هجرة النفس


*عثمان بالنائلة


خاص ( ثقافات )
قضي الأمر و علم بموعد رحيله. كان قد أعدّ حقيبته و لم ينس أن يدسّ علب السجائر بين أدباشه. كان طيلة اليوم ينتظر اتّصال صديقه رفيق. فلم تقرّ عينه إلّا لمّا رنّ جرس الهاتف فهرع إليه و قد تبدّدت هواجسه في لحظة و انقضى توتّره. فبدا على وجهه الارتياح عندما سمع صوت رفيق يقول: “استعدّ فالموعد الساعة العاشرة ليلا بالبيت المهجور الّذي لا يبعد سوى بضع أمتار عن الشاطئ”. فأجابه مسرورا: “عجبا يا رفيق ألم يحدّد المكان آنفا ففيم إصرارك على تذكيري به”. فقال له صديقه هازئا: “ليس الحرص من العيب في شيء. المهمّ هو أن تأتي في الموعد. فإلى لقاء قريب”.
أنهى المكالمة فأحسّ بقشعريرة تسري في جسده. لم يدرك كنه ما يشعر به. أهو الضيق من قرب موعد سفره أم خوف قد بدأ يتملّكه لخطر توجّس منه. لقد حلم منذ بضع سنين بهذا اليوم و هذا الرحيل. كان يرى في هروبه بداية جديدة. نعم كان يدرك أنّ ما يقبل عليه هو سفر غير آمن. سفر للمجهول قد يفتح بين يديه أبوابا موصدة. أو بالأحرى هذا ما وطّن عليه نفسه. فألف الاستكانة إلى رأي صديقه رفيق. إذ لا تجمع بينهما سوى المودّة أو الصحبة الخالصة بل يجمع بينهما أيضا الشعور بالفشل و الغبن في كلّ ما صادفهما من تصاريف الزمن. إذ عانيا البطالة طيلة سنوات عديدة تتالت و تشابهت حتّى ظنّا أنّها الموت. هذا ما هوّن الحياة في عيني كلّ منهما. و جعلها ليلة مظلمة تقضّ مضجعيهما. و تدفعهما إلى التشبّث بدنيا الأحلام. فهي على وجهيها المحبّب و المنفّر تمنحهما القدرة على الإبصار. فتستأنس بها الأعين. و لا تجفاها كما تجفى الظلمة المطبقة. لطالما كان يظنّ أنّ وطنه هو البلاد الّذي نشأ فيها. لكنّه كفر بذلك يوم اكتشف وطنه الحقيقيّ ألا و هو جسده الّذي سكنه طيلة هذه السنوات و الّذي أشقاه الفقر و الجوع و الحرمان و الرضاء باليسير من كلّ شيء. لذلك أصرّ على المجاهدة في سبيله و الذود عنه. فهو الوطن الّذي يلزمه طيلة حياته. و عليه كسوته و إطعامه و متعته و إكرامه و السعي إلى تجنيبه المهالك. أمّا الانتقال من مكان إلى آخر طلبا للقوت كما جبل على ذلك الحيوان فهو أحفظ للنفس و أليق بالعاقل.
تفقّد أمتعته مرّة أخرى قبل خروجه من البيت. و ألقى نظرة فاحصة على كلّ زوايا غرفته قبل أن يغادرها. لم يكن يوجد أحد سواه في الشقّة. كانت شوارع المدينة شبه مقفرة بإستثناء مرتادي المقاهي و الحانات و أعوان النظافة. لم يكن يهمّه قبل ذلك أمرهم. إلّا أنّه هذه الليلة قد خطر له أنّ هؤلاء جميعا ظلّوا السبيل الّذي وجده. فألقى على كلّ من يعترضه منهم نظرة ملؤها الشفقة و العطف.
وصل أخيرا إلى البيت المهجور. فاقترب بحذر و هو يلتفت ذات اليمين و ذات الشمال. كانت حلكة الليل و وحشة المكان قد جعلتا الخوف يدبّ في قلبه. و لم يهنأ باله إلّا عندما سمع صوت صديقه الخافت يخاطبه قائلا: “أهلا ما من أحد سوانا بالمكان لكن لا تقلق سرعان ما يحضر الجميع”. لم يكد يتمّ كلامه حتّى أبصرا ظلّا مقبلا. فتبيّناه حتّى اتّضح لهما أنّه الشخص الّذي يعدّ لسفرهما خارج البلاد و قد بدا عليه التوتّر. فألقيا عليه التحيّة. و ما أشدّ ما دهشا حين شاهداه يخرج من بين طيّات ثيابه سكّينا قائلا: “أعطياني كلّ ما لديكما من مال”. فأجابه رفيق: “ما أشدّ طمعك ما هذا بصنيع الرجال. ألم نتّفق على مبلغ الألف دينار كمعلوم للرحلة”. فأجابه الرجل ساخرا: “ألم تفهما بعد؛ ليس هناك رحلة. أعطياني كلّ المال الّذي بحوزتكما و إلّا قتلتكما هنا”.
لم يدر ما يفعل. و لم يخطر له حينها إلّا أن ينسلّ هاربا لينجو بنفسه و بما ادّخره من مال. إلّا أنّ الرجل قد كشف قبل أن يتمّ أمره. فطعنه. أحسّ بالألم يلج جسده. فسقط. و لم يعد يسمع سوى صدى صوت صديقه يقول: “تمالك نفسك لا تخف لقد هرب الملعون سأتمكّن إن شاء الله من إنقاذك”. لكنّه أحسّ بأنّ الحياة تنسلّ رويدا رويدا من جسده و أنّ لحظة فراقهما قد حانت. فاطمأنّ إلى ذلك و ابتسم.
______
*قاص تونسي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *