“محمد مُستجاب”…. حضور صاخب.. ورحيل هادئ!


أيمن عبد السميع حسن


خاص ( ثقافات )

مُفتتح..

“طوبى لمن وضع زهرة على قبرٍ أو قصر أو صدر”..
من كتاب “مستجاب الفاض”.. لمحمد مُستجاب
***
حضور صاخب.. ورحيل هادئ!
ليس من الوفاء ولا من المنطق ألا أكتب عن “محمد مُستجاب”، فهو الأديب الأريب، الذي رحل عن عالمنا الدنيوي، حاملاً في صدره ضجيجاً مُذْهِلاً، أفسد عليه انسجامه مع كبار البلد، فأحاله صَلْداً لا يهادن قيد أنملة، ورغم ما ألم بالرجل من مِحن وكروب، نجده كالمؤمن الذي يستعين بصلاته على شرور الحياة، ويصنع بواسطتها مكامن القوة والهدوء والصبر في أغوار نفسه، وكم أرغى وأزبد، من أجل حق له قارب على الضياع، حيث كان الظلم عليه ضارباً بأطنابه في كل مكان، فيصمت أحياناً، وتغلب عليه رغبة شديدة في الفكاك، من أسر يضيق خناقه.
….. وعودة على لُحمةٍ، فالأديب المصري “محمد ُمستجاب” (1938م ـ 26 يونيو 2005 م)، لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف خلقه الله بهذه الحساسية المفرطة، والتركيبة الغرائبية الأسطورية! ضف إلى ذلك، فهو واحد ممن تطل حروف العروبة من خلال أعماله الإبداعية، فهـذا الرجـل رحمة الله عليه، لا أدري لم كلمـا قرأت له، ازددت به ولعاً، وبكتـاباته شغفاً، فقد كان- في بدء حياته – يكافح وينافح ويرتحل إلى بلاد الله كي يحقق لزوجته وأولاده الحياة المنشودة..
** هو وفتافيت الليل…
… أما قبل، هو الغائب، الراحل بلا رجعة، الجالس فينا طويلاً، لقد أخلف وعده معنا، ورحل من دون استئذان، وترك صدورنا مفتوحة لحزن سرمدي، ونسي أن يمسح معه أثر خطى أقدامه وأنفاسه في قلوبنا، نعرف جيداً، تمام العلم، أن للموتى رنيناً بالذاكرة، يصدح عند تذكر أسمائهم، نستشعرهم بحواسنا، نكاد نبصرهم في كل الأماكن، لهم ضحكة لا تُنسى، وملامح لا تغيب عن البال، وحديث نشتاق لسماعة من آن لآخر، رحم الله كل روح غالية تحت الثرى..
أنا، أعرف أشجاراً توقفت عن الإثمار بعد رحيل أصحابها، ولكن “محمد مُستجاب” لم يكن من نوع تلك الأشجار.. 
فكل شيء يتحرك ويناور، يقترب ويبتعد، يبدو واضحاً لدرجة الغموض، ثم يبدو ظاهراً حتى يسد ثقوب المجهول.. 
لا أخفي عليكم أحبتي، فإنها وثبة من وثبات الظن الكريم، تلك التي أوحت إليَّ لأن أكتب عن هذا المبدع الذي رحل عن عالمنا في غفلة منا.. فاهتزت جوانحي- لدرجة الوجيف أو الوجل المضطرب- حينما أنصت إلى صوت هطول كلماته التي داهمتني كالسيل عبر سراديبي القديمة، فتصورت أن دخولي إلى عالم “محمد مُستجاب” أمر سهل، لين، لكن تلك المرة لم يحالفني الصواب.. فأثناء إعدادي لتلك المقالة، كاد عقلي يسوخ في علم السحر دون عودة، فما إن دخلت إلى عالم الأديب المخاتل، المداهن، إلا وأراني أمام تماثيل رابضة بواجهات الأبواب تحرس من بالداخل إلى الأبد، وتحيل المداهم إلى حجر، فتهتز نفسي وترتج كمجاذيب الشوارع، وأنا أبصر نصوصه الإبداعية الغامضة منقوشة بيد كاهن متمرس في مهنته، لتلتف حول عقولنا تلك المطويات المنقوشة، وفي أثناء غفلتي وشرودي أسمع صوته الرؤوم يطن في أذني: يا بني لا تتوجس مني خيفة، فلن أدس لك في رأسك إلا الخير..
وتكشفت – من وقتها – رؤيتي له، فقد تسامت هالة نور حول هذا القمر، وحول أعماله، فأستاذنا الجليل، الراحل، يُعد بحق أحدَ أساطين العربيَّة والأدب في مصر والعالم العربي، فقد كان يحمل في طيات كلماته، الفصاحة والبيان، والرأي الحر الجريء..
** المشهد/ غروب/ خارجي…
وقت الغروب، كانت الشمس المصطبغة بلون قان ٍ، تطبع على الأفق الفسيح قُبلة طويلة، دامية، تسقط عنوة على السيد “محمد مُستجاب” هذا الفارع الأسمر، المكتنز، اللحيم، معتدل السمت، يرفل في جلبابه البلدي بقرية “ديروط الشريف”، فعندما يُقبل نراه متخم البطن، يغلبه النعاس أحياناً.. ونراه في وقت آخر، يسير في تؤدةٍ ورزانة، لا يلتفت إذا مشي يمنة أو يسرة، يضوع المِسْكُ من أردانه، على القرب، وعلى البعد، حيث يشع الأَرِج إذا خرج من داره، فتعرف أنه القادم إليك قبل أن تراه… فإذا طالعك ودنا منك، رأيت رجلاً عليه بزة فاخرة، تباهي بذوق صاحبها في قماشها وطرازها، اجتمع فيها ذوق البائع والمشتري.. وقتها، كان الليل يزحف على القرية، يحاول أن يغسل بيوت الفلاحين بنور القمر.. كانت نظارة “مُستجاب” الطبية تنزلق حتى تصل إلى أرنبة أنفه، لا زال- بدوره- يمشي وحيداً، يرتق ذاكرته بحكايات جدته، فسرت في جسده رعشة المرتجف، وقت أن كان الليل ينسحب بنقيقه، وصريره،‮ ‬ابتسم في حنوٍّ لنفسه، وهو يلمح ضوء المشاعل البعيدة، تبرق كعيون الأشباح في الظلام.. لا زال الليل ينشر رواقه، والعاصفة الهوجاء تلف “ديروط الشريف”، فَلاَح النخيل- لمُستجاب- يُطوِّق بيوت القرية، والغبار الشديد قد حجب أمامه الرؤية تماماً.. 
**محمد مُستجاب مبدعاً..
إن نصوص “محمد مُستجاب” الإبداعية رغم ما تحمله من عمق، تأتي دائماً طازجة، بها ما قد نتخيله عن الروح، من دفء، وهدوء، ونعومة، وهو يسبح في مجالها الأثيري..
البداية: وأنت تقرأ، يحتويك إحساس مترادف ما بين الضوء، وظلمة الحاضر المتقلب، رغماً عنك، ويستدرجك الكاتب إلى الولوج من نقطة شعاع مستمر في الأحداث عن الذات الغائبة حتى يحتويك الشعاع الملهم نحو الحق..
فالثابت لدينا، أنه من بين جملة النصوص في مطبوعة ما يستوقفك نص استثنائي يستأثر بجماح اهتمامك، ويمطر بصيب سحره وجاذبيته، وصدقه، ولوعته، وحميميته، على منابت إعجابك، وتصفق له مسابك طربك..
ففي سَدِيم غامض، واضح كهذا الذي تبحر فيه مجرات النجوم، يتحرك “محمد مُستجاب” داخل أعماله الجميلة، فالتبحر في أعماله القصصية والروائية، وحتى المقالات الصحفية لهي نزهةٌ للقلوب والعقول، فهي تجمع بين الفائدة والمتعة، فقد كتب في ربوع الصعيد في شكل قريب من الواقعية السحرية، فولدت مؤلفات عدة، لن أوغل في البيان، ولن أستفيض في تبيان شيء معروف معلوم لديكم.. ولكنني وددت أن نلقي بالدلاء حيث نحن، فما أزخر الأعماق عندنا بالكنوز!!
