كاتبات نجحن في الخلاص من قيود المجتمع الأبوي


*هيفاء بيطار



في السنوات العشر الأخيرة حصلت ست نساء كاتبات على نوبل للآداب، ومن الضروري التذكير بأسمائهن: إلفريدة يلينيك (النمسا) دوريس لسينغ، هيرتا موللر (ألمانيا) أليس مونرو (كندا) وسيلفانا أليكسيفيتش (بيلاروسيا)، إضافة إلى شيرين عبادي التي حصلت على نوبل للسلام (إيران). أذكر الكاتبات هنا رغم وجود حشد من النساء الحاصلات على نوبل في مجالات عديدة كنوبل للسلام وللطب والكيمياء، إلخ.
وقبل أن أشير إلى دلالات هذه الإحصائية، فإنه من واجبنا أن نتذكر كتابا قيّما كتبته عرّابة الرواية في القرن العشرين فيرجينيا وولف، وهو كتابها النقدي الهام “غرفة تخص المرء وحده”، حيث بيّنت في دراستها لأكثر من ثلاثين رواية نسوية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أن القاسم المُشترك لشخصيات كل هذه الروايات النسوية هي امرأة مجنونة.
بمعنى أن المجنونة هي وحدها من تتجرّأ وتتمرّد على المجتمع الذكوري، وبينت وولف في كتابها هذا أن شخصية البطلة المجنونة هي تعبير عن قلق الكاتبة نفسها، وبأن الكاتبات يختبئن وراء شخصيات رواياتهن، وبأنهن ينفّسن عن قلقهن وإحساسهن بالظلم والاختناق من المجتمع الذكوري عن طريق هذه الشخصية الرئيسية في رواياتهن.
طوطم الجنس
ما بين كتاب فيرجينيا وولف “غرفة تخص المرء وحده” والإبداع الكثيف الملفت لتفوّق المرأة في السنوات الأخيرة، وأخص هنا مجال الأدب، قفزة رائعة تدل على تحرر المرأة من قيود اجتماعية خانقة، بل تكسيرها لتلك القيود وتغييرها، ومن يقرأ رواية “عازفة البيانو” لإلفريدة يلينيك يرى أنها لم تترك تابوها إلا وكسرته، وأنها تفوقت على الكاتب الأكثر جرأة في أميركا وهو هنري ميللر، لأن إلفريدة يلينيك كسرت تابو الجنس والدين وشرحت علاقتها بوالدتها التي تمثل السلطة الأبوية، ولم تعد أيّ من الكاتبات المذكورات بحاجة ليختبئن، أو يخفين قلقهن ومخاوفهن من القيم الذكورية المتحنطة، بالاختباء وراء شخصية البطلة المجنونة.
أن تحصل ست سيدات على جائزة نوبل للآداب في أقل من عشر سنوات، هي نسبة عالية جدا. وهذا يدل على تحرر المرأة من وصاية الرجل، ومن القيم العديدة التي رسخها وفقا لمصلحته الذكورية، ولا بدّ من الإشارة إلى الإنجاز الكبير لأدب المرأة العربية، فقد ظهرت روايات شجاعة ومميزة بكل المقاييس الإبداعية والفكرية لكاتبات عربيات حققن شهرة يستحققنها، ونافسن الكتّاب في مجالات عديدة، ووصلت عدة روايات نسوية إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، وإحداهن حصلت على الجائزة مناصفة مع كاتب. ولكن ثمة خصوصية تميّز كتابة العربيات وهي أولا خرق تابو الجنس.
أولا تتميز معظم هذه الكاتبات العربيات بخرق طوطم الجنس ومحاولة تحطيم القيم الذكورية المفروضة على النساء، ومحاولة المطالبة بالمساواة التامة مع الرجل، والأهم من كل ذلك التحرر من وصايته عليها.
فالكاتبات العربيات متمردات على فكرة أن المرأة تابعة للرجل، سواء كان أبا أو زوجا أو أخا، وهي ترفض أن يكون قرار حياتها ومصيرها بيد غيرها، وبالطبع فإن الكاتبات العربيات يعبّرن عن واقع المرأة العربية، وعن توقها إلى التحرر من القيود الذكورية وأعراف المجتمع الأبوي التي تخنق المرأة، وتحدّ من حريتها تحت شعار حمايتها.
إن الخرق الأول الذي لجأت إليه أغلبية الكاتبات العربيات هو طوطم الجنس، ورغم أن لكل كاتبة، من عليوية صبح إلى هدى بركات إلى سلوى النعيمي إلى نوال السعداوي وإلى كاتبة هذه السطور هيفاء بيطار إلى إلهام منصور وغيرهن، رغم أن لكل كاتبة طريقتها وأسلوبها في خرق طوطم الجنس، فأعتقد أن خرقه ليس مجرّد تحدّ واستفزاز أو أشبه بلعبة ليّ الذراع مع الرجل، بل إن خرق طوطم الجنس هو في حقيقته ذو ارتباط وثيق بشبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية وبقوانين الأحوال الشخصية، وبالعادات والتقاليد، وإلى ما هنالك من قيود، فالمهم ليس أن تتحرّر الأنوثة في المرأة بل أن تتحرر الإنسانة المقموعة في المرأة.
إن خرق حاجز الجنس بالغ الأهمية في الكتابة عامة والكتابات النسائية خاصة، ليس لأن الجنس أحد أضلاع الثالوث المحرم، بل لأنه موضوع حيوي وجوهري في حياة كل الكائنات الحية، ولأنه يرسم شكل علاقتنا بالآخر وغالبا ما يكون مسؤولا عن الكثير من العقد النفسية، وحالات الاكتئاب والشرخ في علاقة المرأة بالرجل. ولكن يؤسفني أن أقول إن الكثير من الكتاب والكاتبات تعامل مع موضوع الجنس كوسيلة للترويج والدعاية لكتبه، ولم يكن يدفع هؤلاء أيّ فكر تنويري سوى نشوة التحدّي وشيء من الشهرة.
المثقف المزدوج
يعتقد البعض أن مجرد الكتابة الجنسية الجريئة هي أقصر طريق للشهرة والإبداع مثل رواية “برهان العسل” لسلوى النعيمي التي لم أجد فيها سوى مشاهد جنسية ملتهبة ومتكررة.
لا بدّ من التمييز بين روايات إباحية عظيمة، وظفت الجنس لخدمة الموضوع الذي هو الحياة الإنسانية بتعقيداتها، مثل روايات مورافيا وهنري ميللر وإلفريدة يلينيك وهيرتا موللر وطوني موريسن وميلان كونديرا ومحمد شكري، إلخ. هذه الروايات تحدثت بجرأة لا متناهية عن الجنس، لكنها في الواقع لم يكن هدفها الإثارة الرخيصة، بل كشف واقع الحياة وعلاقات الناس بعضهم ببعض من خلال الجنس. كما تكشف لنا نمط العلاقات الفارغة روحيا والهزيلة وجدانيا والمشبعة باليأس والضياع، بسبب طغيان المجتمعات الرأسمالية التي فرّغت الفرد من قدرته على الحب، وحوّلته إلى مجرّد آلة، وجعلت من العلاقة بين المرأة والرجل مجرّد علاقة جنسية عابرة، لا تُفضي إلا إلى الكآبة.
أما النقطة الثانية التي تميّز كتابات المرأة العربية في نصف القرن الماضي، فهي صورة المثقف في كتابات المرأة العربية، وللأسف فإن نسبة كبيرة من الروايات النسوية تنظر إلى الرجل المثقف كشخص مزدوج الشخصية، يدّعي أنه يؤمن بتحرّر المرأة ولكنه في أعماقه لا يقبل بنديتها معه ولا منافستها له، ولا يرغب فيها كشريكة حياة، بل للحب المتحرّر من أي ارتباط، بينما يختار زوجة تقليدية تدور في فلكه ولا يكون لها طموحها الخاص، طبعا لا يجوز التعميم، لكن هذه الظاهرة ملفتة ومشتركة في كتابات النساء خاصة كوليت خوري وغادة السمان وعلوية صبح وعالية ممدوح وسحر خليفة، إلخ.
أتمنى أن توجد دراسة حقيقية حول صورة المثقف العربي في كتابات المرأة العربية، لأن مجتمعاتنا للأسف تعاني من الازدواجية وعدم الشفافية والتناقض بين الفكر والفعل، وهذا خاص بالجنسين ولا يقتصر على المرأة وحدها. وقد أعجبني رأي إحدى الكاتبات العربيات التي سُئلت “ما رأي النقاد في كتاباتها؟” فقالت “إن النقاد الرجال حين يكتبون عن أدب المرأة تشعر كما لو أنهم يربتون على كتفها قائلين برافو”. مع ما تعنيه هذه النظرة من تعال وفوقية، فإنها تلمح كما لو أن المهم أن يكون إبداع المرأة أقل ولو بدرجة واحدة من إبداع الرجل.
بمناسبة عيد المرأة في 8 مارس أحببت أن أحيّي النساء المبدعات وخاصة الكاتبات اللاتي لفتن الأنظار بإبداعهن الرائع الحرّ، والذي يدلّ على نفس حرّة تؤمن بالمساواة التامة بين المرأة والرجل.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *