ابنة خالتي كوندوليزا


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
لا أحبّ ابنة خالتي، لا أحبها لأنها شرّانية، ولها عينان حادتان لا أطيق التحديق فيهما، ثم إنني متزوّج وعلاقتي بزوجتي أحلى من السمن على العسل، وأمي، الحاجة مرجانة، ترغب في إيجاد زوج لمثيلة. تقول إن لم تتزوج مثيلة من جديد، علينا أن نتوقّع فضيحة بجلاجل وأجراس. مثيلة تزوّجت صديقي، غطّاس، الذي درس معي السنة الأولى في الجامعة، أحبته وأحبها وتزوجا قبل ثلاث عشرة سنة، لكن زواجهما لم يعش طويلاً، لأن مثيلة امرأة قوية لا يحتملها زوج، أو هذا هو الانطباع الذي أصبح ملازماً لها. رمت في حجره الولد والبنتين، أخرجته من الدار، وعاشت وحدها تنتظر فرصة أخرى للزواج.
قبل غطاس، أحبتني مثيلة لكنني لم أبادلها حباً بحب، لأنني كنت أنفر من عينيها الحادتين، ولم أكن أعرف بمن أشبّهها حتى ظهرت كوندوليزا رايس إلى حيز الشهرة والنفوذ، قلت: وجدتها، ابنة خالتي تشبه هذه المرأة إلى حدّ بعيد، ولها شعر أسود مثل شعر كوندوليزا رايس، وهي قوية مثلها، ولم أقل لها شيئاً عن هذا الشبه، لأنها لو علمت به فإن غرورها سيزداد، وقد تجتاح حيّنا بأكمله ذات صباح، تستولي عليه بالقوة وتنصّب نفسها مسؤولة عنه، وتفرض علينا أحكاماً عرفية قد تستمرّ عامين أو ثلاثة أعوام. 
بعد طلاقها، حطّت لنا العقدة في المنشار كما يقال، راحت تضغط على أمي، تبدي رغبتها في الزواج بلا مواربة أو حياء، تقول إنها لا تستطيع أن تحيا من دون زوج. تؤنّبها أمي على تهوّرها وتعيّرها بتصرّفاتها الحادة: يا خايبة، ما دمت كذلك، لماذا لم تحافظي على الزوج؟ تهزّ كتفيها بلا مبالاة وتقول: تأخذه جهنم إن شاء الله، ما عدتُ قادرة على العيش معه. تفقد أمي صوابها من هذا الكلام، تقول: طيب، خليك قاعدة حتى أشوف لك زوجاً كل شهر أو شهرين. ولم يكن هذا هو موقف أمي الحقيقي تجاه مثيلة، تتلبّسها الخشية من تهوّر ابنة أختها وتتنامى رغبتها في أن تراها مستورة مثل بقية نساء الحي، ولا يقطع حوارها مع مثيلة سوى انتباههما إلى وجودي في الغرفة المجاورة، أسمع كل شيء يدور بينهما، تصاب أمي بالحرج نوعاً ما، ولا تشعر مثيلة بأي حرج، بل إنها تحدّق بي بنهم كما لو أنها تريد أن تأكلني بعينيها، تقول لي: باب خزانتي انخلع، متى ستأتي لكي تصلحه؟ أقول لها وأنا أصرف نظري عنها: حينما يكون لدي وقت سآتي.
أغادر البيت، وألعن زمن الاحتلال الذي اضطرني إلى مغادرة الجامعة بعد السنة الأولى، أنا وصديقي غطّاس. غطاس أصبح سائق فورد، وأنا أصبحت نجاراً، بعد أن وجدت ووجد صديقي أن الشهادة الجامعية لن تطعمنا خبزاً. كنت أمارس النجارة في منجرة عمي أثناء العطل المدرسية، والآن جاء دوري لكي أستأجر محلاً في الحي، كتبتُ على واجهته بأحرف بارزة: منجرة الاستقلال لصاحبها شكري عبد الرزاق. أصبح لدي عدد غير قليل من الزبائن في غضون سنوات قليلة، لأنني، ولا فخر، نجار بارع، ولهذا السبب كما يبدو، تريدني ابنة خالتي مثيلة أن أذهب إلى بيتها لكي أصلح لها باب الخزانة الذي انخلع.
قلت لنفسي: لن أذهب إليها، لأنها ربما كانت تعدّ خطة للإيقاع بي، ولإجباري على الزواج منها. 
صار شبح مثيلة يطاردني في الليل وفي النهار، وراحت أمي تضغط عليّ بكثافة لم أعهدها من قبل. أقول لها: ماذا أقول لزوجتي يا بنت الناس؟ تقول: مالك وما لها؟ عليها أن تسكت وتحمد ربها لأنك تزوجتها، ولا تنسَ أن الخيّر معه ثنتان وثلاث. أقول وأنا مستفز: 
_ أنا لا أستطيع العيش مع كوندوليزا رايس تحت سقف واحد.
_ أنيه كونديلا أم راس هذي؟
_ واحدة أميركانية.
_ أحسن! هذا اللي ناقصنا.
أمي لا تفهم في السياسة إلا القليل. تقول إن سياسة أمريكا غلط، وحينما ترى المذابح على شاشة التلفاز تقول: ليس في قلوب الأمريكان رحمة. تشتم بوش، توجّه له سيلاً من الشتائم، (حفاظاً على سلامتها لن أثبت هنا أياً من هذه الشتائم) وهي لا تعرف في أمريكا أحداً آخر غير بوش، لا تعرف رامسفيلد ولا ديك تشيني ولا كوندوليزا رايس، ولم تظهر ارتياحاً لأنني أشبّه ابنة خالتي بكوندوليزا رايس، اعتقدتْ أن كوندوليزا رايس امرأة بائسة، وإلا لما شبهتُ ابنة خالتي بها، قالت:
_ استح على حالك، من اهتزا اختزا.
لم أعدها بشيء لأنني لا أطيق أن أغضب زوجتي. زوجتي شعرت أن في الجو مؤامرة يجري طبخها من وراء ظهرها، وعلى حسابها. بدأت بشنّ حملة ضد مثيلة، استهلّتها بردح إعلامي مثابر: أنفها مثل كوز الصبر، عيناها مثل عيني الغولة، وجهها مثل قاع الصاج. وهلمّ ردحاً. أعقب ذلك سحب السفراء وقطع العلاقات، وعمر راسي ما يناطق راسها من هاللحظة حتى الممات. بعد ذلك، أغلقت الحدود ثم وقعت الحرب: أحكمت زوجتي قبضتها على شعر مثيلة، لفّت الشعر على ذراعها، إلا أن مثيلة حملت زوجتي بيديها القويتين وألقت بها على الأرض، هجمت عليها بضراوة، واحتدمت المعركة (للأسف، فإن مجلس الأمن لا يتدخّل في معارك كهذه، ولا الجامعة العربية كذلك) ظلت زوجتي تنوء تحت ثقل مثيلة حتى كادت تختنق، ثم بكت مثل طفلة معلنة هزيمتها في المعركة التي خرجت منها مثيلة منتصرة مظفّرة. نهضتْ بعد أن تركت زوجتي تعالج هزيمتها بالبكاء وبالانسحاب غير المنظم نحو البيت، ومضت مثيلة إلى بيتها تنتظر أن آتي إليها لكي أصلح لها باب الخزانة الذي انخلع. 
باب الخزانة رأيته ليلاً، وكان هناك ينتظر الإصلاح. كنت أرتدي بدلة العرس السوداء، دخلتْ عروسي إلى الغرفة يقودها ولي أمرها من يدها، وهي ترتدي الأبيض الناصع وتثبّت في الوقت نفسه على ثغرها ابتسامة طافحة بالأمل وبالشهوة، فركتُ عيني جيداً لكي أتعرف على والد عروسي، ولم أصدق عيني للوهلة الأولى، رأيت رامسفيلد، وزير الدفاع، يمشي الهوينى إلى جانب العروس، حدّقت في وجه العروس، رأيت كوندوليزا رايس تتقدّم نحوي وسط الغناء والزغاريد. ارتعبت لأنني لا أحتمل أن أكون زوجاً لمستشارة الأمن القومي، هذا يعني أن كل مشكلات العالم، وكل قضايا مكافحة الإرهاب ستخرج من هنا، من بيتنا بالذات! فهل أحتمل ذلك؟ عدت أحدّق فيها من جديد، قلت لنفسي: أنا تزوّجت مثيلة ابنة خالتي، اقتربت من عروسي، لكي أعرف حقيقة الأمر، وإذا بي وجهاً لوجه أمام كوندوليزا رايس، التي أخذتني بين ذراعيها وطبعت على جبيني قبلة. نظرتُ حولي بعد برهة قصيرة، فلم أرَ أحداً، لم أر رامسفيلد ولا أمي ولا أي مخلوق آخر، ليس في الغرفة سوى كوندوليزا رايس وأنا. كوندوليزا خلعت فستان العرس وهي تبتسم بأريحية أدخلت السرور إلى نفسي، قالت: الطقس حارّ يا مستر شكري. بدت كوندوليزا بجسدها العاري مثل إحدى الحوريّات. قلت: خذي راحتك يا حبيبتي (إي والله، تجرأت وقلتها غير خائف من غارة جوية أو من صاروخ كروز) قالت: كأس ماء بارد من فضلك. أحضرت لها كأس الماء في مثل لمح البصر، تابعتها وهي تشرب الماء مثل غزالة رقيقة، وتساءلتُ متعجباً: لماذا يكره الناس أمريكا؟ قلت: أنا الآن صهر الأمريكان، ومن يشتم أمريكا أمامي سألعن سنسفيل أجداده (سأطلب من أمي ألا تطوّل لسانها على عمي جورج دبليو بوش، وإلا وقع بيني وبينها خلاف) مشت حبيبتي في الغرفة وهي تفكر في أمر ما، مشيت خلفها مثل ظلها، وبقيتُ صامتاً كي لا أقطع حبل أفكارها. قلت: بعد قليل تستلقي حبيبتي على السرير وأستلقي إلى جوارها، وستكون ليلتي هذه من أجمل ليالي العمر. إلا أن كوندوليزا أطالت التجوال في الغرفة وهي تفكّر باستفاضة، إلى حدّ أنها لم تعد تشعر بوجودي. قلت: المسألة واضحة، كوندوليزا أخذت على بالها لأنني، ويا لغبائي، تأخرت في خلع ملابسي، فاعتبرتْ ذلك نوعاً من الإهانة التي لا تُحتمل. كان عليّ أن أتعرّى في اللحظة نفسها التي تعرّت فيها، لكي يكتمل المشهد ويقع الانسجام. خلعت ملابسي ووقفت أمامها في هيئة المحبّ الولهان، قلت بحنان: 
_ تعالي يا حبيبتي إلى السرير.
_ الآن؟ في هذي اللحظة بالذات!
_ هل هناك ما يشغلك عني يا كوندو؟ 
_ ألا يمكنك الانتظار؟
_ كم؟ عشر دقائق! نصف ساعة؟
_ أوه ماي غاد! عليك أن تنتظر إلى أن ننجز مشروع الشرق الأوسط الكبير!
_ كم يستغرق إنجاز هذا المشروع؟
_ سنتين أو ثلاث سنوات، وقد نحتاج إلى شن حرب أو حربين.
_ وبعد ذلك يا حبيبتي؟
_ شعوب بأكملها ستنعم بالديمقراطية! وآنذاك سنفرح أنا وأنت.