** نشر أول قصة قصيرة وكانت بعنوان “الوصية الحادية عشرة” في مجلة الهلال في أغسطس 1969م، وقد جذب إليه الأنظار بقوة، وأخذ بعد ذلك ينشر قصصه المتميزة في مجلات عدة.
صدرت روايته الأولى “من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ” عام 1983 م التي حصل عنها على جائزة الدولة التشجيعية عام 1984 م وترجمت إلى أكثر من لغة. تلتها مجموعته القصصية الأولى “ديروط الشريف” عام 1984م. ثم أصدر عدة مجموعات قصصية منها “القصص الأخرى” عام 1995 م، ثم “قصص قصيرة” عام 1999، ثم “قيام وانهيار آل مستجاب” عام 1999 م، التي أعيد طبعها ثلاث مرات بعد ذلك. ثم “الحزن يميل للممازحة” عام 1998 وأعيد طبعها أيضاً عدة مرات، ثم أصدر روايتين هما “إنه الرابع من آل مستجاب” عام 2002 م، و”اللهو الخفي” التي صدرت قبل شهرين من وفاته، وحولت إحدى قصصه إلى فيلم سينمائي عنوانه (الفأس في الرأس) بطولة عزت العلايلي وليلى علوي، كما اشترك مع المخرج وحيد مخيمر في كتابة السيناريو والحوار لهذا الفيلم الذي ساعد رضوان الكاشف في إخراجه وتم عرضه في 27 ديسمبر 1992، كانت له كتابات صحفية ثابتة في عدد من المجلات والجرائد العربية أشهرها زاويته “واحة العربي” في مجلة العربي الكويتية وقد جمعها في كتاب حمل نفس الاسم صدر سنة 1999م، أما زواياه “بوابة جبر الخاطر” في جريدة أخبار الأدب فقد جمعها أيضاً في كتاب من جزأين حمل نفس الاسم وصدر عام 1999م، أضف إلى ذلك، كتاباته الثابتة في عدد من الصحف والمجلات أبرزها “الأسبوع” المصرية و”الشرق الأوسط ” و”سيدتي” و”المصور”، وقد جمع هذه المقالات في كتب عدة منها “حرق الدم”، و”زهر الفول”، و”أبو رجل مسلوخة”، و”أمير الانتقام الحديث”، و”بعض الونس”، و”الحزينة تفرح”…

**محمد مُستجاب.. من نبش الغراب إلى نقش الكلمات..
يكتب “محمد مُستجاب” بأسلوب يكاد يخترق حاجز الصمت، الذي تمثله اللغة المراوغة، مراوغة الثعالب.. فلغته؛ لسهولتها وبساطتها، يكمن فيها سراً، في طريقتها السردية، فهو ينتقل بالقارئ بين عوالم الحلم والواقع دون تنافر، ويربط بين هذه العوالم برابط مشترك، ويدلف بي أروقة اللغة الحميمية رافضاً أن يغادر بلاد الخيال طوعاً ليقيم في بلاد الواقع ويملأها شغباً وصخباً..
عزيزي القارئ: لن أرهقكم بالحديث عن مُستجاب، بـل سأترك لكم المجال للتعرف عليه عن قرب، من خلال كتـابه الذي نشرته (مجلة العربي الكويتية) بعـد وفـاته، والذي حمله اسم “نبش الغراب”… وهنا أفتح قوساً؛ لأقف عند مسألة مهمة، فلقد أدت العفة الأدبية عند “مُستجاب ” إلى نقاوة المعاني الغزلية، كما أدت- أيضاً- إلى نقاوة المعجم اللُغوي لديه في كل أعماله.. كما يصحبنا “محمد مُستجاب” في مقالاته تلك التي كان ينشرها بانتظام في “مجلة العربي”، وتحديداً في باب “واحة العربي” في رحلة جميلة، يتلاعب فيها بالألفاظ ويتنقل فيها تنقلاً سريعاً من موضوع إلى موضوع، ولا يربط بين هذه المواضيع إلا اللفظ الواحد الذي هو عنوان المقال، وقد جمع مُستجاب كل هذا في كتاب صدر عن مجلة العربي تحت عنوان “نبش الغراب” في “واحة العربي”، وصدر الكتاب في جزأين، وقسم فيه مُحمد مستجاب الموضوعات إلى مجموعات، منها مجموعة خاصة بالإنسان وأخرى بالغابة وهكذا. الحقيقة، هو كتاب أكثر من رائع تستمتع فيه بخفة دم محمد مُستجاب وروحه المرحة الساخرة.
سمات القص في “قيام وانهيار آل مستجاب”
يقيناً، لا يبدو التعرض لــ”محمد مستجاب” أو لما يكتبه، أمراً سهلاً أو عادياً، ذلك لأنه شكل ظاهرة أدبية وثقافية مائزة، ليس في حياتنا الأدبية والثقافية فقط، وإنما في نفوسنا نحن البشر العاديين أو الشعبيين كذلك، ولقد استطاع “مستجاب” أن يعبّد لنفسه سكة أدبية موغلة في الخصوصية والجمال، واستطاع أن يبتكر قصة تنتمي إليه وحده دون غيره. وقبل الدخول إلى عالم مجموعة “قيام وانهيار آل مستجاب” يجب أن نعترف بأن ماهية الفن عند “محمد مستجاب” تكمن في اللهو واللعب والسخرية والتهكم، فهو يلهو بكل ما تقع عليه عيناه، ويسخر من كل شيء يحيط به ويدخل ضمن حدود وعيه، يسخر حتى من نفسه هو، ويلهو بقصته وبلغته وبشخوصه، ويتهكم على القيم، مازجاً الصالح بالطالح، والجليل بالضئيل، من خلال مخيلة شعبية شغوفة بكل ما يحيط بها، مشتبكة معه، فارزة له، ساخرة منه، مهيمنة عليه.
… المشهد ما قبل الأخير..
…… المشهد/ نهار/ داخلي… بشقته بمدينة القاهرة..
نلمح السيدة زوجة “مُستجاب” رفيقة دربه وكفاحه تجلس بجواره في الردهة الجميلة الواسعة.. هي تقاربه في العمر بشرتها هادئة السمرة تشبه لون الليل الهادئ.. تجلس على (الأنتريه) القطيفة.. يتعلق بصرها الضعيف برفيق عمرها الأديب المبدع، وعيناها العجوزان ترنو إليه، تحدِّقان فيه بحنو زائد.. وكان هو بدوره يرتدي (الجلباب البلدي، الأبيض الشاهي)… جلده العجوز مشدود وغامق بشدة، وشعر رأسه لم يشتعل فيه الشيب إلا قليلاً، فقد ظهر بوضوح من تحت (ياقة جلبابه).. تتجسد في نظراته الصلابة والحنو.. كان يتملكه الحزن والأسى يرتسم على جبينه، وراح يتمتم بشفاه مرتعشة: 
“ماذا سيكون مصير أعمالي الأدبية بعد وفاتي؟.. وماذا سيفعل بها أولادي في بلد لا يقدر الأدب والإبداع؟!”.
ثم ابتسم وأشار بيده المعروقة ناحية زوجته، رفيقة العمر، مستكملاً: 
“هذه السيدة هي الوحيدة التي تشعرني بأهمية الوجود في هذه الحياة، وقيمة أعمالي، ولولاها لا أعرف ماذا كان سيحل بي؟”.
زوجته، هي السيدة الوحيدة، التي احتسبته عند الله – بعد رحيله – وظلت تناجيه في بُهمة الليل، وتقول في غمرة الذهول الذي يحيط بها غامراً وثقيلاً: 
“لا أصدق يا حبيب العمر أنني فقدتك، يا توأم الروح، ونجي القلب، ورفيق الدرب.. إنا لله وإنا إليه راجعون”.
** كلمة أخيرة..
“يا محمد مُستجاب: لا تحزن إذا وجدت للباطل كُهاناً أكثر من فرسان الحق؛ لأن الحق غريب دائماً.. نعم، إننا حزينون لفراقك، حزناً يميل للممازحة، فمن خلال كلماتك أيها المبدع، قامت عائلتك وانهارت من خلال مؤلفك – الذي قل أن يتكرر- “قيام وانهيار آل مستجاب”…. اللهم أنزل شآبيب رحمتك وعزائم مغفرتك على روح الأديب الراحل، واجعل قبره روضةً من رياض الجنَّة”.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *