*د. شهلا العجيلي
الإنسانيّة تعود إلى المكان الذي قدمت منه، وكلّ ما حولنا يسقط بفجاجة! هذا ما يقوله مصمّم الأزياء البريطانيّ ألكسندر ماكوين (1969-2010)، وهو حين يشير إلى مجموعاته الموسومة بالجمال الوحشيّ، يؤكّد على أنّ هذا العالم ليس سوى غابة، وإنّ الأزياء تساعد على التخفيف من ازدراء الآخرين عبر الكشف عن جماليّات الأنساق الأخرى، وعدم التعامل معها على أنّها إكزوتيك. وفيما يتعلّق بالرؤية الإكزوتيكيّة، لن ننسى أنّ كريستوفر كولومبوس حين عاد من رحلته إلى أميركا جلب السكّان الأصليين في أقفاص، وعرضهم في شوارع غرناطة بوصفهم حالة إكزوتيكيّة مدهشة، وأنّ الشاعرة سهير حمّاد، الفلسطينيّة الأميركيّة صرخت بقصيدتها المحكيّة أنا لست عجبتك، // I’m not your erotic, I’m not your exotic!
هذه الرؤيات تفسّر وجود نساء بأخفاف الجمال وحوافر الخيول على منصّات الأزياء، وبجلود الحيوانات والفراء، إنّ في ذلك العالم الترف البرّاق الكثير من الازدراء، والتفكير الخبيث، والتسليع الذي يختبئ وراء أقنعة جماليّة.
ستظلّ النساء متعبات بسبب حرب الجبهات المتعدّدة تاريخيّاً، وطبعاً مع الوعي بذلك كلّه يصير التعب أفدح وأفدح، وبما أنّ الحروب تخرج أسوأ ما في البشر، ينقلب العالم مكاناً مقيتاً، وتسود حالات الاكتئاب والانتحار، والتطرّفات نحو اليمين أو اليسار، فالحرب تحمل فكرة الحفاظ على الذات الفيزيائيّة أوّلاً من الموت، ثمّ الحفاظ على النوع، ثمّ الهويّة، والإنسان قد يفعل أيّ شيء من أجل ذلك، لكن حتّى مع أعنف الغرائز، سيتفاعل وفاقاً لموقعه الثقافيّ.
يمكن تلخيص مشكلة النساء في هذا الإطار في الفصام الذي تعيشه المجتمعات في علاقتها بالمواقع الثقافيّة، ونمتلك في مجتمعاتنا قوالب لغويّة تفضح ذلك الفصام ببساطة، أقلّ ما فيها قول رجل بمؤهّلات ثقافيّة أقلّ لامرأة: “أنا لا أتكلّم مع امرأة”! أو أن يرفض أن تكون مديرته، أو معلّمته، أو طبيبته! ستجد المرأة أنّ قواها الشخصيّة لا تعني شيئاً، وأنّها بحاجة إلى الاستقواء بما هو خارجيّ،وهذا الوجه الأنثروبولوجيّ يظهر حينما يشعر الرجل بالحرج أو بالنقص، فيعود إلى قوّة الذكورة، ويعزّي نفسه بمكتسبه التاريخيّ التراكمي، أو الإلهيّ، مغيّباً الحقيقة، ممّا يزيد في مشكلة الأطراف كلّها.
تحارَب النساء عادة، لا من الموقع الثقافيّ، بل من الموقع الأنثروبولوجيّ الجسديّ، فتحدث فجوة مستهجنة في الخطابات، فهي تتكلّم من موقع ما فوق (الذكورة / الأنوثة)، في حين يتكلّم الآخر من موقعه الأنثروبولوجيّ الذي تحوّل إلى إديولوجيا، وهذا يبيّنه تحوّل معتقلات الرأي إلى مغتصبات، حيث تقدّم المرأة خطاباً عقليّاً، يقابل بازدرائها بسبب كونها امرأة، ومع التراكم التاريخيّ ستضطرّ إلى الكره، والعزوف، والاكتئاب، والعهر، وفي أحسن الأحوال ستتخذ موقفاً أيديولوجيّاً فتقبل بالتمييز الإيجابيّ الذي يسمّى (كوتا)، لا بسبب قدرتها، بل بسبب عدم نضج البنى الاجتماعيّة، أو تخلّفها النسبيّ.
تلجأ الميليشيات وأحياناً الجيوش النظاميّة إلى كسر شوكة العدوّ باغتصاب نسائه، ومن قال إنّ الحرب أخلاقيّة! ذلك هو موروث الديانات ما قبل التوحيديّة، والذي استمرّ في فاعليّته إلى اليوم، من الغزو إلى السبي، إلى بغايا للطقوس، كلّ ذلك يحمّل النساء هويّة ثنائيّة القطب: المقدّس والمدنّس معاً، فيورّثن المجتمعات أمراضاً نفسيّة جنسيّة لها علاقة بالمتعة والألم والساديّة والفيتيشيّة والتقوى والحرام… تكتسب فيما بعد أقنعة جماليّة كثيرة، وكنت قد ذكرت سابقاً أنّ الألمان في الحرب العالميّة الثانية صنّعوا لنسائهم ملابس داخليّة من حرير مظلاّت العدو الفرنسيّ..
ننتقل إلى الثورات التي يفترض قيامها تحرير العالم، ونسف الأفكار المسبقة بلا هوادة، والتي تتحوّل إلى العنف المعولم باسم الدين، وباسم العلمانيّة أيضاً ستجد: اغتصب نساء العدو، وانتهك ما يعزّ عليه، ورح الثورة معك… قد يترافق ذلك مع الاتّجار بأجساد النساء، نساء الآخرين.
لم تخرج الحروب كلّها عن أيديولوجيا الذكورة، ولا يكفي أن نستهجن أن يطلب الرجال والنساء الحريّة، ثمّ يشجّعون جميعاً على التعامل مع نساء الأعداء على أنّهنّ سبايا، ويوافقون على تحوّلهنّ إلى دمى جنسيّة. وحينما تأتي تلك المبادرات من قبل المرأة تكون أكثر وحشيّة، لأنّ المرأة تعلم مدى فداحة التحرّش والاغتصاب، وتعرف المدى الموجع والأثر الذي لايزول حتّى بالموت، لذلك ستطلبه لنساء الأعداء، وهكذا لن يشيخ الانتقام، ما دام ثمّة نساء تقبل أن تتشفّى بنساء العدوّ من موقع أنثروبولوجيّ، كما يفعل الرجال تماماً، بل يزدن في ذلك تحت عقدة التماهي مع الجلاّد. وستتذكّرون هنا صور المجنّدات الأميركيّات المتوحّشات وهنّ يتشفّين بأجساد الأسرى في (أبو غريب)، لأنّه لا يمكنكم النسيان!
أريد أن أذكّر أيضاً بتلك النوعيّة من المناضلين الذين يتجاوزون لحظة النضال اليوتوبيّة، التي تبثّها معتقدات يساريّة، أو خطب حماسيّة، ويعودون بعدها إلى موقعهم الأنثروبولوجيّ، إذ ينسون أنّ الحريّة غير مجزوءة، ويذكّرون رفيقة النضال بأنّ جسدها التصق في يوم ما بجسد أحدهم…
في الثورات لا تلتقي الخطابات، وما لم يتّفق المتقاتلون من أجل الوطن على موقفهم من القضيّة النسويّة، لن تنجح مساعيهم السياسيّة، نعم بهذه الصراحة، وبهذه الفجاجة. لا يمكن التقاء المناضلين من بنى فكريّة مختلفة، فذلك يعود إلى موقعهم الثقافيّ، الذي تنطلق منه مواقفهم تجاه القضايا الفلسفيّة العميقة، ومنها قضيّة الوجود، وقضيّة المراة. ربّما على الرجل أن يعود إلى ما قبل الكلام حتى يستطيع أن يتخلّى عن تناقضاته المؤلمة، أي إلى ما قبل النظام الأبويّ الذي هو نظام قامع لمخيّلته، بوصفه نظاماً رمزيّاً، ينظم الأفكار في لغة أحاديّة الصوت، يقودها العرف، والتصنيف النمطيّ، ولنوضّح تفاصيل تلك المرحلة أكثر فهي المرحلة التي تترافق فيها رائحة ثوب أمّه، مع حاجته إلى حليبها، وخوفه من أن تتركه في البيت وحيداً…هي المرأة ذاتها التي يجدها يوماً ما (الآخر الأقلّ)، وذلك حينما يكون قويّاً بالمفهوم الأنثروبولوجيّ، وهي ذاتها أخته التي منعته من أن يغرق في النهر..
الضعفاء من الرجال، أو الذين يكرهون الحياة، يزدرون النساء لأنهنّ سبب علاقتهم بالوجود، ذلك الفضاء الذي فشلوا أن يكونوا فيه شيئاً متحقّقاً. وحين يمرض الرجال، وتقطع الحرب سيقانهم، أو حينما يصيرون شعراء يكفّون عن ازدراء أمهاتهم.
بعد ذلك كلّه يحتفلون بآذار، بعيد الأمّ، والمرأة، والشعر، والمعلّم، والخصب، والانقلاب الربيعيّ، الذي يترافق مع أمراض الربو والحساسيّة، ومع الرياح العاتية، ومع آلامنا الشخصيّة!
________
*عمّان.نت