*ناجح المعموري
سوزان سونتاغ حريصة جداً منذ يوم 3/11/47 وحتى آخر سنوات حياتها على كتابة يومياتها واحتفظت بها في خزانة ضخمة مع اعز محفوظاتها ، من صور العائلة وتذكارات طفولتها . والمثير للغاية في هذه اليوميات الخاصة بـ 1947ـ 1963 الصراحة الكاملة والذكاء الواضح والفطنة في التقاط ما هو مثير ومهم من التفاصيل اليومية التي تريد الإمساك بها لتشير الى تاريخ ما… وهي تدرك بشكل جيد ماذا تعني تلك الثيمة بعد عشرات السنين.
وتظل يوميات سونتاغ في الجزء الأول مثيرة جداً على الرغم من تدخلات ولدها ” ديفيد ريف ” في الحذف والإرجاء . كذلك هي صادمة لنا ، وتبدو أكثر من عادية بالنسبة للآخر الغربي ، لأنها / اليوميات / كشوف عن الحياة المعاشة هناك ، مع الحرية التي يتمتع بها الأفراد ، هذا بالإضافة الى قناعاتها الفلسفية التي جعلت من نيتشه أنموذجاً لها ومؤمنة بما قال وظلت تتداوله بقناعة تامة ، وتمظهرت تلك القناعة بالممارسة اليومية وأكثر التبدّيات لأفكار نيتشه العلاقة مع الجسد والموقف من الميتافيزيقيا والتماس الحساس مع الغيب . لذا كانت سونتاغ مدركة ماذا تعني اول يومية كتبتها في حياتها ، كاشفة بها عن الموقف الحياتي وما بعد الموت . حيث كانت متحررة ، مستقلة ، لم يكن لأحد تأثير عليها أو فضل في الأعداد والتأهيل ، كانت مؤمنة بقدراتها الذاتية منذ لحظة المراهقة المبكرة . حيث اقتنعت بأنها شخصية قوية ، امتلكت قدرات لم تتوفر لغيرها ، كذلك ميزتها موهبتها الخاصة ، وأيضا هي مدركة لإمكاناتها في المساهمة بالعالم والرغبة الضاربة والمطردة في تعميق وتوسيع معارفها باستمرار ـ مسعى احتل حيزاً كبيراً في يومياتها ، والتي حاولت أن اضمنه نفس الحصة في هذا المختارات ـ ” واظهر على نحو ملموس هذه الثقة بالنفس . كانت ترغب في أن تكون جديرة بالكتّاب والرسامين والموسيقيين الذي تبجلّ “.
لابد من ملاحظة ضرورية ، وهي بقاء خيط ملموس ثقافياً وفنياً وعلاقاتيا وموقفاً شخصياً بين المذكرات في الجزء الأول والثاني ، لكن يومياتها الثانية ، أكثر هدوءاً وسكوناً مريحاً ، وتضاءل فيها التوتر والشحنات اللذية القوية والصادمة ، وما يشير للامتدادات في يومياتها ، المواقف الفلسفية والعلاقة مع بعض الأدباء والروائيين .
شوبنهاور مثل نيتشه ووالتر بنيامين وهايدجر واسبينوزا وفلسفته الاختزالية وأيضا الياس كانتي ، الروائي الألماني وتوماس مان واندرية جيد وكافكا ….. الخ هذه ظلت حاضرة بفاعلية في حياتها وتلتقط منها شذرات وتدوّنها ضمن يومياتها . وظل حلم كتابة سيرة ذاتية عن اليأس كانتي ووالتر بنيامين يراودها . واقتبست من مقولة كانتي مؤيدة ( أحاول أن أتخيل احدا ما يقول لشكسبير ، ” على مهلك “.
تعاملت سوزان سونتاغ مع الفن ، قضية حياة وموت . وأكدت في الجزء الثاني على ضرورات حضور فلسفة الفن ، لأنه ـ الفن ـ لا يمكن أن يسجل حضوره الطاغي بغياب فلسفته الخاصة .
والمثير في اليوميات أن سونتاغ ظلت قوية ، متماسكة منذ شبابها وحتى شيخوختها ولحظات مرضها الخطير ، حيث كانت مؤمنة بمعاودة عملها الثقافي والأدبي ، بعد مغادرتها المستشفى . هي غير مؤمنة إلا بشيء واحد ، وهو الحياة فقط ، لان الحياة تمنح جسدها ما يريد ويحلم به من توترات حسية ، والإبقاء عليه ساكناً في شبق اللذائذ . ومن هنا سجلت أول يومية ، افتتحت بها هذا التاريخ التراجيدي ، الغريب والمدهش في آن : أنا أؤمن : بأنه ما من إله شخصي أو حياة بعد الموت . ب. أكثر الأشياء المرغوبة في العالم هي حرية المرء بأن يكون صادقاً مع نفسه ، بمعنى أخر ، نزيهاً . ج: الفرق الوحيد بين الكائنات البشرية هو الذكاء . د: المعيار الوحيد لأي فعل هو تأثيره النهائي في جعل الفرد سعيداً أو تعيساً .
هيمن عليّ تصور وجود نيتشه حاضراً بشكل وآخر لحظة كتابة يومياتها . تكرر مرات كثيرة في الجزء الأول صراحة . وله حضور قوي في استثمار وتوظيف فلسفته الخاصة بالجسد . وعبرت عن ذلك عبر احدى يومياتها 31/12/957، عندما تحدثت عن معنى تدوين اليوميات ، حيث قالت : من السطحي فهم اليوميات كمجرد وعاء لخصوصية المرء ، لأفكاره السرية ـ مثل صديق حميم مؤتمن ، لكنه أصم ، أبكم ، وأمي في اليوميات ، وأنا لا اعبر فقط عن نفسي بصراحة أكثر مما يمكن أن افعله مع أي شخص أخر ، أنا أبدع نفسي .
هذا اعتراف أكدته كل يومياتها . لأنها تتصرف وتمارس علاقاتها وشطحاتها وممارساتها السحاقية وانحيازها للمثلين ، وتصوراتها النقدية والمعرفية ، كلها وغيرها كثير ، هي نوع من التأكيدات الصارمة والدقيقة عن شخصيتها المعروفة ، وتلك غير المعلن عنها ، هي ابداع في كل شيء ، ووسيلتها لذلك هو الجسد والكتابة . وأنا استطيع اختزال ذلك بالجسد ، لأنه يمارس شحناته الجنسية بالآلية التي تشعر بها ضرورية لحظتها .. لا شيء يدنس لحظة طغيان الرغبة وتفجيرها ، إنها نوع من الكتابة بالجسد فوق الجسد .
سوزان سونتاغ هي الوحيدة المسؤولة عن أفعالها وشطحها الذي هو قيمة عليا بالنسبة لها ، وهو أيضا تمظهر لقناعاتها بآراء نيتشه . جسدها الذي يحدد لها المسلك ، عبر حسياته وغرائزه ، لذا تكشف يوميات الجزء الأول الذهاب لها بكل قوتها ، كي تعيش تفاصيل اللذة . وظل موقف نيتشه عن الجسد حاضراً بقوة ( أن تاريخ البشرية ، هو تاريخ إذلال الجسد واماتة الرغبات والتضحية بالذات ) لحظة الاندهاش بالحياة ، هي التعرف على جسدها جيداً وبوقت اكثر تاخراً عن غيرها من الفتيات ( حين كنت في السابعة عشرة ، اردت ان اكتشف ما هو الجنس ، فذهبت الى بار والتقطت بحاراً (( كان ذا شعر احمر )) واغتصبتُ ، على نحو جيد وملائم … يا يسوع لم استطع الجلوس لأسابيع وكنت خائفة جداً من أن احمل … ماريجوانا . في مصحة لفترة ” انهيار عصبي ” من يوميية 6/6/1949 .
سوزان سونتاغ : أريد أن اغني
هذا هو الجزء الثاني من مذكرات سوزان سونتاغ . وقد ترجمها الأستاذ عباس المفرجي أيضاً ، بالإضافة الى كتابها المهم ( حول الفوتغراف ) الذي رسمت فيه حدود وعيها العميق للفوتوغرافيا وسحبت فيه تفاصيل جماليات الصورة ، وتكاد تكون سونتاغ واحدة من ابرز المثقفين في العالم الذي استطاع أن يجمع بيد واحدة مزاولة الفوتوغرافيا في زمن الحروب ، ومعاودة كتابة ما سجلته صوريا أو تعيد كتابته روائياً ، وظلت هكذا ، حتى لحظنها الأخيرة . وربما تبدو مذكراتها في الجزء الثاني 1974 ـ 1980 مماثلة للجزء الأول . في كثير من الوحدات الفنية التي التزمت بها اليوميات من الاهتمام بالعديد بالأسماء اللامعة فلسفياً وروائياً وسينمائياً لكن اليوميات ليست كذلك ، هي نتاج زمنها وتفاصيلها السردية والذي يعرف شيئاً بسيطاً عن سوزان سونتاغ ، سيدرك بأنها مبدعة منفلته دائماً ومحلقة خارج الفضاءات الأخرى ، هي تستعين دائماً لاقتراح فضاء خاص بها . ومن يتذكر الجزء الأول من مذكراتها ، أو يعيد قراءة ملاحظاته عنها ، سيجد بأن سونتاغ الصاخبة والضاجة بتوترات الجسد وانقيادها الكلي لفلسفة نيتشه التي حررت الجسد تماماً من ضوابط العقل الحاكمة عليه بقوة . وجعلت من هذا الفيلسوف نموذجاً مقدساً لها . ويبدو لي بأن ديفيد ريف ، الابن الذي اعد المذكرات ، قد أدرك ما تعنيه العلاقة بين سونتاغ ونيتشه وشوبنهاور وهايدجر وكافكا . ظلت لاهثة وراء نيتشه ، لأنه منح جسدها طاقته وحرره من هيمنات خارج المحيط الخاص وتميز الجزء الأول بقوته وشحناته المتوترة والذهاب نحو العلاقة مع الآخر ، الذي يعني لها الحياة كلها ، أو هو كل شيء في العالم ، وكذلك هو كل التفاصيل . ومثلما قلت لكل جزء من مذكراتها خصائصه وتميزه بتفاصيل ذاتية دقيقة جداً . لكن لابد من الانتباه للجزء الثاني الأكثر توتراً واضطرابا وشداً باتجاه العلاقة مع الآخرين ، وكشفت لنا نوعاً حميماً من العلاقة مع المحيط الثقافي ، ولم تتكتم على العلاقة الذاتية والإعجاب الكبير بوالتر بنيامين احد فلاسفة فرانكفورت في جماليات الفن . وتبدّى لي قد وضعها باتجاه شارع واحد وما تنطوي عليه هذه المفهومة الخاصة لي ، كذلك قالت ما لم يقله مثقف أخر عن رولان بارت قبل وبعد وفاته ، وما يثير القارئ تلك الثنائية المحفوفة بجنون هادئ مع توماس مان وجوزيف برودسكي وكذلك الروائي الألماني اليأس كانتي ومراكش الضاجة بأصواته الموقعة بالعربية.
_______
*المدى