهم:
فقيه شرعته السماء وأنكرته البشرية.
ـ الرئيس:
قلتُ اسمك بالكامل
ـ المتهم:
………………….
ـ الرئيس:
هل تنكر اسمك أم تخشى الحضور؟ هم صمّ بكم لا يبصرون، فلا تخشون أن يسمعوا، فهم لا يسمعون.
ـ المتهم:
……………..
ـ الرئيس:
حسنا.. قبل أن أسرد جملة التهم المنسوبة إليك (يتوجه للحضور) آتوني بالشهود لنعرف اسمه (ملتفتا للقابع خلف القضبان) سنعرف اسمك حتما.
ـ هتف هاتف:
الشاهد الأول
[ كان لا بد في كل محاكمة أن يكون الشهود من الملوك ومن الأئمة أو الفقهاء الكرام. ولأن قداسة المكان تفترض قداسة الحضور وتبجيلهم وجب أن تكون أولوية الإدلاء بالشهادة للأئمة والفقهاء البررة]يتقدّم فقيه بقداسته المعهودة وجلبابه يُشرع للنسيم رقصته وعمامته تتربّع “بطهارتها” على رأسه.
يأخذ مكانه المخصص للشهود على مربّع عال عن الأرض، وقد حط على كتفه هدهد ونوارس حلّقت فوق المكان، لست تدري كيف ظهرت فجأة في الفضاء.
ـ الرئيس:
اسمك بالكامل
ـ الفقيه:
أنصر دينا ضد دين الـ …
ـ الرئيس:
(مقاطعا) لا داعي لذكر اسمك.. هل تعرف اسم المتهم؟
ـ الفقيه:
أقسم بنبوءتي ومن شرّعني على الناس إماما فقيها أني أقول الحقّ. كل ما أعرف هو أنني كنت فقيها عصرئذ ولا أدري إن وُفقت في أن أُقنع قومي أن لا فقيه بعدي. فليت أدري إن كان قبلي أم بعدي .. فلا أعرف اسمه.
ـ الرئيس:
حسنا.. عد حيث كنت (يصمت قليلا ويلتفت للحضور)
آتوني بالشاهد الثاني.
ـ هتف هاتف:
الشاهد الثاني.
(تفرقت النوارس ولحقها الهدهد مكسور الجناح لا يقوى على الطيران.. يتقدم أحد الملوك مغطى بالديباج والزخرف، يحلّي رأسه تاج وإسبليطات تُحلّي زيّه العسكري على كتفيه، تُضفي عليه مزيدا من الرهبة.
كان يتبعه حارسه الشخصي، وهو يتقدم نحو المربع للإدلاء بشهادته، فيمنع حرس المحكمة حارسه، ليبقى وحده في مواجهة طاولة التحكيم)
ـ الرئيس:
عرّفنا بنفسك
ـ الملك:
أحد حكام بلاد الأنهار
ـ الرئيس:
اسمك بالكامل (يستدرك) لا داعي لذكر اسمك.. أَقسِمْ بقول الحق
ـ الملك:
وحق ” عشتار” ومن حمّلني أن أحكم مدينة “بابل” بالعدل ما أقوله الحق.
ـ الرئيس:
هل تعرف اسم المتهم؟
ـ الملك:
لا داعي لمعرفة، ولا حاجة لي للامتثال لفلسفة الديانات والفقهاء.
ـ الرئيس:
وأي فلسفة هذه؟
ـ الملك:
(بزهو) استهلكت نصف عمري في إصدار شريعة أحكم مملكتي، ومنها يُدرك العامة حقوقهم وواجباتهم. أما النصف الآخر، قضيّته حربا مع العيلاميين وغزوا لبلاد الآشوريين والشام.
فكفى شعبي شرائعي وفتوحاتي، فما الداعي لفقيه قد لا يأتي بأحسن مما أتيناه ؟
ـ الرئيس:
إذن، لا تعرف اسم المتهم.
ـ الملك:
لا بكل أسف
(بيده ودون أن ينبس بكلمة، أشار له القاضي بالانصراف واستقبله بوليسه يوصله إلى مقعده، وأشار بإصبعه أن آتوه بالشاهد الموالي)
ـ هتف هاتف:
الشاهد الأخير
(يتقدم ثابت الخطوات وسيفه خارج غمده بيده متوقفا قبل بلوغ منصة الإدلاء بالشهادة.
أمره الحرس المحكميّ ” أن أغمد سيفك يا..
لم يسعفه الشاعر بوقت يُكمل فيه كلامه)
ـ الشاعر:
كيف أُغمد سيفي، وأنتم سيوفكم في وجوهنا تُشهرون؟
ـ الحرس المحكميّ:
هذا أمر.. وأنت في حضرة المقدّس والفقهاء الكرام.
(ضغط بيده اليمنى على مقبض سيفه حنقا وغضبا، وأغمده ولم يَبرح مكانه.
أشار حارس المحكمة بيده إلى المنصّة كي يعتليها الشاعر، فتجاهله وظل مكانه)
ـ الرئيس:
الاسم الكامل
ـ الشاعر:
أنا المهديّ…
لا مُنتظر ولا مُنتَظَرُ
ولجْتُ عالمَكم
وما علم الحُرّاس و لا العسس
.. بئس ما علموا
ـ الرئيس:
أَقسم أنك تقول الحقّ
ـ الشاعر:
وأصل الخطيئة الأولى وما وزّع النهد من شبق أقول الحقّ.
ـ الرئيس:
هل تعرف اسم المتهم؟
ـ الشاعر:
لم أر متهما إلاّ نفسي.
ـ الرئيس:
(مشيرا بيده إلى القابع خلف القضبان بسخرية)
هذا الفقيه المجهول، أتعرف اسمه؟
ـ الشاعر:
لم أعرف نبيا غيري، ولا أعرف نبوءة غير الشعر.
ـ الرئيس:
من فضلك، دون الخروج عن السؤال…
هل تعرف اسم المتهم؟ أجب بنعم أو لا.
ـ الشاعر:
بالطبع
ـ الرئيس:
بالطبع ماذا؟
ـ الشاعر:
بالطبع لا.
ـ الرئيس:
يكفي.. يمكنك الانصراف.
[اصبغ الفضاء بصمت رهيب أججته هيئة المحكمة وهي تتشاور فيما بينها..
يبدو الاستقصاء عن اسم المتهم لم يُؤت أكله، ولم يُدل أيّ شاهد بتفاصيل تحدد اسمه]أسرّ الرئيس إلى مساعده “بولس” على يمينه: ما رأيك؟
ـ بولس:
نؤجّل المحاكمة إلى أجل غير مسمّى
ـ الرئيس:
وأية فائدة؟
ـ بولس:
قد تأتينا الأخبار الجديدة من قواتنا المنتشرة.
ـ الرئيس:
(بقلق) حسنا سنرى
(التفت لمساعده الثاني على يساره)
ما رأيك سيد “ماديلا” في هذا الإشكال؟
ـ ماديلا:
بسيطة، ندفعه إلى رجالنا كي يُجبروه على أ، ينطق اسمه.
ـ الرئيس:
ألا تدري أنه ..من يجرؤ على إجباره؟
ما رأيكما لو نسأل نفس السؤال لكل الحضور؟
ـ ماديلا و بولس:
(بصوت واحد) لكنهم كثر
ـ الرئيس:
السؤال موجه لمن يعرف اسم المتهم فقط.
(وافقاه بأن أشاحا برأسيهما)
[سوّوا جلستهم واستقاموا رافعين وجوههم للحضور مقطّبين، وقلق رقرق في العيون، فأصبغ حيرة على تفاصيل الوجوه..
كثر الجدل والضجيج وأشياء أخرى في الصفوف الوسطى.. شعراء بعربدتهم فكهون. وكأن بقية الحضور توزّع صمتها فيصطبغ المكان بقداسة دنّستها قهقهات الشعراء وخزعبلاتهم. ولأن “الشعراء يتبعهم الغاوون” فقد تبعهم في الجهة اليمنى من الحضور.
لكنهم انقطعوا حين استشعروا أن الفقهاء ورجال الدين اعتراهم القلق من ضحكات مصطنعة، والملوك ندري أو لا ندري يسوسون السواد بجبة “عثمان”]
تسْمع طرقا على طاولة التحكيم: أن اصمتوا.
خفّت موازين العربدة، واستحال الضجيج سكونا مطبقا. بعد صمت أوشك على الدقيقة، قال الرئيس:
ـ اليوم في هذه المحاكمة بتاريخ خارج عن القاعدة رفض المتّهم ـ وبعد توسّلات ـ أن يُدلي باسمه، كما استحال على الشهود معرفته ـ وإن أقسموا ـ لذلك رأت قداسة المحكمة أن توجّه سؤالها التالي لكافة الحضور:
[علا الضجيج مرة أخرى واشترك فيه كل الحضور دون استثناء، إلا أحد الكراسي بان شاغرا، لا يشغله شاغل.
هل كان الغائب سيضجّ مثلهم لو كان حاضرا؟ هل كان سيكتب جماح نفسه عن الهذيان والعربدة؟
ومن أدراك أن الكرسي الشاغر لأحد الحضور؟
لا بدّ أن يكون… لأن الكرسي لا يأتي إلى المحاكمة وحده، وليس مهمة الحرس تصفيف الكراسي.]انتبه رئيسهم إلى الكرسي الشاغر، لكنه أشاح عنه بوجهه مكملا حديثه. في نفس الوقت الذي كان يأمر الحضور بالتزام الصمت بتلك المرزبّة الضخمة.
ـ الرئيس:
انطلاقا مما أشرت إليه، أوجّه سؤالي إلى كل الحضور (يصمت برهة) من يعرف اسم المتهم؟
(لف الصمت رداءه على الحضور، إلا أسئلة حيرى وزّعتها العيون التي تبحث في الوجوه وفي الفضاء وفي اللامعنى عن الإجابة لسؤال بلا إجابة.. كأن العيون تبحث عن رؤوس نبتت فيها.
فجأة، كمن أغمد خنجرا في الصدر ليغتال الصدر أنفاسه تسكن الحركة سكونا إلى الأبد.. سكونا إلى الأبد.
كمن أغمد خنجرا في الصدر، انقطع الضجيج وحركة الأجساد والكلام الذي لم يعد تلك التفاحة التي تدغدغ اللسان.
فجأة، انتصب شاعر، وكان ملثما وفي عيونه حدة وإباء.. مقطب الجبين.. عاكسا وجه الصحراء وقساوة الطبع والفحولة.
ـ الرئيس:
لو أجبت على السؤال، سنمنحك ..
ـ الشاعر:
(مقاطعا هيئة المحكمة، ولم يبرح مكانه)
سلام على الأملاك جميعها جمعا بأسرهم :. باسم سريع فالملوك تسارعت
ـ الحضور:
وعليكم السلام.
ـ الشاعر:
تريدني هيئة المحكمة أن أدلي باسم المتهم؟
ـ الرئيس:
وهو كذلك يـــــــــــــــــــا…
ـ الشاعر:
(مقاطعا)
فاعمي عيون الناضرين جميعهم :. واصمم وأبكم كل قوم تكلّمتْ
واكرسْ بسرّ الاسم قوما تكلّموا :. واصْمم جميع الكلّ بالاسم أصممت
وأوقف ..اللعنــ.. ـعــ.. ـعـ.. نــة…
(وسقط يتخبط في دمائه غير مأسوف عليه. كان على وشك أن يُنقذ المحكمة من مهاترات قد تطول وقد لا تقصر وأبحاث وكشوف..)
كان سيعلن عن اسم المتهم ليسهل على عدالة المحكمة القيام بواجباتها ..كأن شيئا لم يكن.. كأن لا دماء سُفكت .. كأنْ لا شرايين قطعت ..كأنْ لا ..
لم يحرّك الحشْد الحضور ساكنا، ولم ينبس ببنت شفة، إلاّ الشعراء انتصبوا واقفين، رافعين جثّة الرفيق إلى أعلى فوق الرؤوس.
تقدّم أحدهم.. أمسك بكرسيّ الشهيد إلى هوّة سحيقة رماه. أمّا البقيّة فقد مدّدوا المغتال مكان الكرسيّ وغطّوه بصحف قديمة.
حين انقطعت الحركة مرّة أخرى وعاد الشعراء أمكنتهم، لم يعد ذلك الكرسيّ في الصفوف الوسطى شاغرا، ولم تعد كراسي شاغرة، لا شغور في الكراسي ..لا شغور ..لا ..
أفاق الجمع من دهشتهم على تتالي ضربات المرزبّة وتعليق رئيس المحكمة
ـ الرئيس:
انتباه.. رجاءً (صمت لحظة) يؤسفنا أن تؤول الأمور إلى مثل ما آلت، وفي حضرة المقدّس وأصحاب الجلالة. يؤسفنا أن تطال يد الغدر والإرهاب كلمة الحق. لذلك قررنا الآتي (يتأمل أوراقه) نحن عدالة المحكمة، وبعد عمليّة الاغتيال التي تعرّض لها المسمّى (التفت إلى مساعديه متسائلا بإشارة من يده)
ـ ماديلا:
لم يقل اسمه
ـ الرئيس:
المسمى صديقنا المجهول ..قررنا أن نتّخذ التدابير التأديبيّة المبيّنة بالفصل الأول، في صورة تكرار عملية الاغتيال.. عن هيئة المحكمة.
(صمت برهة، وأكمل)
والآن وبعد أن استحال علينا معرفة اسم المتهم، نمر إلى عرض جملة التهم المنسوبة إليه. وبه كامل الشرعية في الدفاع عن نفسه.(فجأة، ودون سابق علم ولا إنذار وأمام الذهول الذي غشّى بصيرة الحاضرين والانبهار، انتصبت سيدة، وقد سوت مفاتنها ونفضت ما علق برثّ ثيابها من غبار.. لا خمار يغطي وجها وبالكاد فستانها يستر شبرا واحدا من فخذيها المكتنزين.
هي سيّدة على صغر سنها وجهلها بالأشياء، انتصبت على مقربة من قداسة المحكمة تحت شجرة التين.. في التراب أصلها على الجهة اليمنى. وبخجل مُرّ مفرط فيه نبست:
أنا ….
ـ أحد الفقهاء:
(قاطعها من الجهة اليمنى)
أنت؟ أنت ماذا؟ كيف يا حوّاء تطئين المقدّس بهذا اللباس الكشّاف الوصّاف؟
ثمّ ..ثمّ من شرّع لك ولوج فضاء لا أنثى فيه ولا نساء؟
ـ المرأة:
جئت من الأقاصي، كم عانيت يا شيخنا من حرّ الصباحات وبرد الأماسي. لما هتف هاتف: ” أن اسعفوا عدالة المحكمة بشهادتكم”
ـ الفقيه:
وأي لباس هذا تتجلّين به؟
ـ فقيه آخر:
إنها المهزلة
ـ المرأة:
هكذا شاء ابني..يعذّبني و يجوّعني و بجسدي يتاجر. لهذا عندما سمعت الهاتف أيقنت أنه الحق، وأنني إلى الحق الأسمى أهاجر.
ـ أحد الأيمة:
ولكن..
ـ الرئيس:
(مقاطعا وموجها كلامه للمرأة) أتعترفين أمام العدالة بجريمتك كاملة؟
ـ المرأة:
ها أني أعترف (قالتها بيأس)
ـ الرئيس:
وكيف لابن أ، يجوّع أمّه ويعذّبها ويتاجر بجسدها؟
ـ المرأة:
(تنهّدت من أعماق الألم والذاكرة)
علم أنه ابن غير شرعيّ، فأجبرني على أن أكون خليلته وعشيقته وموطأ قدم لأصحاب السوء.
ـ الرئيس:
هذه تهمة ثانية.. ومن أبوه؟
ـ المرأة:
احد الملوك يا سادتي.. وُضّفت عنده فــ..
ـ أحد الملوك:
(قاطعها يغضب شديد)
عفوا يا .. الملوك لا ينتهكون الحرمات، وحتى الجواري نبيعهن ونشتري، ولا أنثى ديس شرفها. فما تقولينه لا تقوين على تحمّل تبعاته.
علا الضجيج وقعقعة السيوف وأزيز الكراسي تصطكّ سيقانها بوجه الأرض.. هم الشعراء انتصبوا واقفين.. محتجّين.. مردّدين:
“هل يسْلم الشّرف الرفيع من الأذى؟
هل يسلم الشرف الرفيع من الأذى؟”
وفي نفس اللحظة جلسوا جميعا وسط ذهول الحضور.
ـ الرئيس:
اقتربي قليلا كي تدلين بشهادتكِ
(ينتصب أحد الفقهاء من الجهة اليمنى للحضور.. سوّى جبّته، ثمّ رفع يده رغبة في الاستئذان للكلام، فأشار له رئيس المحكمة بيده ” أن تكلّم”)
ـ الفقيه:
باسمي ونيابة عن الاخوان والفقهاء الأجلاء، ندين هذا المشهد المُزري لهذه الأنثى في حضرة المقدّس. لذلك سنضطر إلى الانسحاب من المجلس إذا لم ترتدع هذه الحريم وتستر عورتها.
(يجلس الفقيه، وينتصب أحد الملوك من الصفوف الوسطى مسوّيا تاجه، فأذنت له هيئة المحكمة بالكلام دون أن يسْتأذن)
ـ الملك:
باسمي وباسم كل الرؤساء والأمراء، ومراعاة لمصالح القضاء، نتغاضى عن هذا الشكل الفرعي من أجل أن تُنوّر هذه المرأة عدالة المحكمة. على أن لا تتجاوز إجابتها الإدلاء باسم المتّهم، ولا شيء غير ذلك.
ـ الرئيس:
حتّى نتّخذ القرار بالأغلبيّة، أهيب بممثلي الفقهاء والملوك كي يتشاوروا قصد الخروج بموقف وسط يسهل علينا ـ وبواسطته ـ اتخاذ الموقف المناسب.
(عدّل من جلسته.. حمحم.. سوى بعض الأوراق التي أمامه)
لذلك اقترحنا، وطبقا للباب السابع من الفصل السابع والثمانين، ورد في مجلّدنا القانوني أنه وجب أن تمدّوا قداسة المحكمة بممثل عن كل طبقة منكم للتشاور سرّا مع هيئة المحكمة، إلا الشعراء لا يعنيهم هذا الأمر طبقا للفصل السابع من المجلّد السابع الخاص بمحاكمة الشعراء.
(استرخى على كرسيّه بأريحيّة)
وللتوضيح والشفافيّة نقرأ على أسماعكم الفصل السابع الذي ذكرنا، بغرض تبرئة هيئة المحكمة.. وليبقى القانون فوق الجميع:
“كلّ من كتب شعرا أو أوحى إليه وكان أحب امرأة أو عشق أو كتب عنها في شعره فهو مقصى من الشهادة في كلّ القضايا التي تهمّ امرأة مهما كان عمرها، حسب ما يضبطه القانون”
واضح إذن.. ولذلك لم يبق إلا الملوك والفقهاء يمدّونا بمرشحيهم كي نحتكم إلى صناديق الاقتراع لنفرز مرشحين اثنين. أما نحن فسنختار مرشحا واحدا فقط عن كلّ فريق منكم.
لأنكم واعون بالديمقراطيّة والاختيار الواعي، لا داعي للتصويت على المترشحين لأن ما تقدّم هو ما طلبنا.
والآن نرفع الجلسة إلى ما بعد التشاور
[انسحبت هيئة المحكمة…..نهض الحضور للانسحاب]
المشهد الثاني
ـ بعد ثلاثة أيام ـ
هيئة المحكمة هي هيئة المحكمة.. الفضاء هو الفضاء.. النظام هو النظام.. توزيع الحضور هو نفسه.
الأيمة والفقهاء يمينا جلسوا، واتّخذ الحكام والملوك أماكنهم.. الشعراء….
ولأن القانون على قداسته وعليائه شديد الوضوح، فإن الشعراء تغيبوا أو غُيّبوا رغم حضورهم “فكل من كتب شعرا أو أوحى إليه وكان قد أحبّ امرأة أو عشق أو كتب عنها في شعره فهو مقصى من الشهادة في كلّ القضايا التي تهمّ امرأة مهما كان عمرها حسبما يضبطه القانون.
ـ هتف هاتف:
محكمة…
عدّل رئيس المحكمة من جلسته.. أمسك بكمّي برنسه ليلقيها على كتفه.. مدّد منكبيه على الطاولة حتى بات بصره يراوح بين الأوراق الملقاة أمامه والحضور
ـ الرئيس:
بعد الجلسة العلنية مع ممثّليكم ودون حضوركم بتاريخ خارج عن الوقت، وبعد التشاور والنقاش وتقديم الأدلة والبراهين.. رأت عدالة المحطمة عدم الاستماع إلى الشاهدة المذكورة سلفا، وذلك تبعا للأسباب التالية:
أولا: لم نوجّه لها دعوة للحضور
ثانيا: لم تراع حرمة المكان عندما حضرت بلباس كشاف وصاف
ثالثا: لاتهامها أحد الملوك تهمة غير مقبولة.
مع العلم أنه إذا تم قبولها فبشهادة ستّ نساء ورجل واحد.
أولا: إدانتها بتهمة ممارسة الرذيلة.
ثانيا: إدانتها بتهمة الحضور دون إذن.
ثالثا: إدانتها بتهمة قتل ابنها زورا وبهتانا.
رابعا: إدانتها بتهمة الاعتداء بالثلب على الملوك والرؤساء.
خامسا: في انتظار تهم أخرى…
تعالى الحنق و الغضب والهذيان، وامتزج الهرج والمرج بالصمت المطبق على الفضاء ..رفع القاضي منكبيه عن الطاولة مشيرا إلى الحضور بكفيه ” أن اصمتوا”، وأكمل:
سيتوفر لكل منكم على فرصة للكلام وتوجيه التهمة التي يريد، لكن.. لكن.. (صمت برهة مُطرقا) لا يمكنا أن نقبل كل الآراء، وإلا لاستغرقنا من الوقت زمنا طويلا. لذلك.. ورد في مجلدنا التشريعي، أنه وجب أن تُفوّضوا ممثلا عن كلّ فريق منكم يلخّص تهمكم الموجّهة إلى المتّهمة المذكورة، وذلك طبقا للباب السابع من الفصل السابع ونيابة عن الشعراء، ستعيّن فقيها صادقا وأمينا من التقاة.
والآن نمنحكم بعض الاستراحة (واتكأ على كرسيّه) كي تبلّغونا شفاهيا نيابة عن كلّ فريق منكم التهم الموجهة إلى السيّدة الماثلة أمامكم.
وليتولى الفقهاء مدّنا ـ كذلك ـ بتهم الشعراء نيابة عنهم.
[علا بعض الضجيج وأزيز الكراسي، فيما انشغل القاضي بمجادلة نائبيه، فالشعراء عقدوا دوائر حوار، كل دائرة قام واحد يخطب فيهم بصوت خافت كإنارة قبل القصف]ـ الرئيس:
ينبغي الانتباه والصمت.. رجاء.. رجاء
(وما إن خفت الضجيج أشار بيده إلى المرأة وأكمل)
فليتفضل ممثل الفقهاء كي يدلي نيابة عن اخوانه بالتهم المنسوبة إلى هذه السيّدة.
وبوقار وقف الشيخ، أكبر الفقهاء سنا ونظارة وخبرة.. تقدّم رويدا رويدا تقوده عصاه ـ وكان كفيفا ـ يتعثّر في جلبابه، له لحية تتوسّد صدره بوقار وعمامة لا يبين من أهدابها شعره.. حين أدرك المكان بحدسه ـ ربما ـ أو بعصاه وقال:
بسم الله الرحمان الرحيم،
أما بعدن نشكر هيئة المحكمة ونقدّم لها جملة التهم التي نسبْناها إلى الحريم الماثلة أمامكم، وهي:
أولا: يجب معاقبتها نيابة عن أمّها التي أغرت آدم كي يُطرد من جنّته.
ثانيا: نحمّلها مسؤوليّة قتل ابنها بهتانا وزورا.
ثالثا: يجب ختانها ثانية كي نكسر شبقيتها، وإن لم تُختن من قبل، فإننا سنضطر إلى التملّص من إحدى سننا الحميدة وبالله التوفيق.
ـ الرئيس:
وهل لكم بمدّنا يا شيخنا بالتهم التي حرّرتموها نيابة عن الشعراء؟
ـ الشيخ:
بالطبع.. بالطبع..
نيابة عن الشعراء قررنا التالي:
التهمة الأولى (رافعا سبابته) أنها أغرت كل الشعراء كي يكتبوا غزلا وإباحيّة في وصف النهود والخدود والأرداف، بأنواع السرود والأوصاف.
التهمة الثانية، أنها..
(قاطعه الضجيج والاحتجاج بالهتاف والصراخ والتنديد.. هم الشعراء يحتجون.. يحتجون.. يزمجرون.. يضربون الأرض بكراسيهم وقعقعة سيوفهم. ولم يفلح رئيس المحكمة ولا مرزبّته في إخماد جام غضبهم، لذلك نهض عن كرسيّه مشيرا بيده بالتزام الهدوء)
ـ الرئيس:
لا داعي.. لا داعي أيها الشعراء، سنستمع إليكم، فنحن في حضرة المقدّس، ولا يجوز الهتاف ولا يجوز الضجيج.
(خفّت موازين العربدة والصراخ وجلس كل الشعراء إلا أحدهم بقي منتصبا كسنّ الرمح في مقدّمة الصفوف يطلب الإذن بالكلام، فمنحه القاضي إياه)
ـ الشاعر:
نحن لا نحسن الجدل.. نحن لا نملك إلا وهما، لذلك سنعتبر أن هذه المحاكمة وهما، وسننسحب من محكمتكم احتجاجا على ما جاء نيابة عنه.
وقفوا جميعا، وانسحبوا وسط الذهول وبصمت لا حراك لمثله. بقي الوجوم يترصّد الكلام كي ينسحب من على قبعات وعمامات وتيجان الحضور، إلى أن نفض رئيس المحكمة صمته عن رداءه.
ـ الرئيس:
نأسف لكل ما يجري، ومع ذلك فالمحاكمة لا تعني الشعراء في شيء لأنهم غير معنيين بالشهادة، ولكن..(موجها كلامه للشيخ الذي ما يزال واقفا قبالته يداعب لحيته) سنكتفي يا شيخنا بما قلته وأدليت به، وسندعو ممثل الملوك كي يأخذ مكانك مشكورا.
ارتبك الشيخ ولم يدر أي اتجاه يسلك.. تقدّم منه أحد الحرس اليوميّ ليقود خطاه إلى كرسيّه. في نفس الوقت الذي انتصب مكانه ممثل الملوك، وكان عسكريّ اللباس ومحلّى بإسبليطات وأوسمة دقّت صدره. كان وسيما فيه من طباع الحدّة والانتباه.. تسبقه عيناه إلى الفضاء حتى تخترقه كخنجر.
ـ الرئيس:
هات تهمكم
ـ الملك:
نحن يا سادتي (ملتفتا إلى الفقهاء بزهو وافتخار) ليست لنا أي تهم نوجهها، وشكرا.
أمير:
سادتي الكرام، لأن زملائي قد تعسّفوا عليّ، وعلى ثلّة قليلة من أصدقائي، ولم يأخذوا برأينا، نطلب من سيادتكم الإذن لنا بتغيير المكان.
ـ الرئيس:
وأيّ مكان ستغيّرون؟
ـ الأمير:
من هنا إلى جهة الفقهاء وحذوهم.
ـ الرئيس:
لكم ذلك.
حمل ثلّة من الأمراء كراسيهم وانتقلوا إلى الضفّة اليمنى محتفى بهم.. في الوقت الذي دخل أحد الحرس المحكميّ مسرعا إلى القاضي، وانكبّ عليه يهمس له في أذنه ثم استقام ينتظر الإذن بالانصراف. فمنحه وانصرف.
رفع القاضي رأسه إلى أعلى ببطء ثمّ طأطأ بملء الحسرة والاهتمام.
ـ الرئيس:
بلغني أبها السادة أن شعراءنا ـ وبعد أن جابوا الفيافي منددين هاتفين ـ ها هم يتظاهرون أمام فضاء المحكمة.
لذلك نرفع جلستنا هذه في انتظار أن ننظر في ما طرأ علينا، وأنتم (ملتفتا لحرس المحكمة) احتفظوا بهذه المتهمة حتى نعقد جلستنا القادمة.
المشهد الثالث
الوقت الغروب.. حمرة تصبغ خدود السماء، ولا شيء في المكان إلا شجرة عُلّقت بها السيوف..
على مكان عليّ عن الأرض يقف أحدهم قبالة الجميع يخطب فيهم:
من خان القضيّة ليس منا.
من باع أرضه ليس منا.
من تواطأ ليس منا.. ولسنا نعنيه في شيء.
نحن جعنا.. ذُبحنا.. وانتُهكنا..و..
ماذا ننتظر يا علية القوم؟ يا سادة الشرفاء.. يا قادة الجهلة.. يا صورة الجوع في دمنا.. يا ثورة على الظلم.. الثورة على القهر.. الثورة على الثورة الكاذبة.. الثورة.. الثورة..
رددوا جميعا:
الثورة.. الثورة.. الثورة.. الثورة..
على نفس المكان العليّ صعد آخر وقد رفع يده يُنبئ الحشد بأنه هو، وانه سيقول فيهم كلمته:
المهاترات كثيرة واللغو فاض حتى غرقنا بفيضه.. نندّد.. نُعاتب.. نرفض.. نُساند.. ولا شيء يُضاف إلى المهاترات اليوميّة غير المهاترات.
أيها الشرفاء، كي نخرج من صمتنا ونخفّض من قمع لَبِسَنَا حتّى بتنا لبُوسه، لا بدّ أن نتحوّل من التنديد والثغاء، إلى الفعل المُجدي، ولا نظريّة دون تطبيق.
(قاطعه حشد من الشعراء بالتصفيق والصراخ والشعارات)
الثورة.. الثورة.. الثورة…
ما زال يخطب فيهم واقفا يمسح بعينيه كل الحضور.. مزهوا بنفسه، فقد أثار فيهم ما كان يغفو تحت أجلاف الخوف والرهبة والاستكانة، حين أكمل الحضور لغطهم وخفَتَ ضجيجهم، أكمل كلامه:
.. لذلك أقترحُ اقتحام هيئة المحكمة ومنع تواصل المحاكمة المهزلة بقوّة السيف، وإلا أنتُهكنا في مصادر صورنا الشعريّة. فهل منكم من يقدر على الكتابة خارج خدور المرأة وسحرها؟ فلا شعر دون امرأة.. لا شعر دون امرأة.. لا شعر دون امرأة..
ما زال يكرر جملته تلك لعلّ الحشد يوافقه بالتصفيق والصراخ والمساندة.
المشهد الرابع
في فضاء أقرب للرعب.. أكثر اتساعا من زنزانة، تُعقد محاكمة الشاعر المتمرّد.
الغرفة مظلمة إلا من إنارة خافتة والكرسي وسَط القاعة. وقد انتصبت هيئة المحكمة كعادتها في نفس المكان.
الشاعر قيّدوه إلى الكرسي، وأحد رجال البوليس بزيّ مدنيّ يدور حوله كالثور الموثوق إلى وتده ويحاول ما استطاع استنزاف المعلومات عن عصيان الشعراء وتمرّدهم.
ـ الشاعر:
.. علت في الأفق أكمة من الغبار الكثيف، تراها مسرعة نحونا.. وخاننا البصر، فلم ندرك كنهه، ولا ما يحمله إلينا من مفاجأة.
(بحسرة) للأسف مفاجأة غير سارة.. كان التصرّف الوحيد الذي حذقنا فعله زمنئذ، هو الصمت والرهبة والانتظار المشوب بالخوف.
ـ المحقق:
وبعد..
ـ الشاعر:
ولأنني في مكان عليّ عن الأرض، كنتُ الأقدر على تمحيص المشهد.. كانت كلاب سوداء ضاربة في الضراوة بحجم البغل، تسبقها أنيابها ومخالبها ونباحها.. وتفرّست فينا مشتّتة جمعنا وصفّنا..
ـ المحقق:
(مقاطعا) … وبئس الصفوف.. أكمل هيا أكمل
ـ الشاعر:
(مستاء من تهكّمه) لم يكن بوسعي أن أكمل البقيّة، أو بالأحرى لا يمكن أن تسمح لي المحكمة بقول ما يجب أن يقال.. هل أسرد لكم ما حصل بعد اعتقالي؟ بعد أن رموني كالكلب الأجرب في عربة الغيلان السريّة، ثمّ ألقوا بي في قبو لا أذكر إن كانت ظلمته نورا بلغ حدّه فانقلب إلى ضدّه؟ أم أني فقدتُ البصر زمنئذ، فلم أقو على الإبصار؟
وهل أسرد لكم نفس المشهد الذي يتكرر لمدّة لا يسعني تحديدها:
اعترف الآن
اعترف.. اعترف.. اعترف الآن
عرقتُ وأحسستُ بأوجاع في كل مكان في جسدي
اعترف الآن
وأحسستُ بأوجاع في الحائط
أوجاع في الغابات وفي الأنهار وفي الانسان الأول (1)
ـ الرئيس:
من أنت؟ عرّف بنفسك..
ـ الشاعر:
خجلتُ أقول لكم قاومت الظلم فشرّدني العدل.
ـ الرئيس:
(بغضب أخفاه ما استطاع)
اسمك لا يعنينا في شيء أيها الـ… أنت متهم وكفى. ويهمني أن أعلمك بالتهم المنسوبة إليك.. وما عليك إلا الاعتراف دون تملّص.
ـ الشاعر:
لا يهمني أن تعترف بي.
ـ الرئيس:
إممه.. أنتَ بذيء بعض الشيء
ـ الشاعر:
“لست بذيئا، ولكنه القيء وصل الحنجرة”(2)
ـ الرئيس:
(مهددا) سنرى.. سنرى
(سحب على وجهه رداء من الجديّة والهيبة)
أنتَ يا سيدي (بتهكم) متهم بالعصيان والتمرّد وتحريض الشعراء على اقتحام مقر هيئة المحكمة الموقّرة. ماذا تقول في هذه التهم؟ أممه.. ماذا تقول؟
ـ الشاعر:
تهمة باطلة بالطبع.. لقد كانت إرادة جماعيّة، وأنا اكتفيت بالتصريح بها لا غير. ولو صمتَ لكان غيري من الشعراء قد صدح بها.
(يحادث نفسه)
ما هذه السجون؟ ما أسعد الانسان بهذا الاختراع.. المؤسف حقا أن هذا الكائن البشريّ العاقل، يصنع سجونه وأدوات هلاكه بنفسه، وكأن ” البشريّة تلذّ لها الإقامة في جراحاتها” (3)
لكن حذار، فبعض الشعوب أكلت آلهتها التي صنعت
ـ الرئيس:
(كأنه كان يستمع إليه) سنرى إن كان بإمكانك أن تأكل القانون.
ـ الشاعر:
نحن وضعنا القانون، وبإمكاننا أن نعدّله.. نلغيه
ـ الرئيس:
(تصفح بعض الملفات والأوراق… ناخ منكبيه على الطاولة والتفت إلى الشاعر)
قلتَ في التحقيق الأول أن حاكم جبل الحيّة القرناء هو الذي دفعك ـ وفقا لمآربه الشخصيّة ـ أن تحرّض بقية الشعراء على اقتحام مقر هيئة المحكمة الموقّرة، في حين أنك قلت الآن أن العصيان كان إرادة جماعيّة.
ـ الشاعر:
(ارتبك قليلا) في الحقيقة.. في الحقيقة.. حلل لنا حاكم جبل الحيّة القرناء الموقف، والحلول الواجب توخيها، فتبيّنا رأيه وسرنا على هديه.
ـ الرئيس:
(بسخرية) نحن نعرف أن ذلك القيصر كلب حراسة شرس، ونحن سنستعمله ككلب حراسة لسجوننا.
ـ الشاعر:
أعتقد سيدي أنك تجاوزت صلوحياتك القضائية، وأنت خير من يُدرك القانون.. (ملوحا بسبابته)لذلك يجب أن تضمن الاعتراف بحقوق الغير وكرامتهم ولو في غيابهم.
ـ الرئيس:
(بدهاء) يجوز للقاضي ما لا يجوز لغيره.. المهم أنك وأتباعك..
ـ الشاعر:
(يقاطعه بحدة) رجاء حدد مصطلحاتك.. لا أتباع لي، وما وصفتهم بتلك الصفة، ليسوا إلا..
ـ الرئيس:
(يقاطعه) فهمت.. فهمت… حسنا، المهم أنك وأتباعك سخّرْتم السلاح ـ أي السيوف تحديدا ـ لضرب قواتنا المنتشرة.
ـ الشاعر:
هي التي بادرت بالمباغتة.. ونحن لم نفعل غي الدفاع عن النفس، وهو فعل مشروع.
ـ الرئيس:
(تنفس بعمق.. ألقى القلم بإهمال على الطاولة.. أسند ظهره إلى الكرسي..)
المهم.. قررنا نحن عدالة المحكمة ـ وبعد التشاور ـ مصادرة كل سيوفكم بأغمادها. ونحن إن سمحنا لكم بادئ الأمر بحمل السيوف والدخول بها إلى فضاء المحكمة الموقرة، فلمعرفتنا بالقيمة الرمزيّة لذلك السلاح.
ـ الشاعر:
(ضرب بخمسته على ركبته، وبصوت جهوريّ)
إن طرح مسألة نزع السلاح غير واردة حاليان لأن طبيعة الانسان وغرائزه تفرض عليه الصراع.
ـ الرئيس:
هذا رأيك.. يهمك وحدك أيها الفحل، أما قرار المحكمة، فلا رجعة فيه.. إذن..
(فرك يديه وبدأ يتصفّح أوراقه.. أشاح بوجهه إلى اليسار ومنه إلى اليمين.. شدّ على مرزبّته وضرب بها الطاولة عدة ضربات معلنا أن وقار المحكمة سيقول كلمته، وقد تناسى أن الفضاء خال من الحضور)
قررت عدالة المحكمة ما يلي:
أولا، سحب كل السلاح المتوفر لدى الشعراء.
ثانيا، الأمر بإحضار المتهم حاكم جبل الحيّة القرناء.
هذا دون الإفراج عن المتهم إلى أن نسمع أقوال المتهم الثاني.
ـ المحقق:
(يمسك الشاعر من رقبته)
هيا تحرك
الفصل الثاني
المشهد الأول
تصدير:
“ومحواةَ أرض صدّ مَحْوة بُعدها
وحيّ المنايا من أساوِدها نشْط
أرض محواة، ومحياة كثيرة الحيّات.. وحيّ المنايا، سريعها. والنشْط، لدغ الحيّة.. إنها أرض بُعدها يمنع ريح الشمال عن قطعها هبوبا له” (4)
المكان يوحي بالضمإ والغثيان، لا تين ولا شجرة توت ـ أيضا ـ ما يزال أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء.
فقط نخلة جرباء عانس تُسْلم للريح هذيانها.. الفضاء لا يتوفّر على كراسي خالية، وهيئة المحكمة تنتظر إحضار المتّهم وقارها / القضبان.
سمع خطوات أقدام مصحوبة بصداها، آتية من الأقاصي، إنه الحرس المحكميّ يتوسّطهم المتّهم مقيّدا بأغلال ذهبيّة تشبه الأساور.
حين اقترب الصدى عدّل أعضاء هيئة المحكمة من جلستهم استعدادا للمحاكمة.
وُضِع المتهم بين قضبانه، والحرس المحكميّ يطوّق المكان، ولم يَفُكّوا قيده.. حينها ضرب القاضي بمرزبّته على الطاولة معتقدا أنه يوجّه إلى الحضور أمره، لكنه تدارك مبتسما.. وضع المرزبّة بهدوء، ثم التفتَ إلى المتّهم موجّها له الكلام.
ـ الرئيس:
اسمك بالكامل.
ـ الحاكم:
أنا حاكم جبل الحيّة القرناء
ـ الرئيس:
ما معنى جبل الحيّة القرناء؟
ـ الحاكم:
أنا عن نفسي، لا أدرك كنه هذه التسمية.. فقط للتسمية رواية أولى سردها قدّيس المدينة بقوله:
“وجَبَلَ الربّ الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة” (5)
وقد حُرّف المعنى لتستحيل “جَبَلَ” إلى “جَبَلٍ” و “: نفْسا حيّة” إلى “حيّة”. وصار اسم المدينة “جبل الحية”. ولإضفاء مزيدا من القوة الأسطورة على المكان، أضافوا له “القرناء”.
ـ الرئيس:
اما الرواية الثانية..؟
ـ الحاكم:
أما الرواية الثانية، فتقول أن سكان هذا الجبل كانوا نياما منذ الخليقة الأولى. وترجع التسمية إلى الأفعى القرناء التي لدغت أول حكيم من عنقه، فنهض منتفضا متألما، وقال يخاطب الأفعى: ” لا تذهبي قبل أن اقدّم لك شكري لأنك نبّهتني في الزمن المناسب لأقوم بسفر بعيد”. وهكذا سمّي المكان بجبل الحيّة القرناء.
علّق أحد الحراس المحكميّ متعجبا:
يا لها من قصة مثيرة وعجيـــــــــــ…
لم يسعفه زميله بإكمال كلامه، لما وَخَزه من جنبه يذكّره بأن لا حقّ له في الكلام.
ـ الرئيس:
(محاولا إخفاء دهشته)
توقفنا عند رغبتك في أن تكون المحاكمة سريّة، واستجبْنا. فهل تفسّر لنا سبب هذا الطلب؟
ـ الحاكم:
إنها السلطة..
ـ الرئيس:
(متعجبا) ما دخل السلطة في أن لا تكون المحاكمة علنيّة؟
ـ الحاكم:
أنا في الحقيقة مع القول الذي يرسّخ فكرة “أكرم للسلطة واخضع لها، حتى ولو كانت السلطة عرجاء” (6) فأنا أرفض أن يراني من كنت أسوسهم، مهانا وذليلا.
ـ الرئيس:
(رفع رأسه مزهوا، وبلغة المنتصر علق)
إذن، أنت تعترف بالتهمة المنسوبة إليك.
ـ الحاكم:
(بغضب) لا يمكن أن أكون متهما، ولم أرتكب في حياتي خطأ يمكن أن أحاسب عليه (صمت قليلا) فأنا لم أبخل طوال حياتي في السلطة عن إتيان الحسنات والطيبات من الأقوال والأفعال.
ـ الرئيس:
(استرخى على كرسيّه ساخرا)
وهل لك أن تعطينا بعض الأفعال التي كنتَ تقوم بها أو تنجزها.
ـ الحاكم:
بالطبع.. بالطبع.. (رفع بصره إلى الأفق مزهوا) لقد كنتُ أعطي الخبز لكل جائع.. لقد كسوتُ من كان عاريا.. لقد ملأت الشطوط بالماشية الكبيرة، والأراضي المنخفضة بالماشية الصغيرة. ما ظلمتُ أحدا.. لقد كنتُ صانع معروف.
ـ الرئيس:
(بلا مبالاة) المهم من حقّك ومن واجبنا أن نُطلعك على ما اتهموك به.
(يصمت قليلا، وفي الأثناء يعدّل بعض الأوراق المبسوطة على الطاولة) لقد حرّضتَ شرذمة من الشعراء على العصيان وعلى تهديد وقار المحكمة باقتحامها، وتحدّي عليائها… ماذا تقول؟
ـ الحاكم:
(باطمئنان) أنا أرفض بشدّة هذه التهمة، وليس لي مصلحة في ان آتيها.
ـ الرئيس:
إذن، نأذن لحراسنا بإبعاده بعض الساعات حتى تتمكّن المحكمة من التشاور والتحاور، ثم نعيدك للإصداح بالحكم.
(تقدّم الحرس المحكميّ من الحاكم وقادوه بعيدا في الصدى، فيما شرع أعضاء المحكمة في التشاور، وواصلوا نقاشهم لأكثر من عشرين ساعة، ثم أذنوا لحرس المحكمة كي يأتوا بالمتهم)
ـ هتف هاتف:
المتهم
(أعضاء المحكمة آذانهم صاغرة لمصدر الصدى الأول يراقبون الحرس المحكميّ يأتيهم بالمتهم.. ما زالوا يرقبون.. ولا صدى
ـ هتف هاتف:
المتهم
ـ أحد الحراس:
دخل الفضاء يركب دابة أشبه بالحمار وليست بغلا، لها جناحان كطائر الغرنوق.. حطّت الدابة على الأرض ليترجل منها الحارس يحمل مطويّة قدّمها لرئيس المحكمة منحنيا.
ـ الرئيس:
تسلّم المطويّة، ثم مدّها لمساعده بولس على يمينه طالبا منه قراءتها بصوت مرتفع.
ـ بولس:
(وقد فاجأه الرئيس.. مسح الرسالة ببصره)
من حاكم جبل الحيّة القرناء، إلى المحكمة الموقّرة. أعلمكم أني قد غادرت مجالكم بمساعدة بعض حراسكم، وأعلمكم أن المتهم عوضا عني هي الحيّة القرناء التي فوّضتني السلطة. وبتفويضها سُسْتُ جبلها.
والسلام
ـ الرئيس:
(أذن للحارس بالانصراف، فركب براقه، في حين طوى معاونه المطوية بغضب)
والآن، من أين لنا بمتهم نُحمّله كل الخطايا السابقة واللاحقة؟
ـ ماديلا:
بسيطة.. نأمر حراسنا بإحضار الحيّة القرناء، ولا خيار لنا.
ولنا كامل الشرعيّة في توجيه الاتهام لمن تراه عدالة المحكمة صالحا لتنوير صورة الحقيقة.
ـ الرئيس:
(دسّ رأسه في جملة الملفات الملقاة على الطاولة، وشرع في تصفّحها حين أدرك ما كان يبحث عنه، دفع البقيّة إلى الأمام.. فتح الملف.. تصفّحه، ثم طرق بإصبعه الوسطى على الطاولة)
وفقا لما جدّ من أحداث، فإننا مطالبون بإحضار المتهم الموالي. وهي ـ حسب ما جاء في رسالة المتهم الأخير ـ الأفعى القرناء التي..
ـ ماديلا:
(مقاطعا رئيس الجلسة) عفوا سيدي.. إنها الحية القرناء، وليست الأفعى القرناء.
ـ الرئيس:
أف.. ما الفرق؟ المهم أن يكون لدينا في القريب العاجل من يقبع هناك (مشيرا إلى القضبان) وهذا المتهم، هو تلك القرناء التي أغرت الحاكم بالسلطة ليفسد في الأرض.
ـ بولس:
وكيف نتصرّف الآن؟
ـ الرئيس:
بسيطة.. أكتب ما سأمليه عليك.
ـ بولس:
حاضر سيدي..( وشرع يبحث بكل الفوضى.. يقلب الأوراق والملفات.. يبعد كرسيّه قليلا عن الطاولة.. ينظر في الأرض باحثا عن شيء فَقَده)
ـ الرئيس:
هل أنت جاهز؟
ـ بولس:
لا.. ولكن.. تصوّر.. لم أجد قلمي..
ـ الرئيس:
هاك قلمي، وعجّل لئلا يفاجئنا الوقت (وألقى له القلم أمامه بإهمال)
ـ بولس:
أنا جاهز
ـ الرئيس:
أكتب إذن..
لقد تمكّن القيصر حاكم جبل الحيّة القرناء ـ وهو متهم في قضايا العصيان والتحريض على التأليب ـ من الهرب مقيدا بأغلاله، بعد أن انتهز فرصة استسلام أفراد الحرس المحكميّ لإغفاءة قصيرة.. وبعد التحريات ثبت لنا أن المتهم الحقيقي المتسبّب في إسناد التهم للأول، هي الحيّة القرناء. فالرجاء من كلّ قواتنا الانتشار في الأرض وإحضار الحيّة القرناء، حيّة أو ميّتة.
والسلام
عن هيئة المحكمة
المشهد الثاني
كلّ ما في المكان يوحي بالخراب والصلابة والقحط المميت.. الشمس ضاربة حرقتها في الأرض حتى استحالت بعض النباتات الشوكيّة المنتشرة هنا وهناك، أشبه بالحرقة والاصطلاء.
لا يميّز المكان الممتدّ إلا قممه الشاهقة تقارع بعضها البعض، على اليبس والهجير.
لا يسعفك المشهد إلا بسنّ الصخر يبرق تحت أشعّة الشمس الملتهبة، وبعض الشجيرات المتكئة على عجزها تقاوم موتا محتوما لا يُقاوَمُ.
ترى جنديين أصابهما التعب والاعياء، يتعثران في صخور المسالك الجبليّة.. تُدرك وأنت تُبصر المشهد أنهما يصطنعان الصبر والتحمّل.
“سين” كان أشدّ إعياء من مرافقه.. ولّى وجهه عكس اتجاه السير وأسند ظهره إلى صخرة ناتئة وأرخى أعضاءه قائلا:
يا صديقي “جودفري”، نحن استغرقنا ثلاثة أيام في البحث عن الحيّة القرناء.. هل يعقل في مثل هذا الامتداد أن تعثر على شبر ملقى هنا أو هناك؟
هذا عبث يا صديقي.
ـ جودفري:
ومن أدراك أن طولها كذلك؟
(صمت قليلا، ورفع بصره إلى الأفق في رهبة، وأردف)
بلغني أن طولها يزيد عن الثلاثين ألف ذراع.. وأن سمّها يمكن أن يطال كائنا من كان على بعد يزيد عن عشرة أضعاف طولها.. وأنها إذا انتصبت واقفة تنطح السماء.. تشقّ السحاب فيهطل المطر.
ـ سين:
(تملّكه الخوف وزاد التصاقه بالصخر، حتى انغرز في لحمه وأسرع بوضع يده على سلاحه متأهبا خائفا)
ولماذا؟.. لماذا لم تخبرني منذ البداية؟…لـــ….
ـ جودفري:
(مقاطعا) لرفضتَ اصطحابي؟ أليس كذلك أيها البطل؟
ـ سين:
لا.. لا.. ولكن (صمت قليلا) المهم أن نعثر عليها… أليست الجوائز والعطايا في انتظارنا؟ ألم تقل لي أننا سنصل إلى أعلى المراتب العسكريّة؟ وأن النياشين والإسبليطات ستوشّي صدورنا وأكتافنا؟
(شبك عشره خلف رأسه واتكأ إلى الصخر، وبتعجّب سأل)
هل تعلم؟.. أنا في حقيقة الأمر لم أستوعب إلى الآن فكرة حيّة تحكم بشرا..
ـ جودفري:
(ساخرا) ومن قال لك أنها تحكم بشرا؟
ـ سين:
لا داعي للسخرية، أنا أو أنت نعرف أن الذي هرب من المحاكمة بمساعدة بعض أعوان الحرس المحكميّ هو بشر.
ـ جودفري:
ومن قال لك ذلك؟ ثمّ هل رأيناه؟ هل رأيناه حتى نميّزه عن الكائنات الأخرى؟
نحن قيل لنا وصدّقنا.. بل يجب أن نصدّق، وإلا..
(عدّل من جلسته) ثم إنها مسألة تهم كبار رجال القضاء، ونحن لا يجب أن نخوض فيها.
ـ سين:
بصراحة، أنا لم أقتنع بعد بحيّة يمكن أن تمارس السلطة.. ثمّ كيف يمكن تمييزها عن بقيّة الحيات والأفاعي؟
ـ جودفري:
لكنها حيّة غير عاديّة.. وعلى ما أعتقد فإنها الحيّة الوحيدة في هذه الفيافي (مشيرا بيده وبصره إلى الامتداد)
ـ سين:
وهل تضع تاجا على رأسها ككل الملوك؟
ـ جودفري:
بالطبع.. في الحقيقة.. أعتقد.. ربما تضع ما يشبه التاج..
ـ سين:
وما هي أوصافها؟ هل هي جميلة؟ هل ترتدي لباسا محلّى بالزبرجد والياقوت والفيروز؟ وما لون شعرها؟ وهل..
ـ جودفري:
(مقاطعا) أنا في الحقيقة لا أعرف.. لكن رئيسنا سلّمني صورتها، وهي معي الآن.
(ويشرع في تفتيش ملابسه).. كانت هنا.. لا.. لا.. أعتقد وضعتها في جيبي هذا (ويشرع في البحث عن الصورة بصفة هستيريّة) غريب، كانت هنا.. ربما أخفيتها هنا..
(أسند ظهره إلى الصخرة وأرخى يديه متطلعا إلى السماء، بعد أن يئس من البحث عن صورة الحيّ’ القرناء)
ـ سين:
ألم تجدها؟
ـ جودفري:
(يصمت وهو يعض على شفته السفلى)
أعتقد أني نسيتها في مكان ما.
ـ سين:
(بسخرية) لا داعي للصورة، ما دامت الحية هي الملكة فإنها مميزة تأكيدا. ولن يعسر علينا تمييزها عن بقية الكائنات.
لا تنشغل كثيرا.. هيا نكمل مهمّتنا.
(يقف ويمدّ يده إلى جودفري كأنه يريد مساعدته على الوقوف، ويسيران على مقربة من بعضهما، يمسحان بالإبصار الامتداد الأجوف إلا من الصخر النابت في الرمل البتيّ الأشبه بلون الطين. وصفير الريح له صدى في آذانهما.
كل المشاهد توحي باستحالة الحياة في هذا القحط والخراب. فجأة ـ وقد أخذ منهما التعب كل مأخذ ـ تسمّرت الأرجل في الأرض، والتفتا إلى بعضهما في نفس اللحظة، ثم أشاحا بوجهيهما إلى الجبل)
ـ سين:
(مشيرا بإصبعه) هل ترى ذلك الكهف؟
ـ جودفري:
رأيته.. لذلك توقفتُ.. هل تظنّ؟
ـ سين:
نعم، أعتقد أنها تختبئ هناك.. فليس هناك مكان في هذا الامتداد يمكن أن يكون مقرا لها.
ـ جودفري:
لكن.. هل تعتقد أن الحيّة القرناء ـ وهي الملكة ـ ترتضي لنفسها كهفا عوض قصر يشيّد بأجْود أنواع الماس والفيروز؟
ـ سين:
………………
(أمسك كلاهما سلاحه متأهبا، وصارت الخطوات رصينة واثقة، يستبدّ بهما الوقوف بين الحين والآخر لمعاينة المكان… حين اقتربا من الكهف على بعد ثلاثة أمتار تقطّعت الأنفاس وتضاعف الانتباه)
ـ سين:
(بصوت خافت) أنا متأكد أنها هنا
ـ جودفري:
دعك من الثقة العمياء.. لا شيء يوحي بذلك.
ـ سين:
أشياء كثيرة.. أنظر (مشيرا بسبابته إلى الأرض) أليست آثار سحليّة أو ما شابهها؟ وما الذي يشبهها؟ لا شيء غير الحيّة.. أليس كذلك؟
ـ جودفري:
إذن، ماذا تنتظر؟ فلننقضّ عليها.. الغنائم في انتظارنا والأوسمة والنياشين.
عهدي بالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة (وبسخرية) لكنها أمطرت بشرا هذه المرة.(وأشاح بوجهه نحوهما)
ـ سين:
(وهو ما زال في حالة تأهب) هل تسخر منا أيها الشيخ المسنّ؟
ـ جودفري:
هل تريد أن تأخذ درسا في اللياقة والاحترام؟
ـ الشيخ:
(بصوت متقطّع فيه خشخشة، لكنه الإباء والثقة بالنفس، موجها كلامه لجودفري)
ومن أغراك أن تستشهد بدمي؟
ـ جودفري:
(رافعا سلاحه مهددا)
لسانك السليط أيها العجوز..
ـ الشيخ:
(رافعا بصره إلى الامتداد بحدّة)
هل تلقون سيوف عجزكم على الضعفاء؟ أنا يا بنيّ لست قدّيسا ولستُ نبيّا ولستُ جبّة عثمان تستر عورتكم كلّما عرّتكم السبل، وكلما عجز الأنبياء والرسل.
ـ سين:
(تقدّم بحذر خطوة، ومال بجسده لبوتقة إبصار الشيخ، كأني به يتثبّت إن كان الشيخ كفيفا. وقال بشيء من السخرية)
بماذا تهذي يا هذا؟ كيف تدّعي النبوّة ولا نعرف إلا نبيا واحدا؟
ـ الشيخ:
لا تحمّلوني وزر ما لم أقله.. ثم من هو نبيكم هذا؟
ـ سين:
كفى زندقة وإلحادا.. أين الملكة؟ وأين قصرها؟ وكم عدد رجالها؟ و..
ـ الشيخ:
(ابتسم واستدار عائدا إلى كهفه)
ـ سين:
قف مكانك وإلا..
ـ الشيخ:
(تجاهل كلام سين أو ربما لسنه لم يستمع إليه)
ـ سين:
قلتُ قف.. وإلا قتلتك أيها الوغد.
ـ الشيخ:
(توقف دون أن يلتفت إليه)
لا أحد يسوس هذه المنطقة
ـ سين:
وأين الحية القرناء؟
ـ جودفري:
أليست هذه المنطقة هي جبل الحيّة القرناء؟
ـ الشيخ:
يشاع…
(أكمل الشيخ سيره منحنيا داخل كهفه، فيما اعترى الجنديان الوجوم والحيرة.. اقتربا من بعضهما ولم يرفعا بصرهما عن الكهف)
ـ سين:
(وضع يده اليمنى على كتف جودفري، وسارا معا خطوات قليلة، ثم أومأ له بصوت خافت)
هل أخطأنا الطريق؟
ـ جودفري:
لا.. لا.. لا أظن ذلك، فالشيخ أكّد لنا أنها المنطقة التي نبحث عنها، لكن الشيخ أكّد أيضا أن لا أحد يسوس جبل الحيّة القرناء.. (باضطراب) لم أفهم شيئا.
ـ سين:
أنا أيضا.. (يصمت برهة، وبعد أن رفع يده عن كتف صديقه أكمل)
لي فكرة شيطانيّة
ـ جودفري:
وما هي؟
ـ سين:
سترى بأم عينك.(قالها، ثم توجّه إلى مدخل الكهف بحذر، رافعا سلاحه مناديا)
أيها الشيخ (يصمت قليلا) أيها الشيخ.. يا شيخ الكهف.
ـ الشيخ:
(خرج الشيخ يتعثّر في جلبابه، تسبقه عصاه، ولم يبرح مدخل الكهف، وأومأ لسين برأسه، كأنه يطلب منه حاجته)
ـ سين:
بإذن من هيئة المحكمة العليا الموقرة، أُمرنا بإحضار ملكة هذا الجبل.. الحية القرناء.. لذلك وجب علينا ـ وأنت الحاضر الوحيد هنا ـ أن تدلنا على مكانها، وإلا..
ـ الشيخ:
وإلا ماذا؟
ـ سين:
وإلا اعتبرتَ متستّرا على مجرم حرب. وبالتالي قدناك إلى القضاء لينظر في أمرك.
ـ جودفري:
(طأطأ رأسه مبتسما كأن الفكرة أعجبته)
ـ الشيخ:
يا بنيّ التاريخ لم يسْلم من خزعبلات التحريف والتوظيف المخزي للأحداث.
(وأخذ يروح ويجيئ)
حاكم جبل الحيّة القرناء، هو صاحب القولة الشهيرة:
” لقد كنتُ أعطي الخبز لكل جائع.. لقد كسوتُ كل من كان عاريا.. لقد ملأت الشطوط بالماشية الكبيرة، والأرض المنخفضة بالماشية الصغيرة.. ما ظلمتُ أحدا لقد كنتُ صانع معروف”
ـ جودفري:
(اقترب منه فجأة وهي يلقي بصره إلى الامتداد)
لم نر ماشية كبيرة، ولا صغيرة، لا خبز ولا هم يخبزون.
ـ الشيخ:
هاه.. إذن فهمتما اللعبة.
لم يكن كلامه إلا ضربا من الخطابة ككل الحكام الذين سبقوه، ومن سيأتي بعدهم. لذلك ضربت المجاعة أرجاءنا التي تبصرون.. مات من مات.. هاجر من هاجر، ولم يبق غيري، أقتات من النبات وما يمنّ به العابرون.
ـ سين:
والحيّة القرناء؟
ـ الشيخ:
ضحك عليكم، كما ضحك على رعيّته. هل يمكن أن تحكم أفعى بشرا؟
ـ جودفري:
(بغضب شديد) اسمع أيها الشيخ.. دعك من المراوغة، فلن توصلك إلى مبتغاك. أنتَ تتستّر على الملكة، وإذا واصلتَ في صلفك هذا، فإنني مجبر على اقتيادك إلى القضاء.
هيا.. قل لها أن تخرج من كهفها هذا، وإلا اقتحمناه وشتتنا دماءها على الصخر.
ـ الشيخ:
(مبتسما) إنه غار وليس بكهف.
ـ جودفري:
(صارخا) كفى زندقة.. هيا قم بما أمرتك به.. هيا وإلا ..
(انزاح الشيخ قليلا عن مدخل الغار، وأشار بيده أن ادخلوه)
ـ جودفري:
(ملتفتا لصديقه) فتّش الكهف.
ـ الشيخ:
الغار..
ـ سين:
(موجها كلامه لجودفري) أنا ؟ لكن.. لا.. هذه مخاطرة.
ـ جودفري:
أية مخاطرة هذه؟ هل تخاف كهفا يسكنه هذا المسنّ؟
مم تخاف؟ هاه..
ـ سين:
قلتُ لن أدخل الكهف.. وما أدراني أن الحيّة القرناء لا تختبئ داخله، فتنقضّ عليّ بأنيابها وسمّها فترديني قتيلا؟
لا.. المسألة أخطر من ذلك بكثير.. تُمسك أنت الأفعى وتقودها مقيّدة إلى القضاء وتنال العطايا والأوسمة والنياشين.. وأما أنا فأغدو أكلة شهيّة لملكتك هذه.
ـ جودفري:
(مستجديا) يا غبيّ.. أنت سيقتصر دورك على المناورة واستكشاف المكان، وأما أنا فسيكون دوري مباغتتها إن خرجت من جحرها… متفقون؟
ـ سين:
قلتُ لن أدخل الكهف، يعني لن أدخله ولو على جثّتي.
ـ الشيخ:
(مبتسما) إنه الغار وليس الكهف.
ـ سين:
(ساخطا، وقد وضع سلاحه على رقبة الشيخ مهددا) قلت لك كفّ عن اللغو، وإلا قطعتُ لسانك (متوجها بكلامه إلى جودفري) قلتُ لن أدخل الكهف.
ـ الشيخ:
(اقترب من مدخل الغار مبتسما) استمعا إليّ.. سأحلّ الإشكال.
الاختلاف ضروريّ، ولكن يجب أن تتوصّلا إلى حلّ.
ـ سين:
(ساخرا) وما هو الحل أيها الحكيم ؟
ـ الشيخ:
أدخلُ الغار عوض عنكما.. وإذا وجدتها دخلتما عليها معا. [ التفتَ سين وجودفري إلى بعضهما، كأن الفكرة أعجبتهما، ولما أحسّ العجوز أنهما قبلا فكرته بحدسه، همّ بالدخول إلى الكهف]ـ جودفري:
إياك والخيانة..
ـ الشيخ:
(تجاهل كلام جودفري، ودخل ببطء غير مبال بما يحتويه الكهف من مخاطر، فالغار مقرّه وسكناه، وفيه يخلع تهبه إذا تعب)
ـ سين:
(أسند ظهره إلى صخرة كبيرة جانبت الكهف)
ـ جودفري:
(بقي يروح ويجيء محكما قبضته على سيفه، وهو يضرب الأرض بقدمه من حين إلى آخر) [بعد مدة ليست قصيرة طلع الشيخ من الكهف كهودج محلّى وجهه بإمارات اليأس والقنوط أو هوّ تعمّد تلك الملامح]ـ الشيخ:
يؤسفني أن أبلغكما أن الكهف لا يتوفّر على أيّ نوع من الحيوانات والزواحف، رغم رحلتي الطويلة والشاقة في البحث عن مبتغاكما.
ـ جودفري:
(بطمأنينة) هيه.. إذن، لم يبق أمامنا إلاك يا شيخنا.
ـ الشيخ:
بمعنى..؟
ـ جودفري:
بمعنى؟ المعنى جليّ وواضح وضوح عصاك تلك.. لا بدّ أن تعوّض الحيّة القرناء أمام القضاء.. (بدهاء) وهل نعود بدونها؟
ـ الشيخ:
وما دخلي أنا؟
ـ جودفري:
استمع أيها الشيخ.. يبدو أنك حكيم بما فيه الكفاية، ولا بدّ أمك ستفهم قصدي.. بمعنى سنتعاون.
ـ الشيخ:
وهل تتعاون الملائكة مع الشياطين؟
ـ جودفري:
(تظاهر بعدم الفهم) تدّعي أنك الحيّة القرناء، وأنك تستحيل إلى شيخ كلّما أردت الاختفاء.
ـ الشيخ:
ثمّ..؟
ـ جودفري:
ثم.. لا شيء (بثقة) ستحاكم محاكمة شكليّة.
ـ الشيخ:
(ساخرا).. وأودع السجن. يا لعبث الأقدار. تمتهنون التملّق والانتهازيّة على عجزي وفقداني لقوى الفعل والحركة. أفهم جيدا أي منقلب تنقلبون.
ـ جودفري:
(اقترب من الشيخ واضعا يده على كتفه، متظاهرا بالحميميّة)
يا شيخنا، لا خوف عليك، سيُحتفى بنا ونكرّم خير تكريم، وأعتلي أعلى المناصب و..
ـ سين:
(مقاطعا) بل قل نعتلي أعلى المناصب.
ـ جودفري:
(مكرها) بالطبع.. بالطبع.. أقصد نعتلي أعلى المناصب معا.. بالطبع معا.
(أشاح بوجهه نحو الشيخ) هيه.. وبعدها أتمكن ـ وفق ما أتوفّر عليه من نفوذ ـ من تهريبك.
لا..لا.. قد أمنحك منصبا مهما، فأنت رجل تقوى وعلم.
ـ الشيخ:
(يبتعد عنهما رافعا عصاه) يمكن أن أوافق على طلبكما، على أن تمنحاني ما يثبت صحة كلامكما. ثم من يدري أن حكم الإعدام لا يكون في انتظاري، بعد عرضي على محكمتكم الموقرّة؟
ـ سين:
يا شيخنا، أنصارنا منتشرون في كل مكان، ومعارفنا يعتلون أعلى المناصب.
ـ جودفري:
(مقاطعا).. لذلك فمحاكمتك عادلة
ـ الشيخ:
إذن…(مشيرا برأسه ليدلل على الموافقة)
الفصل الثالث
المشهد الأول
المكان فضاء بلا سمات.. عدا طاولة مستطيلة وعالية يجلس إليها هيئة المحكمة، رئيسها و بولس وماديلا.
وأمامها كرسي يجلس عليه جودفري محلى بزيّه العسكريّ.. على بعد أمتار قليلة يقف حارسان بأزياء عسكريّة متشابهة بانضباط شديد.
ـ جودفري:
سيدي الرئيس، سادتي القضاة.. بعد رحلة بحث شاقة، ارهقتنا المسافات والبراري الخالية، والقفر المميت، عثرنا على الحيّة القرناء ممددة على الرمل كأنها ألف نخلة تتمدد الواحدة تلوى الأخرى.
(يحاول استعمال يديه لتضخيم المشهد) تنفث سمّها على الرمل، فيسْودّ الصخر الصلد الأصمّ.
(صمت برهة، وغير نبرة صوته) أحكمنا خطة لمهاجمتها.. اقتربت منها لدغرها في منطقة بجسدها الممدد، أيقنتُ أنها المنطقة الأضعف في كامل جسدها. وكنت سادتي قد أمرتُ “سين” بالبقاء متوثبا حتى آمره، لكنه تصرّف عنوة عنّي وهاجمها بسلاحه الذي لا يخدش أضعف الكائنات (تصنع التأثر) فما كان من الحية القرناء إلا أن نفخت فيه من سمّها فأردته فحما فحيما.. سوادا لا يبين منه تفاصيل جسده وتموّجاته.
ـ الرئيس:
(متأثرا) أكمل يا جودفري.
ـ جودفري:
.. ومام ذلك المشهد، كان لا بد أن أثأر لصديقي دربي، فعالجت الحية بطعنة أولى وثانية.. وعاشرة، فيما كانت ما تزال منتبهة لصديقي “سين”.
الطعنات جعلت كامل جثتها تهتز اهتزازا البراكين.. ينتفض الرمل والغبار.. خلتُ معه أنه الفناء، لتسكن بعد ذلك سكونا إلى الأبد.. سكونا إلى الأبد.
ـ الرئيس:
(مستغربا) ولكن.. أين الحيّة؟ ألم تأت بها؟ وما قصّة ذلك العجوز الذي اصطحبته معك إلينا؟
ـ جودفري:
عفوا سيدي.. لكنني لم أكمل ما حدث بعد ذلك..
ـ الرئيس:
(يبسط يده إلى الأمام مشيرا إلى جودفري بالكلام)
ـ جودفري:
بعد ذلك بوقت قصير ـ وأنا أفكر فيما سأفعل بالحية ـ بدأت جثتها تتحلل شيئا فشيئا.. يذوب اللحم.. تنكشف العظام.. يضج المكان بالدود البشريّ وبالروائح النتنة والقيح والدم المتجمّد. فجأة وأمام ذهولي يخرج من تحت الركام واللحم ذلك الشيخ تسبقه عصاه.
ـ الرئيس:
شيء لا يصدّق، كيف ذلك؟ ثم كيف تستحيل الأفعى إلى شيخ؟
أمر لا يصدّق.. أمر لا يصدّق..
ـ جودفري:
بل صدّق يا سيّدي.. إنها أسطورة.. إنها مخلوق غير عادي.. إنه شيء من السماء.. ألست الحيّة القرناء مالكة الجبل؟
لذلك كان لا بدّ ن أقبض على هذا الوغد وأقتاده إلى عدالتكم.
بعد الاستماع إلى شهادتكم الوافية والضافية، نشكر لك صنيعك وبسالتك في الدفاع عن نزاهة القضاء وتمسّكك بشرف الجنديّة.
وقبل أن نأمرك بالانصراف، نحيطك علما أن ملفّك سننظر فيه، لمنحك ما تستحقّ من تكريم وترقيات (يرفع بصره)
والآن يمكنك الانصراف.. على أن تبقى تحت طلب هيئة المحكمة.
ـ جودفري:
(نهض من كرسيّه منحنيا.. وهو يتراجع إلى الوراء)
شكرا سيدي ألف شكرا..
ـ الرئيس:
(استنشق ملء رئتيه، واسترخى على كرسيّه وعلامات الانتصار بادية على محياه)
وأخيرا كسرتُ طلاسم هذا اللغز
ـ بولس:
(أدار كرسيه باتجاه رئيسه)
بعد اعتراف الحيّة القرناء.. هل تثبت التهمة ضد حاكم الجبل؟
ـ الرئيس:
بالطيع يا بولس (يصمت قليلا) لكن الحاكم فرّ كما تعلم.
إذن..(مشددا على حرف النون) يُعتبر ذلك الشاعر الذي قام بالعصيان، متهما بالدرجة الثانية بعد الحيّة القرناء.. أقصد الشيخ الضرير.
ـ بولس:
لكنه ضرير يا سيدي.
ـ الرئيس:
لا يهم.. لا يهم.. ما يهمنا الآن أنه المتهم الأول وكفى.
ـ ماديلا:
(بقلق) أنا ما يشغلني الآن، هو تلك المرأة التي أودعت السجن ظلما، وذهبت ضحيّة هرج ومرج.
… الأوغاد، كيف لنا أن نطاوعهم ونغرقها في تهم لم ترتكبها، وليست المسؤولة عنها..؟ كيف نحاكم من أجل أخطاء غيرنا؟
ـ بولس:
أخطاء غيرنا؟ (بتهكم) يا أستاذ، هي المسؤولة عن أخطائها وعن خلاعتها وعن دخولها مكانا مقدّسا دون إذن، وعن…
ـ ماديلا:
(مقاطعا) وهل هذه تهم يمكن أن نُحاكم من أجلها؟
ـ بولس:
لا تنسى أنك تطبّق القانون.
ـ ماديلا:
أي قانون هذا؟ أعطني فصلا واحدا.. بندا واحدا.. جزئية واحدة، تدين تلك المرأة.
ـ بولس:
(مرتبكا) من أين لك بهذه الأفكار؟ ثم لا تنسى العرف والتقاليد وحالة الطوارئ..
ـ ماديلا:
وهل نحن في حالة حرب؟
أنا أنادي بإطلاق سراحها فورا، ودون شروط، وإلا..
ـ بولس:
وإلا ماذا؟.. هاه.. ماذا تسْتطيع يا أستاذ أن تفعل؟
ـ ماديلا:
سأضطرّ إلى الاستقالة من منصب كهذا، لا يراعى فيه تطبيق القانون بالصيغ القانونيّة الدقيقة.
ـ الرئيس:
(ما زال منشغلا بترتيب بعض الأوراق والملفات الملقاة أمامه، لكن كلمة “الاستقالة” طعنت أنسجة جهازه السمعي وأربكته، فتظاهر بعدم السمع وطفَق يَطرق على الطاولة بإصبعه الوسطى طرقا خفيفا، مراوحا بصره بين مساعديه)
ماذا هناك؟ لماذا كل هذا اللغو؟ هل تختلفون في مثل هذا الظرف؟ ثم إننا لم نُكمل المحاكمة.. محاكمة الحيّة القرناء.. أقصد الشيخ.
ـ ماديلا:
عفوا سيّدي.. ولكنني مضطر إلى الاستقالة من منصبي هذا إذا لم تُصدروا أمرا بإطلاق سراح المرأة المحتجزة.
(يصمت برهة) البارحة قضيت الليلة قياما أنظر في التهم المنسوبة إلى تلك المرأة، ودرستُ كل تفاصيل القضيّة وما حفّ بها.. فلم أجد جزئية واحدة تدينها.
ـ بولس:
(بحدّة) كفاك لغوا، ألم تقتل ابنها؟ ثم ألم يكن ذاك الابن من الزنا؟ إذن، فهي فاجرة، والفجور يعاقب عليه القانون.. أفهمت؟
ـ ماديلا:
أولا، يا محترم..
ـ الرئيس:
(مقاطعا) دعنا من هذا الموضوع الآن.
ـ ماديلا:
من فضلك يا حضرة الرئيس، دعني أدافع عن آرائي.
أولا، اتهامها بالحضور دون إذن، تهمة باطلة. ثانيا، إدانتها بقتل ابنها باطلة، ذلك أنه لم تتوفر للمحكمة ضحية ولا أداة جريمة. أما ممارسة الرذيلة، فهي بلا شهود. ثم يا أستاذ القانون، لماذا لم تدينوا أحد الملوك لأنه الأب الحقيقي لذلك الطفل غير الشرعيّ.. هاه؟ أم هو القانون أيضا؟
ـ الرئيس:
(موجها كلامه لماديلا يصوت في حدة) يكفي سيد ماديلا لقد تجاوزت حدود سلطتك القضائية.
ـ ماديلا:
أنا لم أخرج عن سياق القضاء.
ـ الرئيس:
خرجت أيها المحترم من القضاء إلى السياسة، لذلك رجاء التزم حدودك القضائية.
ـ ماديلا:
يؤسفني أن أعلمك سيدي الرئيس أن ما قلته يعدّ تعسّفا عليّ وعلى مهنتي. لذلك أنا مستقيل.
(وشرع في جمع أوراقه ليدسها تحت إبطه، ومن انصرف متعجلا)
ـ الرئيس:
(ألقى قلمه على أبعد ركن من الطاولة، وعلامات الغضب بادية على ملامحه، كأن ما تمناه لم يكتمل.. لم تتمّ المحاكمة كما كان منتظرا. التفت إلى بولس بقلق)
أكتب النص التالي…
ـ بولس:
ماذا يدور برأسك حضرة الرئيس؟
ـ الرئيس:
سنوجه مكتوبا إلى كل المسؤولين نعلمهم بقرار ماديلا.. (مشيرا بسبابته إلى الأوراق التي أمام بولس) أكتب التالي..
ـ بولس:
حاضر…
ـ الرئيس:
إن الخدمات الجليلة التي قدّمها ماديلا للقضاء ولخدمة القانون، لا تفيها الجوائز والأوسمة والنياشين حقها وحقه.
لكن ما ألمّ بماديلا من مرض عضال جعله يتخلّف عن مهاته، هو الذي دفعنا إلى إعفائه منها، لاستحالة القيام بدوره.
….. والسلام.
(أشار بسبابته إلى الورقة التي يخط عليها بولس)
أكتب البروتوكولات الضرورية في مثل هذه الرسالة، وابعثها إلى السلط المتخصصة.. واضح؟
ـ بولس:
واضح سيدي.
ـ الرئيس:
علينا الآن أن نسْتدعي الحيّة القرناء لمحاكمتها.. علينا أن ننتهي من هذه المحاكمة.. لقد عيل صبري.
ـ بولس:
سيدي الرئيس.. ما رأيك في تعويض ماديلا؟
ـ الرئيس:
الموضوع شائك جدا.
ـ بولس:
سيدي الرئيس، ما رأيك في تعويض ماديلا؟
ـ الرئيس:
دعنا من هذا الموضوع الآن.. ثم يجب أن نُكمل المحاكمة برئيس ومساعد واحد، حتى لا ينشأ بيننا.
(مسح على ذقنه) المهم الآن أن لا تبعث الرسالة تلك حتى ننتهي من المحاكمة، لكي لا يُعاب علينا عدم الاسْتنْجاد بمساعد ثان.
ـ بولس:
سيدي.. لنتفادى الإشكاليات، يجب أن نُعين الآن مساعدا ونعلمهم بذلك.
ـ الرئيس:
ومن يا تُرى تراه صالحا لهذه المهمّة؟
ـ بولس:
جودفري..جودفري سيدي..
ـ الرئيس:
أمممه.. فكرة جيّدة.
ـ بولس:
… ثمّ إنه خدوم ومتفهّم، وبتعيينه نمنحه فرصة لتدعيم سجلّه المهني.
ومن جهة ثانية ـ وهو الأهم ـ نكسبه نصيرا لنا ومُعينا.
ـ الرئيس:
………………
ـ بولس:
هل نسْتدعه؟
ـ الرئيس:
………………..
ـ بولس:
نعيّنه أولا، ونبعث الرسالة أثناء المحاكمة، حتّى نضع المسؤولين أمام الأمر الواقع، وهل يتجرّؤون على إيقاف المحاكمة؟ بالطبع لا.
ـ الرئيس:
استدعه حالا.
ـ بولس:
(يلتفت إلى يمينه حيث يقف حرس محكميّ على بعد أمتار)
آتني بجودفري
ـ الحرس:
حاضر سيدي
ـ هتف هاتف:
جودفري…
ـ جودفري:
(يطلع من بين العتمة ويتقدّم منحنيا، وقد اختلطت في داخله مشاعر الخوف والتساؤل والحيرة. غير عارف أي البلايا نازلة على قمم رأسه.. فيما تهيأ رئيس المحكمة لاستقباله)
أمركم سيدي.
ـ بولس:
اسمع جودفري.. حضرة الرئيس سيكلفك بمهمة…هاه.. وعليك أن تكون عند حسن ظنه بك.. واضح؟
ـ جودفري:
بالطبع.. بالطبع سيدي، أنا دائما في الخدمة (وأكمل بصوت منخفض) لماذا أكلّف دائما بالمهمات الصعبة.. صرتُ كالكلب عرضة دائما لبنادق الصيد والوحوش الكاسرة.
ـ الرئيس:
(أطرق قليلا) لثقتنا بك وبوفائك لسلطة القضاء.. قررنا تعيينك مساعدا لهيئة المحكمة العليا للاستفادة من خبرتك، ولمساعدتنا على حلّ بعض المسائل المستعصية.
ـ جودفري:
سيدي.. لكن…
ـ الرئيس:
(منبها بسبابته) على أن تُخْلص للقضاء وللعدالة، ولا شيء غيرهما.
ـ جودفري:
أمركم سيدي.
ـ الرئيس:
إذن تلتحق بمن سيسلّمك زيّ المساعدين.. تُصلح هندامك.. تحتفظ بزيّك هذا.. من يدري؟
(والتفت لبولس) امنحه ما يلزم من وثائق لإتمام الإجراءات التي ذكرت.
ـ بولس:
(يشرع في قراءة ورقة بصوت خافت لا يُسمع، ثم يُخرج من جيب تحت إبطه ختما مشدودا بسلسلة ذهبيّة إلى ميْدعته ويختم بها الورقة، ثم يمدّها إلى جودفري)
هذا هو المطلوب.. أسرع ولا تتأخّر، أمامنا عمل كبير.
ـ الرئيس:
بالطبع.. بالطبع يا سيّدي (يصمت برهة، ثمّ ينحني على رئيسه هامسا)
جودفري كان من قواتنا السريين الذين نفّذوا مهمات كثيرة وصعبة. وكانت له أسماء عديدة مسْتعارة حتّى لا يكتشف أمره. أما اسم جودفري، فهو اسمه الحقيقي.
المهم يا سيّدي أنْ لا أحد أثبت ضدّه أيّة زلّة أو رائحة للخيانة.
ـ الرئيس:
حسنا.. ولكن لماذا بقي إلى الآن في مرتبة دنيا؟
ـ بولس:
في الحقيقة.. في الحقيقة لا أعرف يا سيّدي، ولكن أعتقد أن لا أحد بإمكانه خلافته في مهامه الصعبة تلك.. لذلك لم يعيّن في مناصب عليا.
ـ الرئيس:
سأنظر في الأمر
(فجأة طلع عليهما جودفري من العتمة محلّى بزيّ محكميّ موشّى بالنياشين )
ـ بولس:
(ملتفتا إلى رئيسه)
ها قد وصل جودفري يا سيّدي.
ـ جودفري:
(انتصب أمام طاولة هيئة المحكمة منحنيا)
ـ الرئيس:
(مشيرا بيده إلى كرسيّ ماديلا الشاغر على يمينه)
تفضل خذ مكانك هنا بجانبي.
ـ جودفري:
(تقدّم برهبة شديدة تغلّفها الثقة والاعتداد بالنفس.. جلس على كرسيّه حذو رئيس المحكمة واضعا يديه على مرفقي الكرسيّ، متأملا إياه قائلا لنفسه ” ليتهم يسْمحون بتنصيب مرايا هنا، حتى أشاهد انعكاس السلطة على وجهي”.. التَفَتَ يمنة ويسْرة، وبسَط أوراقا بيضاء على الطاولة كان قد جلبها معه. أسند رأسه إلى الكرسيّ متطلّعا إلى الأفق)
ـ الرئيس:
(وقد فاجأه جودفري) جودفري، سنبدأ في محاكمة الحيّة القرناء.
ـ جودفري:
(مصححا) الشيخ يا سيّدي
ـ بولس:
(ينحني قليلا إلى الأمام كي يراه جودفري ويعض على شفته السفلى، يطلب منه السكون)
ـ الرئيس:
(موجها كلامه إلى بولس)
فلنعقد جلستنا الأخيرة لمحاكمة الحيّة القرناء
ـ بولس:
ما المطلوب يا سيّدي؟
ـ جودفري:
ما المطلوب يا سيّدي؟
ـ الرئيس:
(يصمت برهة)
المحاكمة يجب أن تكون علنيّة وتوجّه فيها دعوات إلى كلّ من الأيمّة الشرفاء والملوك الحكماء (وبلا مبالاة) والشعراء، حتّى تكون المحاكمة نزيهة وشريفة، وبحضور كلّ القوى الفاعلة..
ـ جودفري:
(مقاطعا)
ما معنى القوى الفاعلة سيّدي؟
ـ الرئيس:
(متجاهلا)
ومن تغيّب فليس من حقّه الاحتجاج على المحاكمة ولا الأحكام الصادرة.
ـ بولس:
(موجها كلامه إلى الحرس المحكميّ الماثل على مقربة منه)
فلتتشكّل المحكمة.
ـ الحرس:
أمركم سيدي
ـ هتف هاتف:
محكمة…
المشهد الثاني
الفضاء يغص بالحاضرين
المتلهّفين للمحاكمة، فقد عيل صبرهم ونَفَذ ما ادّخروه من تحمّل.
….الصمت ماثل كسحابة تغطّي كل الرؤوس والعمائم والتيجان، وكعادة المحاكمات جميعا، اصطفّ الشيوخ/ الأيمّة في الجهة اليمنى من طاولة القضاء، ونزْر من الشعراء أخذوا اليسار. فيما تغيّب العدد الكثير منهم احتجاجا على اقصائهم عند إدلاء الحضور بشهاداتهم عن المرأة المتّهمة:
“فكلّ من كتَبَ شعرا أو أوحيَ إليه وكان قد أحبّ امرأة أو عشق أو كتب عنها في شعره، فهو مُقصى من الشهادة في كلّ القضايا التي تهمّ امرأة مهما كان عمرها، حسبما يضبطه القانون”
هذا إضافة إلى اغتيال رفيقهم عند محاولته الإدلاء باسم المتّهم الأوّل، بعد أن استحال على القضاء معرفة اسمه.
أما الملوك والحكام، فقد توسّطوا المجلس، تُحلّي صدورهم النياشين والاسبليطات على أكتافهم والتيجان تتربّع على صلعاتهم.
طاولة السلطة والقضاء تنتصب بعليائها وقداستها أمام الحضور جميعا، وحرس محكميّ يطوّق المكان على غير العادة. وعلى غير العادة طاولة صغرى حذو طاولة القضاء لا تتسع لأكثر من فرد.
دخلت هيئة المحكمة، يسْبقها وقارها وزيّها المحكميّ يشي بالرهبة والخشوع.
.. انتصب الحضور جميعا وقوفا تحيّة وإجلالا للقضاء.
شرع رئيس المحكمة ـ بعد أن أذن للحضور بالجلوس ـ في ترتيب أوراقه على الطاولة، فيما طفق جودفري وبولس يعدّلان من جلستهما ويسوّيان لباسهما.
ـ هتف هاتف:
عملا بالقوانين التي شرّعنا، وطبقا للنواميس التي أسسنا، تمْثل أمام عدالة المحكمة الموقّرة المتّهمة الحيّة القرناء، طبقا إلى التهم المنسوبة إليها.
حصل هرج ومرج وفوضى، وطغتْ على الحضور تساؤلات واستفهامات ومراوحة بين الشك واليقين..
ـ الرئيس:
(ضرب رئيس المحكمة بمرزبّته على الطاولة يطلب الهدوء والإنصات، حتى خفّت حدّة العربدة قليلا، وغطّ الهدوء الفضاء)
آتونا بالمتهم
ـ بولس:
آتونا بالمتهم
(نظر رئيس المحكمة إلى جودفري بشزر ينمّ عن عدم الرضى)
ـ الحرس المحكميّ:
أمركم سيدي.
(ما هي إلا لحظات حتى أوتي بالشيخ بسلاسل ثقيلة، يطوّقه الحرس المحكميّ بشدّة وهو يُقاد إلى منصّة الإدانة ثم تراجع بهدوء)
ـ الرئيس:
(تفرّس في وجه الشيخ غير قادر على إخفاء حيرته)
هل أنتَ الحيّة القرناء؟
ـ الشيخ:
لك أن تختار لي ما تشاء من الأسماء
ـ الرئيس:
قبل إدانتك أيها الشيخ.. هل لك أن تبيّن للحضور ولعدالة المحكمة، كيف تحوّلتَ من حيّة ضخمة قرناء إلى شيخ؟
ـ الشيخ:
……………….
ـ الرئيس:
حتى وإن كان سرّا، يجب أن تطلعنا على كل التفاصيل حتى تسْتطيع الدفاع عن نفسك.
ـ الشيخ:
(مبتسما)…………….
ـ الرئيس:
لنبدأ من البداية (موجها كلامه إلى بولس) سجّل يا بولس (رفع رأسه قليلا جامعا ما ما تشتّت من الجديّة) ما اسمك أيها الشيخ؟
ـ الشيخ:
“باب إيلو”
ـ الرئيس:
لماذا تنكر اسمك الحقيقي.. الحيّة القرناء؟
ثم ما معنى هذا الاسم؟ “باب إيلو”…
ـ الشيخ:
من الحكمة أن لا نسأل ماذا تعني أسماؤنا؟
ـ الرئيس:
.. هذا إذا كنا لا نمثّل إشكالا أو خطرا على الأمن العام، وعلى وجودنا أو وجود البشريّة.. أمّا…
ـ الشيخ:
(مقاطعا) أي خطر أمثّلُ؟ ثم كيف أمْثُلُ ـ أنا الشيخ المسنّ ـ خطرا عليكم وعلى أسلحتكم وجنودكم وقواتكم السريّة والعلنيّة؟
ـ الرئيس:
(متجاهلا سؤاله) يقول السيد جودفري، إنك الحيّة القرناء، وأنّه حين قَتَل تلك الحيّة ونخرها الدود والقيح، طلعتَ من ركامها.
…إذن، فأنت روحها أو باقيها… أو … لا أدري؟
ثمّ إنك كنتَ موجودا في المكان نفسه الذي توجد فيه تلك الحيّة، أي جبل الحيّة القرناء.
ـ الشيخ:
(بوقار وراحة بال) ولكن من هو السيد جودفري هذا؟
ـ الرئيس:
(مشيرا بيده إلى جودفري) هذا الذي يجلس على هذه الطاولة الموقرة.
ـ الشيخ:
يكذب.. يكذب.. يكذب..
ـ جودفري:
(يهتف بهدوء من يمتلك السلطة، مشيرا إلى الشيخ بطرف عينه)
يا سيدي الرئيس، شيخنا هذا ـ ونظرا إلى كبر سنّه ـ يكون قد نسيَ ما اتفقنا عليه.. (متداركا) أقصد ما حصل زمنئذ.
ـ الرئيس:
(يطلب بيده من جودفري أن يجلس) ربما…
المهم أيها الشيخ إنكارك لا يُجدي نفعا، ونحن نطلب منك المساعدة كي تُنير لنا ديجور الحقيقة.. والآن أطلب من السيد “قيافا” التدخّل (مشيرا بيده إلى الطاولة الصغيرة المفردة)
ـ قيافا:
أيها الشيخ، من يقف وراء حاكم جبل الحيّة القرناء؟
من حرّضه على الهروب؟ من حرّض الشعراء على العصيان وتهديد أمن القضاء؟ كيف تسْتحيل من حيّة إلى شيخ؟ لماذا هذا التحوّل؟ من حرّضك علينا؟ ثمّ لماذا ترفض الإجابة بصدق عن أسئلة رئيس المحكمة؟ وهل كنتَ ستقوم بأعمال أخرى؟ ما هي أهدافك الأخرى؟ أظنّ أنّ أهدافا أخرى ستنجزها؟ قل لنا ما هي؟ ومن هو المسْتهدف؟
ـ الشيخ:
(محدثا نفسه) السلطة.. هي السلطة لا شفاعة.
(وبصوت مرتفع موجها كلامه إلى الحضور) يشاع أنّ البريء متّهم حتّى تثبت تهمته (متهكما) أليس كذلك؟
هذا الكم الهائل من الأسئلة و التهم، لو ألقيتْ على جبل لصار عهنا منفوشا، فكيف على ضعيف مثلي؟
في الحقيقة أيها الشرفاء، لم أعد أوقن الآن هل أنا “باب إيلو” أم الحيّة القرناء. ثمّ أيها الشرفاء هل منكم من سمع بحيّة تسْتحيل شيخا أو نخلة تستحيل قاربا؟.. شمسا تستحيل قمرا.. سيفا يستحيل حجرا؟
ـ قيافا:
(مقاطعا) لكن حديد السيف كان حجرا خاما، تحت أنقاض الجبال الرواسي.
ـ الشيخ:
إذن خذ سيفك وأدْعُ له كي يصير حجرا.
ـ قيافا:
لكنني لستُ إلاها ولا ساحرا..
ـ الشيخ:
ولا أنا أيضا.
ـ قيافا:
وكيف تسْتحيل إلى حيّة إذن؟ لو لم تكن ساحرا أو إلاها (تدارك مرتبكا) أقصد.. أقصد.. أو من الخوارق…
ـ الشيخ:
(باطمئنان) وهل لك ما يُثبت كلامك؟
ـ قيافا:
جودفري، أثبت ذلك في شهادته.
ـ الشيخ:
لم أر الخصم حكما إلا هنا في محكمتكم هذه.. ثم هل كلامه لا يحتمل الكذب؟
ثم يا سادتي الشرفاء (ملتفتا إلى الحضور) جودفري هذا، قتل الشاهد الوحيد على كلّ ما حصل.
ـ الرئيس:
كفى لغطا أيها الشيخ.. بماذا تهذي؟ ثمّ من يريد التملّص من التهمة، لا يصنع صنيعك هذا، ويتّهم القضاء.
هذه لعبة حفظناها.. ألفناها (غاضبا) هيا اعترف، وإلا قمنا نعك بالواجب.
(يُطرق قليلا) هل تعرف كيف نكرّم الضيف؟
ـ الشيخ:
………………….
ـ قيافا:
(التفت إلى رئيس المحكمة، كأنه يسْتسمحه في الكلام، ثم التفتَ إلى الحضور)
أيها الحضور.. إن هذا الشيخ بدّد وقتكم وأدخل المحكمة في مهاترات كثيرة، وبسببه أو يأمر منه ألّب علينا بعض بالشعراء وتسبّب في هروب ملك الجبل.. إذن فهو المتهم الآن.
أيها السادة الكرام (مرّزا بصره على جهة الحكام والملوك) إنّ هذا الشيخ زوّر هويّته محاولا التخفّي عن القانون وعن دستورنا ونصوصنا القضائية. (يلتفت إلى الأيمة والشيوخ) إنّ هذا العاق الملحد، يجب ن ينال جزاءه لتلاعبه بالنصوص الشرعيّة وتهكّمه على المقدّس… لذلك أطالب بإعدامه عقابا على ما اقترف من جرائم.
ـ الشيخ:
أين الجريمة؟ أين أداة الجريمة؟ أين الشهود؟ أين العدل؟ أين القانون؟ أين..
ـ بولس:
(يهمس إلى الرئيس) يبدو سيدي الرئيس أن هناك مشكلة.
ـ الرئيس:
(يهمس) هل خدعنا جودفري؟
ـ بولس:
ربما.. أعتقد أن المسألة شائكة.
كثر اللغط والفوضى بين الحضور، خاصة من جهة الشعراء.. فالشاعر أسوأ من يستمع إلى الشعر، فما بالك بالقضاء..
وقف شاعر عليه علامات الغضب وعدم الرضان رافعا يده يطلب الكلام أو ربما تفسيرا.
ـ الرئيس:
ما طلبك أيها الشاعر؟
ـ الشاعر:
لي ملاحظة.
ـ الرئيس:
وهل هذا وقت الملاحظات؟
ـ قيافا:
اسمح له بالكلام سيدي الرئيس.. قد يُدلي بشيء مهمّ.
ـ الرئيس:
(متأففا) تفضل..
ـ الشاعر:
أنا ورفاقي نطلب من عدالتكم إقصاء جودفري حتى يدلي بشهادته
ـ الرئيس:
لكنه ألقى كل ما في جعبته، وهو ماثل أمامكم، ويمكن أن نطلب منه الكلام عند اللزوم.
ـ الشاعر:
يا سادتي.. وجوده في منصبه ذاك، بزيّه ذاك، حذوكم مقابلا لنا، يعطيه ثقة بأنه أبعد ما يكون عن التهم.
ـ قيافا:
(غاضبا) يكفي.. يكفي.. هل تساند الشيخ في ترهاته؟ هل يعقل أن نتّهم القضاء أيضا، كي يخرج الشيخ براء من تهمته كي يخرج منتصرا؟
ـ الشاعر:
المسألة لا تحتمل انتصارا ولا هزيمة. المسألة، مسألة عدالة.. مسألة قيم، وليست انتصارا.
الانتصار فقط يا سادتي للحق وحده.
ـ قيافا:
هل هي محاضرة في القيم؟ نحن أيها الشاعر أدرى بها منك. وما وجودنا في هذا الموقع، إلا تجسيدا لتلك القيم، ندافع عنها بكل ما أوتينا من قوّة.
ـ الشيخ:
إذن…(جلس الشاعر، لما تكلم الشيخ)
ـ قيافا:
إذن.. ماذا؟
ـ الشيخ:
إذن، يجب أن تتوفّر كل شروط المحاكمة، وإلا ابتَعَدتْ عن الحقّ. آم لو نعرف أيّ معنى للحق؟ وأي معنى للعدل؟
(أخذ يروح ويجيء أمام طاولة التحكيم مقيّدا بأغلاله، والحرس المحكميّ يتبعه بانتباه مخافة أن يخدعهم الشيخ، فيفكّ أغلاله ويهرب.. هروبا إلى الأبد.
فهروب الشيخ هذه المرة، قد يُلبس القضاء فضيحة لا خلاص منها)
…….تعلمون سادتي الكرام، أن العدالة أشبه بأجنحة الطير، إذا اختل جناح سقط الطير في الهاوية. وأن هذه العدالة لا تنتصب صحيحة معافاة، إلا ببنود. وأن ما يمثّل بنود القانون عند توازن أجنحة الطير هي الريشة، وبدونها ما كان الجناح ولا اتّزن الطير في طيرانه.
المسألة إذن، أخطر من هذه السهولة التي تتخذها محكمتكم لإلصاق التهمة بي، وأنا بريء منها.
ـ قيافا:
(يصفق بسخرية، كما لو أنّ الشيخ أكمل عرض فصل مسرحيّ)
أحسنتَ يا شيخنا.. أكمل..
ـ الشيخ:
(أطرق قليلا) ماذا لو كنتُ أنا الساخر منك (وابتسم ساخرا) أصفق على نجاح مسرحيّتكم هذه. لكن نجاحكم الحقيقي ليس في الكيفيّة التي صغتم بها القصّة، ولا في اختياركم للممثلين، ولا في الفاصل الزمني الطويل لهذه المسرحيّة.. ولكن في كسركم لأهمّ مقوّمات المسرح.. لا ركح ولا أضواء ولا ستائر .. والأهم من كلّ ذلك لا ثقة بينكم كممثلين، وبين الجمهور الحاضر لمشاهدة العرض.
(يلتفت إلى الحضور) فكيف أيها الكرام أكون الممثل، ولا ممثل إلا من يقبع قبالتكم بأزياء متشابهة، ما عهدتها عند أبطال المسرحيات.
كثر هرج ومرج بين الصفوف، وتتالت مرزبّة القاضي بالطرق على الطاولة، دون جدوى. فما كان من القاضي إلا أن أشار بيده إلى الحرس المحكميّ كي يخترق الصفوف ليهدئ من الضجيج.. فامتثلوا للأمر المحكميّ.
لكن.. زاد الهرج والفوضى، واشتبكت القوات المحكميّة مع الحضور، فما عدتَ ترى جلوسا، وما عدتَ تُبْصر غير الكراسي يتقاذفونها مخلّفة عديد الإصابات بين الحضور.. سقط من سقط، وهرب من هرب.
المشهد الثالث
المكان جبليّ وعْر، والصخر الجارح يلمع تحت أشعّة الشمس الحارقة.. شيء من غبار في الأٌفق، ولا نبات يطلّ من شقوق الصلد، غير قتامة ترقرق في الفضاء فتحوّله إلى ما يشبه الظلمة، كأنّه كهف، وما هو بالكهف.
قيافا و جودفري و رئيس المحكمة وبولس وبعض الحرس المحكميّ جرّدوا من أسلحتهم، وقد قُيّدوا بأغلال أشبه بقناطير من الصخر على أعناقهم وحول معاصمهم وأرجلهم، وهو يولّون ظهورهم إلى منحدر صخرة شاهقة… عدد من الأفراد قبالتهم ترفرف فوق رؤوسهم فراشات النصر والانشراح، يتقدّمهم الشيخ “باب إيلو” بعصاه يدق بها الأرض، وهالة من النصر تحيط بوقفته.
ـ باب إيلو:
(موجها كلامه إلى الرئيس)
هيّا.. بمن نبدأ المحاكمة أيها الرئيس؟
ـ الرئيس:
………….
ـ باب إيلو:
أممممه.. لم يخطر ببالك أن تقف هذا الموقف ولو لحظة واحدة.. كان من الأفضل أن نحاكمكم حيث حاكمتمونا، ونحن أبرياء.
ـ الرئيس:
نحن نطبّق القانون، ولا شيء غير ذلك.
ـ باب إيلو:
قانون الأقوى؟ أليس كذلك؟
ـ الرئيس:
وهل أنا الذي كتبتُ القانون؟.. وجدته على علاته، فما كان منّي إلا أن طبّقته.
ـ باب إيلو:
لم تكتبه، ولكنك تسيء استخدامه.
ـ الرئيس:
ليس صحيحا.
ـ باب إيلو:
ما زلتَ تُكابر؟ حتّى وأنتَ تحت براثن أعدائك؟
ـ أحد الشعراء:
(موجها كلامه إلى باب إيلو) سنقتله يا شيخنا.. سنقتله.. لا شيء يشفي غليلنا إلاّ قتله.
ـ شاعر آخر:
سنجمع كلّ الأحكام التي نفّذها فينا، لنحكم بها عليه.
ـ شاعر ثالث:
لا بدّ من حرقهم، حتّى ينزاح عنّا هذا الكابوس.
ـ شاعر رابع:
لا بدّ أنْ…
وقال خامس وسادس وعاشر.. وتداخلت الكلمات والأصوات بالغضب.
ـ باب إيلو:
(استدار إليهم رافعا يده اليسرى، طالبا صمتهم، ثمّ اتّخذ حجرا عليّا عن الأرض وارتقاه)
اسمعوا.. المسألة أعمق من تنفيذ حكم الإعدام في هؤلاء، وأعمق من محاكمتهم أو حرقهم أو.. لستُ أدري..
القضيّة الرئيسة أيها الكرام، أعتقد أنها تتمثّل في مدى بقائنا بعيدين قدر الإمكان عن الظلم والطغيان وتسْخير القانون لغير أغراضه وأهدافه.
فهل بقتل هؤلاء يتحقق العدل؟
فهل بمحاكمتهم نضمن حسن تطبيق القانون؟
وهل يمكننا تطبيق القانون بنزاهته دون هؤلاء؟
ثم من أدراكم أن القانون نزيه؟
(تدخّل أحدهم مقاطها)
نُعدمهم ونؤسس لقانون جديد نسوس يه شؤوننا.
ـ باب إيلو:
ومن يكتب هذا القانون؟
ـ أحد الشعراء:
نحن نجتمع ونكتب قانونا وحدنا وحسب حاجاتنا.
ـ باب إيلو:
لكننا لن نسْلم بذلك من التطبيق المُخزي للقانون. فهل هذا القانون سيعبّر عن حاجات كلّ الذين لم يحضروا معنا؟ ثم من أدراك أننا نحن الذين نمثل كل الذين غابوا؟
ـ أحد الشعراء:
كيف؟
ـ باب إيلو:
والبقيّة؟… أي من لم يحضر، هل تراه يرضى بما أسسنا؟ وهل تراه يثق في ما قمنا به؟
(مسح كلّ الحضور ببصره، وهو يلوّح بسبابته) هذه هي المشكلة. لذلك وجب الحذر من إعادة أخطاء هؤلاء.
(فجأة ودون أن يكون للمفاجأة معنى غير معناها، خرج من الجمع أحد الذين يقفون في الصفوف الخلفيّة.. تقدّم ببرنس يغطّي رأسه وكامل جسده، حتى صار على مقربة من “قيافا” و “جودفري” ورئيس المحكمة.
رفع رأسه قليلا، وأشاح عن رأسه، فإذا هو “ماديلا”. ويا هول الفاجعة لما رآه رئيس المحكمة مع هؤلاء المرتزقة)
ـ الرئيس:
(تفرّس في وجه ماديلا بدهشة)
أنتَ؟
ـ ماديلا:
(مزهوّا) نعم سيدي الرئيس، أنا ماديلا بلحمه وشحمه.. نعم أنا يا رئيس المحكمة، وما العيب في أن أكون أنا هنا؟.. ما العيب في أن أكون مع الحق.. مع القانون.. مع المستضعفين.. مع نفسي.. نعم مع نفسي..
ثمّ ليست المسألة في أن أكون في هذا المكان ومع هؤلاء، المهم أن أكون هنا ضدّ الظلم.. ضد الطغيان.. (بسخرية) ضدّ بنود القانون التي تُختم دائما بــ “حسبما يضبطه القانون”.
يا سيّدي.. كل الشرفاء يجب أن يكونوا الآن هنا معنا ضدّكم، وإلا انتشر الخراب.
ـ باب إيلو:
بالطبع.. بالطبع، فلما تترك حمارك دون عقال يرعى في مزارع غيرك، من السهل عليك أن تقول أنّك لم تخلق الحمار، ولم تزرع الشعير، ولم تترك المزارع دون سياج.
كذا القانون يا حضرة الرئيس. إنه الحمار والعقال الذي من المفروض أن يمنع الكارثة، ليس شيئا آخر غير الضمير. يجب أن تعرف أنّ الضمير هو ورقة التوت التي تُغطّي عورة القانون. وبسقوطه تنكشف وحشيّة القانون وتسلّطه.
(يلتفت إلى جودفري، ثمّ ينزل من عليائه ويقترب منه)
جودفري، ما رأيك الآن لو تحوّلتُ إلى صورة الحيّة القرناء والتهمتك متلذذا؟
ـ جودفري:
هيه..(ساخرا) لن تستطيع يا شيخنا.
ـ باب إيلو:
طبعا.. لأني لم أكن تلك الحيّة.
ـ جودفري:
بالطبع (مستدركا بشيء من الارتباك) أقصد.. ليس لهذه الأسباب.
ـ باب إيلو:
بسبب ماذا إذن؟
ـ جودفري:
….(يصمت قليلا)… لأن الحيّة القرناء لن تعود إلى الحياة.
ـ باب إيلو:
كيف إذن أخرج من حيّة ميتة؟ ولا تخرج منّي الحيّة وأنا الحيّ؟
ـ جودفري:
………………
ـ ماديلا:
(يتدخل فجأة موجها كلامه إلى باب إيلو)
يا شيخنا، المسألة أعمق من ذلك بكثير..(يلتفت إلى الحضور) إن المساجين الذين حُوكموا ظلما، يجب النظر في أمرهم. وكذلك هؤلاء الشرفاء (بسخرية) الذين أمامنا.
إنّ المرأة التي ألصقت بها مئات التهم، لم ترتكب ذنبا واحدا، سوى أنها أنثى (موجها كلامه إلى الرئيس) لذلك يجب أن تُعطي أمرا من مُعتقلك هذا بإطلاق سراحها فورا.
……….طبعا، سنطلق أحد جنودك ليُبلغ غيلانك بتنفيذ هذا الأمر، في انتظار معرفة وضعيّة بقية المساجين.
ـ باب إيلو:
هذا مهم
ـ قيافا:
المسألة ليست كما ترغبون، وما الرغبة قابلة للتحقيق دائما.
ـ ماديلا:
(مهددا) ماذا تقصد؟ هل تعني أنكم لن تُصْدروا هذا الأمر؟
ـ قيافا:
(خائفا) لا.. لا.. المسألة ليست كما تتوقّع.
ـ ماديلا:
إذن..؟
قيافا:
تلك المرأة.. تلك المرأة.. أقصد.. في الحقيقة..
ـ ماديلا:
(بصوت مرتفع) تكلّم.. ما الذي حدث؟
ـ الرئيس:
كل ما في الأمر أنّ.. (يٌطرق قليلا) أنّ تلك المرأة مرضت مرضا شديدا و.. و.. ماتت..
ـ ماديلا:
(شبك عشره على رأسه من هول الخبر) أيها الأنذال، مرضت مرضا شديدا؟ ههه، قل إنها ماتت تحت سياطكم.
ـ قيافا:
لا.. لا.. نحن لا نسْتعمل هذه الأساليب.. ثمّ.. ثمّ كانت بنْيتها الجسديّة ضعيفة، لذلك لم تتحمّل مشاق السجن.
ـ ماديلا:
أيها الأنذال…
(وبغضب شديد يصفع قيافا على خده) قل لي الحقيقة، وإلا قتلتكم جميعا وألقيتكم للجرذان.
ـ باب إيلو:
(يقترب من ماديلا، مربتا على كتفه كي يهدئ من روعه، وهمس)
ما هكذا يجب أن نتصرّف في المواقف الحرجة.. حافظ على هدوئك ما استطعتَ.
(دون سابق إعلام يدخل أحد الجنود محاولا التقدّم إلى الأمام رغم أغلاله التي تطوّق أقدامه، لكنه سقط ولم يسْتطع أن يتدارك سقوطه بوضع يديه.
اقترب منه باب إيلو وانحنى عليه يساعده على الوقوف رغم جثّته الضخمة وقوّة بنيته.. كان أشبه بالغول في الخرافات.. شارب عريض يحط على شفتيه، وأنياب بارزة كأنياب الخنازير.
رغم ضخامته، بذل الشيخ باب إيلو جهدا إضافيا ليسْتقيم الجنديّ واقفا)
ـ باب إيلو:
هل تريد أن تقول شيئا؟
ـ الجندي:
نعم.. نعم أيها الشيخ
ـ باب إيلو:
قل.. قل ولا تخف، نحن نسْتمع إليك بانتباه.
ـ الجنديّ:
(مرتبكا) في الحقيقة يا سيدي أنا.. أنا..
ـ ماديلا:
(بلهفة) هاه.. أنتَ ماذا؟
ـ الجندي:
أنا من قتل تلك المرأة.
(بمجرّد أن أكمل آخر حرف من جملته، حتى ارتمى عليه ماديلا بقبضته يريد خنقه، لولا تدخل باب إيلو. وبيد واحدة سحبه إلى الوراء سحبا قويا سقط إثره ماديلا على الأرض. ودون أن يتبعه بنظراته أكمل باب إيلو كلامه إلى الجنديّ)
وماذا بعد؟
ـ الجندي:
أعترف الآن أني أذنبتُ في حقّ نفسي وحق أطفالي.. أذنبتُ في حقكم جميعا.. كنتُ مضطرا لتنفيذ الأمر اليوميّ ولا خيار لي.
كنتُ.. (وأجهش بالبكاء) كنتُ أنفّذ إعداما بطيئا في كلّ الذين يحلّون ضيوفا على زنزانتي. وكانت تلك الفتاة (يسكت قليلا) لم تتحمّل المسكينة سوطي وصفعاتي وركلي على كل منطقة من جسمها.. لم تتحمّل المسكينة.. لم تتحمّل.
لمّا سقطت على ظهرها آخر مرّة، لم أكن أعتقد أنها ماتت، وككل مرّة صفعتها بسطل من الماء الساخن، معتقدا أنها فقدت وعيها لفترة، وأنها ستفيق.. لكن..
ـ ماديلا:
(مقاطعا بغضب شديد) لكن أيها الكلب.. لكن ماذا؟ ماتت؟ إمممه ماتت؟ أليس كذلك أيها النذل؟
(وطفق يروح ويجيء بين رئيسهم وقيافا وجودفري وجندهم) ممن ستهربون؟ من ضمائركم؟ من انسانيتكم؟ من التاريخ؟ من ماذا؟ ومن ماذا؟
(وبالإصرار نفسه) يجب أن نشكّل لجنة تنظر في مصير هؤلاء.. حذار من التشفّي ومن الانتقام ومن العاطفة. لا يجب أيها الشرفاء أن نسلك مسلكهم، فنهلك كما هلكوا.
ـ شاعر:
لا بدّ أن يهلكوا.
ـ شاعر آخر:
لا حياة لكم بعد اليوم.
ـ شاعر ثالث:
الموت…
ـ باب إيلو:
مهلا.. مهلا.. سيأخذ كلّ ذي حقّ حقّه.. سنحاول ما اسْتطعنا أن نحكم فيهم حكما نزيها وعادلا بعيدا عن الانفعال.
حصل لغط وفوضى وضجيج بدأ ينتشر بعبث.. ساد التململ بين الحضور وبدأ الجمع يتفرّق شتاتا، إلا من كان مقيّدا..
لم يفهم باب إيلو أيّ معنى لما يحصل حوله.. أخذ يمسح الفضاء بعينيه.. يتسلّق المجهول ببصره المرهق. وبسرعة اقترب منه أحد الشعراء صائحا:
حوصرنا يا شيخنا.. حوصرنا..
ـ باب إيلو:
ماذا تقصد؟
ـ الشاعر:
قواتهم حاصرتنا.. لن نفلت هذه المرة.. عتادهم يفوق عددهم.. كل أنواع الأسلحة.. هزمنا يا شيخنا.. هلكنا
(وشرع الشعراء يصيحون)
ـ الأول:
حُوصرنا.. حُوصرنا..
ـ الثاني:
اهربوا.. أهربوا.. أهربوا..
ـ الثالث:
أنقذوني سيقتلوني.. حاصروني..
رابع.. خامس.. عاشر..
لم يعد بالإمكان أن تدرك مصدر الكلام و لا معناه.. الكل يصيح.. الكل يحارب.. الكلّ يفرّ.. الكلّ يُقتل.. الكلّ يسقط.. الكلّ مُحاصر.. محاصر..
هوامش:
1و2 :مظفر النواب
3: فريديريك نيتشه
4: أبو العلاء المعري
5: الفصل الثاني من سفر التكوين
6: فريديريك نيتشه ___________
*كاتب تونسي.