_ ولكن، ما هذه الديمقراطية التي يجري فرضها بالقوة يا كوندو؟ هل هذا معقول؟
_ شَتْ أبْ! أسكتْ، أسكت.
قبضتْ على ذراعي وقادتني نحو الباب. صحوتُ من نومي وأنا أعاني من جفاف في فمي، نهضتُ من فراشي واتجهت نحو المطبخ، شربت كأس ماء، وتذكّرت مثيلة، قلت: سأجد حلاً لمشكلتها. إنها ابنة خالتي ولا يجوز التخلي عنها، وفي لحظة صفاء ذهني، لمتُ نفسي لأنني أتهمها بالقسوة. قلت: إنها امرأة غلبانة وشهوانية أكثر قليلاً مما هو معتاد، قلت إنها إنسانة لها مشاعرها الخاصة، وعلينا احترام هذه المشاعر على أية حال. رقّ قلبي لها تلك الليلة لسبب لا أعرفه، ربما لأنني رأيت جسدها المثير في المنام (هل رأيت جسدها أم جسد كوندوليزا رايس؟) قلت: سأضع حداً لإلحاح أمي عليّ، وسأجد حلاً لمشكلة مثيلة، وسأبدأ بصديقي غطّاس. سأحاول إقناعه بالعودة إلى مثيلة، وسأقنع مثيلة بالعودة إلى زوجها، وأنا لا أبني خطتي على أوهام، أمي قالت إن مثيلة رضخت لفكرة العودة إلى زوجها بعد أن جرّبت صعوبة العيش وحيدة، وثمة مسألة تضغط على غطّاس ومثيلة معاً، تتمثّل في مصير الأطفال وأعباء تربيتهم. هذه مسألة قد تساعد على التقريب بينهما من جديد.
ذهبتُ إلى غطّاس الذي لم أعد أعرف الكثير من أخباره منذ تركنا الجامعة. اكتشفت بالصدفة أنه قطع شوطاً غير قليل في طريق الدشْرَنة، بعد طلاقه لمثيلة، أو على الأصح قبل ذلك بوقت غير قليل، (ربما وقع الطلاق بينهما لهذا السبب، ولم تشأ مثيلة أن تفضحه) صار يذهب إلى العاهرات الإسرائيليات، يعاشرهن ويقضي وقتاً غير قليل معهن، (كان غطاس إبّان الدراسة في الجامعة، عضواً في أحد تنظيمات المقاومة، وأنا كنت عضواً في الحزب. غطاس ترك التنظيم بعد اعتقال دام خمس سنوات، لأنه خاف ولم يعد قادراً على الاحتمال، مع أنه ظل يغبط زملاءه الذين استمروا في المقاومة، على شجاعتهم. وأنا تركت الحزب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انهارت معنوياتي، لكنني لم أتنكر لقناعاتي، بقيت في الخط الصحيح كما يحلو لي أن أدّعي) أخيراً، تعرّف غطاس على فتاة روسية، تأخذ العقل بجمالها، وبجسدها الأشقر الريّان، قالت إن لها جدّة يهودية كانت تعيش معها في موسكو، ثم هاجرت من هناك إلى القدس لتمارس ما تعتبره حقّها الطبيعي في العودة إلى أرض الميعاد، (هذا الحق الذي يُحرم منه اللاجئون الفلسطينيون الذين اقتلعوا من بلادهم) تعرّف عليها غطاس وأحبها، وقال لي إنه لم يعد قادراً على التفكير بالعودة إلى مثيلة. قال: مثيلة أصبحت جزءاً من الماضي، وسفيتلانا هي الحاضر. (تهجره سفيتلانا بعد أقل من سنة) قلت له: خيبتَ أملي فيك! ومضيت.
* * *
ذات مساء، كانت مثيلة ترتدي فستاناً جديداً وهي تنتظرني لكي أصلح باب خزانتها الذي انخلع، ذهبت إليها وأنا متردّد إلى حدّ ما.
________
*روائي وقاص فلسطيني 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *