عبدالحميد جودة السحار.. موثق الدين والمجتمع




سلوى الزغبي*


سَكَنتْه “قاهرة المعز”، دقيقة كشعيراته الدموية، تحتل عصبه دون حولٍ منه ولا قوة، نهارًا يتشبع رائحة حواريها، ومساءً يتلذذ بحكاويها وسيرها الشعبية، فكان وحده بمثابة “شعبًا”، طياته تحمل تكوينًا ممتزجًا للدين والدنيا، فرَّغه وجدانه على أوراقٍ منها التاريخي والإسلامي والاجتماعي، معلنة عن ميلاد موثق المجتمع في صورتيه “عبدالحميد جودة السحار”.
تشكّلت شخصيته قبل ضجيج العاصمة، منذ أن وُلِد في 24 فبراير 1913، ورافق منذ طفولته أدباء كل العصور منهم زميل السكن والأدب الكاتب نجيب محفوظ، وبدأ يُدرك شهر رمضان في عامه السادس بالصوم كبقية أفراد أسرته، وفتحت للصغار مثله بيوت الأعيان، في حي الجمالية أبوابها ليلًا؛ للاستماع إلى أصوات قارئي القرآن، وساردي الحكايات والسير الشعبية، ومعه “الفانوس” المصمم على شكل قطر أو أي رسم هندسي يميزه عما تحمله الفتيات في مجتمع يعتز برجولته، علم أن الدين والمجتمع شيئًا واحدًا، سار على نهج سيرة المصري السوي، فبرع شابًا في كتابة ما يعبر عن النموذجين.
الروحانيات والتعمق فيها، سر إبداع وسلاسة كتابة “السحار” الدينية والتاريخية، حيث بدأ بالأخيرة عقب الدخول إلى مجال القصة القصيرة، وكتب “أحمس بطل الاستقلال”، ثم كتب روايته التاريخية الثانية “أميرة قرطبة”، ومنها نفذ إلى الكتابة الدينية، فبرع فيها من خلال كتب “أبو ذرٍ الغفاري، بلال مؤذن الرسول، سعد بن أبي وقاص، أبناء أبوبكر”، ثم كتب “محمد رسول الله والذين معه”، الذي صدر في 20 جزءًا وعرض في التليفزيون باسم “لا إله إلا الله”، ونال من خلاله شهرة واسعة.
أجواء قاهرة المعز، التي كانت تُغلق بأبواب ليلًا، مثلما أحب عبدالحميد جودة السحار وصف تلك الليالي، لم تؤثر فقط في كتاباته الدينية، بل أثّرت أكثر في كتاباته القصصية التي بدأها بأول قصة طويلة حملت اسم “قافلة الزمان”، وكانت تدور أحداثها بتلك المدينة، وشغفه بالسينما حد حضور حفلات النهار والليل أثارت قلق الأم التي صارحته بأنه “لن يفلت عياره إلا السينما”، ودخل إلى عالمها وهو يدعي “اللهم قني شر نفسي”، وبرع في كتابة سيناريوهات أفلام اجتماعية خلدتها الذاكرة المصرية في التاريخ مثل “مراتي مدير عام، أم العروسة، الحفيد، شياطين الجو، النصف الآخر، ألمظ وعبده الحامولي”.
لم يكتفِ بكتابة سيناريوهات اجتماعية، ولم ينسَ طابعه الإسلامي فكتب، “الرسالة” و”هجرة الرسول”، و” نور الإسلام” الذي كتب له السيناريو والحوار بالاشتراك مع صلاح أبوسيف، مخرج الفيلم، ورأى أن الأفلام التاريخية والدينية تحتاج ميزانيات ضخمة جدًا، وضرورة تمييز الديني منها بإظهار الروحانيات، وليس الحركة الخارجية فقط، وحفل تاريخه بالأعمال المؤثرة بالمجتمع قبل الشاشة الفضية، حتى أُسند إليه منصب رئيس تحرير مجلة السينما عام 1973، وتوفي عقب تولي ذلك المنصب بعام في 22 يناير 1974.
* الوطن.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *