*محمد الأسعد
في سبعينات القرن الماضي ظهر كتابُ «حوار الحضارات» للفرنسي روجيه غارودي (1913-2012) في وقتٍ كان يبدو فيه أن اتجاهاً غربياً نحو التصالح مع الحضارات المظلومة، أو التي أُبيدت بلا رحمة، أو التي التقطت الثقافة الغربية صوراً لها بعدسة مهشَّمة، يبدأ بالظهور. ولكن العالم يُفاجأ مع أوائل تسعينات ذلك القرن، وهو يخطو أو يتعثر في طريقه إلى نهاية الألفية الثانية، بأطروحة مختلفة عنوانها «صدام الحضارات» لصاحبها الأمريكي«صموئيل هنتنغتون» (1927-2008)، الذي يبدو أنه من المغرمين بعلم الطبقات الأرضية، ودليل ذلك أنه يتحدث عن الحضارات وكأنها كتل أرضية طافية على سطح الكرة الأرضية يفصل بعضها عن بعض صدع جيولوجي عميق (
Fall)؛ كتل من المفترض أنها مهيأة للانزلاق والتصادم في أية لحظة بسبب تغاير خواصها وما يطرأ عليها من حرارة أو برودة.
منذ ذلك اليوم شُغلت الدوائر «الفكرية» والصحفية بهذه الأطروحة/الرؤيا، ووسعها صاحبها وأصدرها في كتاب بعد أن ظهرت للمرة الأولى على هيئة مقالة في مجلة شهرية، وترافق هذا مع تخليق أجواء جعلت من هذه الأطروحة في الأجواء العربية نصاً مقدساً، ولم يعتن أحد على حد علمي بنقل ردود الفعل عليها، هناك حيث ولدت من رحم الحرب الباردة وسعت إلى تأبيدها، وبخاصة رد فعل د. إدوارد سعيد (1935-2003) في محاضرته الشهيرة المسماة «خرافة صدام الحضارات» في عام 1997.
هذه الرؤيا التي تهيمن على موضوعة «صدام الحضارات»، تتنبأ بالصدام القادم على أساس التغاير الثقافي أو الديني أو العرقي الذي يكوّن الطبقات العميقة لهذه الكتل. لم يعد الاقتصاد هو الفاعل ولا السياسة، بل العقائد التي هي مركّب الثقافات. ولأننا اعتدنا منذ زمن طويل على رؤية مختلفة للثقافات بوصفها بنى فوقية تابعة، وليس بنى تحتية حاكمة، بدت لنا أطروحة الصدام، وبهذه الدوافع غير معقولة.
صاحب أطروحة الحوار فرنسي، أما صاحب أطروحة الصدام فأمريكي. وربما يكمن الفرق بين الداعيتين في الفرق بين الثقافتين؛ الفرنسية والأنجلو/ساكسونية، على أساس أن الأولى خيالية وأدبية بل وصوفية أكثر من اللازم، بينما الثانية مادية ومنفعية وأنانية أكثر من اللازم أيضاً. ومهما يكن الأمر، الواضح أن أطروحة الحوار جاءت من ثقافة تنتمي إلى الماضي بحكم التطور المعاصر الذي انتقلت محاوره عبر المحيط الأطلسي (بحر الظلمات قديماً) وتخطته إلى شواطئ المحيط الهادئ. أي أنها أطروحة حنين إلى ما لم يحدث، إلى ما لم يكن، والتوق إلى رؤيته. ولا شك عندنا أن أساس أطروحة الحوار سليم منطقياً، ومن وجهة نظر مفكر إنساني اجتهد في بحثه عن النور في عصر الظلمات الرأسمالية، ولكن مجال بحثه كان الماضي إلى حد كبير، والأسف على الفرص الضائعة بعد أن ضاع كل شيء وذُبحت الحضارات المطلوب الحوار معها، واستبيحت، وما بقي منها سوى حطامها.
أما أطروحة الصدام فتأتي من ثقافة تنتمي إلى «الآن»، وتعتقد أنها بهيمنتها على «الآن» تستطيع القبض على مساراته المستقبلية. هي غير معنية بالأخلاق والنزعات الإنسانية (مخلفات قرون غابرة) بل بالنزعات المنفعية التي تقاس قيمة وصحة الأشياء والقيم فيها بمدى فائدتها الاستعمالية، أو كما تدعى الآن بالنزعات الواقعية. وهل هناك أكثر صلابة وواقعية من علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) الذي يصطاد دهاقنته صقور الأيديولوجيات، الدينية والمذهبية والعرقية..إلخ، ويدربونها ويطلقونها لاصطياد ثروات الشعوب وشواطئها ومضائقها؟.
اعتقادنا مختلف؛ لأن التماثل بين الجيولوجيا الأرضية والجيولوجيا الثقافية يتوقف عند حد لا يتعداه، لكل منهما مكوناته التحتية، ولكن حركة الطبقات الثقافية قد لا تقود بالضرورة إلى حدوث تصدعات أو تخليد الصدع الحضاري، كما هي حال طبقات القشرة الأرضية. بالطبع، مثلما هناك جهاز راصد للهزات والزلازل، هناك جهاز راصد للمتغيرات والتحولات الثقافية. هناك علم اجتماع المعرفة وعلم الأناسة ووصف الشعوب والتاريخ.. إلخ، ولكن العنصر الأساسي في كل هذا هو الوعي، فالبشرية، أو مجتمعاتها عموماً، ليست طبقات أرضية، تنزلق أو تتزحزح وفق قوانين حركة المادة، بل هي قادرة على الاختيار، أي حرة. ولا سبب يدعو إلى صدام الكتل الثقافية، ولا نزوعها الذاتي إلى أن يحل بعضها محل بعض آخر، بل الأقرب إلى الواقع التاريخي أنها ذات طبيعة موجيّة تميل إلى التمازج والتلاقح لا إلى التصادم والتفاني كأنما دقت بينها عطر منشم السيئ الذكر، أو مثلما تتصادم كرات البلياردو.
في هذا السياق نفسه، يمكن طرح الموضوع على صعيد المجتمعات الوطنية، فكثيراً ما نقرأ عن قرب صدام الكتل الاجتماعية بمجرد أن يقرر «راصد» أن هذا المجتمع يتكون من كتل عرقية أو طائفية أو قومية، فيبدأ نشر الهواجس من صدام محتمل. بل يمضي بعضهم إلى رسم خطوط التصدعات بين هذه الكتلة أو تلك. ولماذا؟ هل لأن هذه البنى ذات التمايز الثقافي تحمل استعداد وميول الكتل الأرضية نحو التصادم؟ لا بالطبع، ولكن لأن هناك ضواري تطل على شعوب، فلا ترى فيها إلا طرائد لابد من تحويلها إلى جذاذات متنافرة ليسهل اصطيادها، فلا يجتمع ثور أبيض مع ثور أسود، ولا عود مع أعواد في حزمة واحدة.
كان يقال لنا إن لكل ثقافة خصوصياتها، لها مكوناتٌ أولى، تاريخ وجنس ولغة.. وما إلى ذلك. وأن المولود في ثقافة ما لا يستطيع استيعاب ثقافة أخرى مختلفة، وجاءت القاصمة حين بدأت تشيع مقولات البنى العقلية المختلفة، العقل السامي والآري، والعقل اليوناني والعقل العربي.. إلخ، وزاد بعضهم الأمر حدة فحدَّد سمات عقلية ثابتة، للخرافي والعقلاني. ولكنني أتساءل الآن، وبعد سنوات تحت سماوات الجغرافية الغربية، أرضاً وثقافة، ألم يكن الثلج المتساقط غريباً عني في الماضي؟ فلماذا أشعر بالحنين إليه الآن؟ ولماذا أحببتُ كثيراً أوراق الخريف المتساقطة في شوارع العواصم الساكنة التي كان يقال لنا إنها باردة طوال السنة؟ ولماذا لم أشعر أنني مختلف عن البشر هناك، بل شعرت أن ما يهمني في النهاية هو جزء من اهتمامهم؟
ربما يقال لي هذه تجربة شخصية، ولكن أليس مصدر الانطباعات التي تتغلغل في الكتل الثقافية تبدأ من أمثال هذه التجارب الشخصية؟
لم تكن الآراء المسبقة والتحيزات والتحامل والأحكام المتسرعة نتاج رصد ثقافي شامل في يوم من الأيام، وحتى لو كانت كذلك، فإن رصد «أحمد ابن فضلان» للروس الذين شاهدهم يفدون بسفن تجاراتهم على نهر «أتل» في القرن العاشر الميلادي، على سبيل المثال، لم يعد صالحاً لوصف أحفادهم المعاصرين. وهل يمكن الثقة إلى الأبد بالراصدين الغربيين الذين سجلوا انطباعات الوهلة الأولى عن شعوب وحضارات غريبة عنهم؟ الوثائق التاريخية، وهي نادرة بعد محو هذه الحضارات وآثارها، تؤكد أن هذه الانطباعات لم تكن من العلم في شيء، بقدر ما كانت نتاج آفاق الراصدين المحدَّدة بثقافاتهم ومصطلحاتها وعقائدها.. وأهواء ومطامع أصحابها.
لا تتصادم الحضارات بالضرورة، لأنها ليست تكوينات جيولوجية بالمعنى الحرفي، ولأن مادتها البشر لا الحجر والتراب، ولا تتصادم الكتل الاجتماعية بالضرورة ضمن المجتمع الواحد للسبب نفسه، والأرجح أن الحوار ممكن بين المختلف والمتعدد. وهل يمكن أن يقوم حوار بين المنسجم والمؤتلف؟ مبدأ الحوار ذاته يفترض الاختلاف والتعدد والتنوع. ومن الأمور المزعجة أن يحاور إنسانٌ آخر فيكتشف أنه يسمع صدى نفسه، بينما من المنطقي أن يسمع شيئاً مختلفاً يتحداه أو يحفز ملكاته الفكرية، ويزيده معرفة بنفسه.
وأتذكر الآن الشاعر البلغاري الكبير، عمراً وتجربة، «إيفان يانتشيف»، وهو يحدثني في شقته الصغيرة محاطاً بذكرياته الباريسية (في خمسينات القرن الماضي) حين كان يعيش بين أصدقائه الكبار، بيكاسو و ألبيرتي وأوكتافيو باث.. وبقية مبدعي تلك السنوات. وأتذكر أنني أحببتُ التقاطاته البارعة للمشترك الإنساني، وفهمت آلامه وفراره من بيئته بحثاً عن أفق آخر، أفق يمكن أن يُفهم فيه، حسب كلماته حرفياً «أن السلاحف لا علاقة لها بالشعر».
يانتشيف هذا، رغم اختلاف لغتينا، لم يكن يبدو لي إنساناً مهيئاً للصدام، بل حكيماً ترد على لسانه أسماء مفكرين وشعراء شرقيين وكأنهم كانوا في ضيافته بالأمس القريب. ومثلما بدا لي «يانتشيف» صديقاً، كذلك بدت أشجار الكستناء التي تتساقط ثمارها صيفاً بين الفينة والفينة، وكذلك بدا الثلج المتساقط شتاء على الوجوه والمعاطف والأرصفة، وبدا بياض السطوح والأشجار فجراً بعد ليلة سيطر فيها الثلج.
صحيح أن الواحد منا هناك قد يلمح بعين خياله الغيوم البيضاء العالية وضوء الفجر الملتمع فوق أشجار النخيل والمنائر وكثبان الرمل خلف جبل «فيتوشا» المطل على العاصمة «صوفيا»، والمغطى بغيوم أمطار تهطل بلا انقطاع، إلا أنه يستطيع أن يرسم من كل هذا لوحة رائعة تتدفق عذوبة.
________
*الخليج الثقافي