أميلي نوف إيجليز/ ترجمة: أحمد حميدة
أوسكار وايلد.. شريعة الجمال
كان أوسكار وايلد كاتباً وشاعراً ومدافعاً متّقداً عن الجماليّة، وقد جعل من الجمال غاية قصوى لحياة ينبغي لها أن تكون مسخّرة بأجمعها لإدراك مكامنه. وينبغي لمتذوّق الجمال، حسب أوسكار وايلد، أن يحيط نفسه بكائنات وبأشياء جميلة، مع الحرص على أن تكون كلّ حركاته، وفي كلّ المواقف.. أنيقة، كي يضفي على حياته الكئيبة ألف بريق وبريق، ويحيلها بالتّالي إلى عمل فنّي. ومثل ذلك التشوّف لحالة الكمال الجمالي، وللوقوف على حقيقة كينونته، لا خيار فيه أمام الإنسان غير العودة إلى ما يتخفّى بداخله من أسرار، وعدم الارتهان إلى المجتمع الذي قد يسلبه أناه الحميميّة. كما يرى أوسكار وايلد أنّ كل تمشّي أو سلوك يساعد المرء على اكتشاف جوهر كينونته، هو أمر إيجابيّ في حدّ ذاته، فيما يلعب العقل -كما الأخلاق- دوراً مانعاً يحول دون انكشاف الحقيقة الأصليّة لكلّ واحد منّا. وأخيرا فإنّ هذا البحث الجمالي الذي يستهدف تزكية الذّات، سوف يتّخذ أشكالاً عدّة تبعاً للطّبيعة الجوهريّة لكلّ واحد منّا. وقد باتت حياة التأنّق والرّفاه التي عاشها أوسكار وايلد، تجسيداً حيّاً لتلك الفلسفة الجديدة القائمة على التّجميل الأقصى لكلّ مظاهر الحياة.
غير أنّه من السّهل جدّاً أن نتبيّن الخطر الناجم عن تلك النّزعة الجامحة إلى المتعة واللذّة، التي لا يكون فيها الجمال الجسماني المنشود بالضّرورة مرادفاً لجمال أخلاقي. لذا.. فإنّ هذا التصوّر للجمال يظلّ بالأساس سطحيّاً وجسديّاً، ولا يساعد على تزكية نفس الإنسان. وفضلاً عن ذلك.. فإنّ تلك الفردانيّة الجموحة، وفق تصوّر وايلد، تغدو فيها الأنا ونماؤها مثلاً عليا، يتجاهل البعد الاجتماعي للإنسان، كما أنّها لا تثمّن قيمة الآخر إلاّ على ضوء مظهره الخارجي. وبالنّتيجة.. يرتفع أكثر من سؤال: هل يبرّر جمال كائن ما أن تكون له نفْسٌ ذميمة؟ ألا تصبح الأخلاق في هذه الحالة معرّضة لخطر التحلّل في تعرّجات جماليّة منحرفة وفاسدة؟
لكلّ هذه الاعتبارات يرى تودوروف في جماليّة وايلد «برنامجاً غير مكتمل»، إذ هي تتغافل عن أهميّة الآخر بكونه إنساناً.. يساهم في تحقيق ذواتنا وتناغمنا الدّاخلي. فيغدو الآخرون وفق تصوّره.. لا يعشقون لذواتهم، وإنّما يتحوّلون إلى محمل فنيّ، وتجسيداً لشكل ما من الجمال. فـ «جماليّ» أوسكار وايلد، وبمعزل عن الآخرين، لا يمكن أن ينتهي لغير عبثيّة الوعي والأخلاق. غير أنّ أوسكار وايلد في مسيرة حياته انتهى إلى تَنْسِيبِ ما كان يشكّل مَثَلَهُ الأعلى في الحياة. مربك بإقامته في السّجن، فقد وايلد القدرة على الكتابة وبهجة الحياة التي كان يدعو إليها، وفي عزلة زنزانته، اكتشف بشكل موجع حاجة الإنسان الماسّة إلى أن يكون موصولاً ببني جنسه، وحاجته الملحّة إلى محبّتهم، كما سيتبيّن ذلك في الحماسة المثيرة لعلاقته باللّورد الانجليزيّ الشابّ بوزي. وبيّنت تلك المشاعر التي لا مفرّ منها لوايلد، استحالة أن نجعل من الجمال والأنا القيم الأرفع في الحياة.
ريلكه.. الإبداع كغاية قصوى
أمّا الشّاعر الألمانيّ راينر ماريا ريلكه، فقد جعل من الإبداع الفنّي غايته القصوى والوحيدة في الحياة. ويخبرنا تودوروف عن تعرّجات حياته، التي كانت بأكملها مسخّرة لإنجاز أعمال باذخة وبالغة العمق، أحياناً ما كانت مُربكة، تفصح فيها الأوجاع – الجسديّة والنّفسيّة في آن – عن كائن مُنتهب بقلق وجوديّ حادّ، ومسكون «بحالة تولّه باطني مزمن». وقد تأثّر في مسيرته كثيراً بالتقائه رودان، الذي تعرّف معه على حقيقة الإبداع الفنيّ، من أنّه عروج دائم إلى أعلى مقامات الجمال، الذي به «نعيش دون أن نموت». غير أنّ ذلك الجمال ينبغي أن يُستمدّ من توق حقيقيّ وعميق إلى الإبداع، لا من تشوّف لاعتراف الآخرين بذاك الجمال وانبهارهم به.
وقد أدّى إختيار ريلكه لأسلوب حياته أيضاً إلى إقباله على عزلة قصوى، كان يعتبرها السّبيل الوحيدة إلى الإبداع الذي يمكث في الأرض: فبعيداً عن جلبة الحياة، يظلّ مِفَكّ المطلق منطمراً في عذابات العزلة، التي وحدها تمكّن من القبض على ما هو متفلّت، والإمساك بما يكون عصيّاً على المقول. وليست تلك العزلة في نظر تودوروف مجرّد إنزواء، بل إنّها أكثر من ذلك «إنّها تزهّد وإعراض عن مباهج الدّنيا، وترك لما يشغل العباد». وحين يقطع الفنّان صلته بما هو خصوصيّ، فإنّ جهده ينصبّ على فهم الوجود في كلّيته للقبض على جوهره الصّميم. وبقدر ما تتعاظم عزلته، بقدر ما تتزايد رؤيته للأشياء صفاء وعمقاً. حينئذ.. لا يتمّ البحث عن المطلق إلاّ بشكل متوازٍ مع الإمّحاء الذّاتي للمبدع. فمتى أقصى المبدع ذاته وأنزلها منزلة ثانية، واتّخذ بكلّ جسارة موقفاَ طمأنينيّاً، توفّق في إقامة عالم آخر وإدراك أبعاده الكونيّة. فبمعزل عن هذا العالم، يكون الشّاعر مدعوّاً للكشف عن عظمته الخبيئة.. الحميمة، التي ينطوي عليها، ولا السّعي إلى تغييره بالإرادة الكامنة فيه. العزلة حينئذ.. تجعل الكائن الإنساني يدنو من أصالته، وتمنع شخصيّته من التحلّل في أبّهة المظاهر الملازمة لكلّ حياة إجتماعيّة، التي غالبا ما تحمله على نكران جوهر كينونته، وتنمّي فيه باستمرار الرّغبة في إختلاق ظاهرٍ غَرور، أو الإمتثال لرغبات الغير: هكذا.. ومثلما يؤكّد ريلكة: «كلّ لانهائيّ يجثم في باطن الإنسان المعتزل: وهناك تحدث المعجزات.. وهناك يتمّ تخطّى العقبات».
قاطعاً مع التصوّر الشّائع، يذهب ريلكه إلى حدّ التّأكيد أنّ الحبّ لا يمكن أن يتنامى ويبلغ ذروة معانيه إلاّ في العزلة، لأنّ الحبّ مُطالب بتجاوز التعلّق الشّخصيّ بالمحبوب، للانفتاح على جمال العالم في كلّيته، وإدراكه في أبعاده الكونيّة: «في كلّ قصيد أعتبِره ناجحاً، ثمّة قدر من الحقيقة يتجاوز أيّما علاقة أو ميل أشعر به؛ فحيثما أبدع.. أكون حقيقيّاً، وإنّي لأطمح أن أشيد حياتي بأكملها على دعامات تلك الحقيقة».
غير أنّ ريلكه لم يعرف البتّة الفرح ولا الإغتباط الذي كان ينتظره من فنّه. بل إنّه عاش ولفترات طويلة تمزّقاً داخليّاً بين حبّه لأفراد عرفهم وتعلّق بهم، وتوقه الجامح إلى الكونيّ: «إذا أحبّ أحد ما شخصاً آخر، فإنّ جزءاً من كيانه سوف ينفلت منه لا محالة، طالما أنّ ذلك الجزء من محبّته قد غدا مسخّراً لكائن آخر، بينما يكون من المتوجّب – وعلى الشّاعر خاصّة – أن تكون حياته بأجمعها مسخّرة للإمساك بالحقيقة في أبعادها السّحيقة، فيما وراء تنوّع وتعدّد أشكالها. حينئذ.. لن يفلح حبّ الكتابة في تهدئة التوتّر الوجودي لهذا المنفيّ، وبصورة موصولة، داخل ذاته، واّلذي تحمّل أوجاعاً مضنية كيما يبذل وجوده ومشاعره الشّخصيّة قربانا على مذبح الفنّ والجمال المهيب.
تسفيتاييفا.. الفنّ بوساطة
الآخرين ولهم
كانت الشّاعرة الرّوسيّة مارينا تسفيتاييفا، وكما يؤكّد ذلك تودوروف،«بقدر تشوّفها إلى المطلق (…)، بقدر ما كانت ترفض تفضيل الوجود على حساب الإبداع، متماهية في ذلك مع أوسكار وايلد، وبقدر ما كانت ترفض أيضا الرّفع من شأن الفنّ على حساب الوجود، كما كان يرى ريلكه. غير أنّ تسفيتاييفا كانت ترى ضرورة أن يوزن كلا المسارين بنفس الميزان». فكان تصوّر تسفيتاييفا حينئذ، بمثابة نهج وسط بين السّماء والأرض. وكانت هذه الأخيرة تكنّ إعجاباً كبيراً بريلكه، كما ربط بينهما تراسل استمرّ لشهور. غير أنّها ظلّت إمرأة راسفة في أوحال التّاريخ وتعرّجاته، وكابدت في جسدها تقلّبات ثورة أكتوبر ومرارة النّفي. لذلك كانت.. وعلى عكس ريلكه ترفض أيّ تعارض بين الوجود والإبداع، ولا ترفع الإبداع إلى مرتبة القيمة المطلقة. فكانت تسفيتاييفا تعتبر أنّ الفنّ هو وليد الرّوحانيّ والماديّ، وأنّ الفنّان مطالب بأن يعيش في ومع هذا العالم، ليبحث عبر الإبداع الفنّي، عن المتخفّي في أبعاده اللاّمرئيّة. ثمّة إذن تكافل عميق بين الفنّ والوجود المادّي. وعلى النّقيض من ريلكه، كانت مارينا تستمدّ من حياتها اليوميّة ذاتها، مادّة إبداع شعريّ فيّاض:« أنا لا أعيش كي أكتب شعراً، وإنّما أكتب شعراً كي أعيش»، فحالتها الذّهنيّة لا تختلف إذن عن تلك التي كانت للإنسانيين المعاصرين، الذين يؤثرون الأفراد والكائنات الماديّة الملموسة على الأفكار المجرّدة التي ينسجها الخيال.
هكذا.. سوف تعمل هذه الشّاعرة الرّوسيّة على بلوغ «مطلقها» عبر علاقاتها بالآخرين، وعن طريق اختبار المشاعر النقيّة الصّرفة في حدودها القصوى، وغراميّات جامحة سوف تنتهي بخيبات أمل ممضّة. وتلك محامل ضروريّة للإبداع، وتسفيتاييفا كانت تجد في غراميّاتها الموؤودة، كما عبر تقديس المحبوب، مصدراً ثرّاً وموجعاً للإلهام. ورغم تمرّدها على الثّورة الرّوسيّة، ستمعن في رفضها لأيّما التزام سياسيّ لتلوذ بـ «حياتها الدّاخليّة»، كم أنّها لن تجعل أعمالها أبداً تمرّ قبل محبّتها لكائن ما. فأفصحت بذلك عن رفضها القطعيّ والثّابت لأيّما شكل من أشكال «الفنّ الملتزم»: « ينبغي للشّعر ألاّ يخدم أحداً سوى الشّعر، فهو يمضي باحثاً عن كماله الذّاتيّ ». بالمقابل.. كانت لا تني تستقبح مواقف متذوّقي الفنّ، الذين كانوا منزوون مع الشّعر في أبراجهم العاجيّة، ينظمونه وهم متباعدون عن المعنى الجوهريّ للحياة.
مُسَاءٌ فهمها في روسيا كما في فرنسا، حيث أقامت لسنوات عديدة، لن يُنشر شعرها وهي على قيد الحياة، ولن تُعرَف حقيقةً إلاّ بعد أربعين سنة، على إثر الفعل المتعمّد الذي اجتثّها من وجودها الفاجع.
الألم.. والإبداع
إنّ هذه الوجوه الثّلاثة، ورغماً عن تباين أقدارها، تمنحنا مثالاً نابضاً عن ذلك التشوّف الجامح إلى «الجميل »، وهي.. وإن كابدت في سبيل ذلك الكروب والأحزان، فإنّها سمحت بإبداع أعمال أدبيّة ذات عمق وزخم فنيّ باهر ونادر. وهكذا يرتفع السّؤال عن حيّز ودور الألم في كلّ عمليّة إبداع فنّي: هل أنّ الفنّان مطالب ببذل نفسه في سبيل أن يبلغ فنّه العمق الذي يرتجيه؟ وكيف يمكن لنا تصوّر بحث عن المطلق في وجودٍ.. هو في جوهره محدود وموسوم بالنّسبيّة؟
لعلّ أعمال هؤلاء الفنّانين الثلاثة، هؤلاء الدّعاة إلى إبداع فنيّ يدرك نهايته بذاته، ومتحرّر من أيّما اعتبار سياسيّ أو اجتماعيّ، تقدّم لنا استهلالاً لإجابة ممكنة.
وفي الختام، يقدّم لنا تودوروف وبشكل خاطف إحدى وجوه تطوّر المجتمعات الغربيّة التي، وبشكل متنامٍ، جعلت من نفسها مبشّرة بـ «أنسنة ما» للتّعالي، محدّدة إيّاه لا في مكان آخر مريب، وإنّما بجعله متجذّرا في قلب الوجود ذاته. وفي هذا الصّدد يتعيّن على الفنّان كشفه بشكل مفصّل وفي أدقّ نواحي الحياة.
مصدراً لكلّ حماسة متّقدة، ولكلّ النّوبات الوجوديّة الأشدّ حدّة، لا ينبغي للبحث عن المطلق أن يُعاش من منظور ثنائيّ، وفي تعارض مع الوجود الأرضيّ، بل يتوجّب أن يتمّ ذلك البحث في رحم الوجود ذاته دون التّغافل عن أيّ مظهر من مظاهره، ذلك أنّ الجمال قد يوجد أحيانا، حيث لا نتوقّع أن يكون. وبعيداً كلّ البعد عن كونه متعارضاً مع الحياة المبتذلة، فإنّ البحث عن الجمال يرتبط بذاك الوجود ارتباطاً حميميّاً، وكما أفصح عن ذلك بودلير، وبشكل رائع، من أنّه ينبغي للشّاعر الكشف عن وجوهه الألف، عن علاماته الخبيئة والمتخفّية:
إيه.. يا أنتم.. لتشهدوا أنّني قمت بما ينبغي لي
مثل كيميائيّ باهر وكروح طيّعة مخبتة
فأنا الذي استخلصت من كلّ شيء جوهره
لقد أعطيتموني وحلاً.. فصيّرته ذهباً
متموقعاً عند تخوم الرّوحانيّة الخالصة والماديّة المشطّة، يظلّ الفنّ، إذن، الرّحم الجوهريّة الحاضنة لهذا التّوق والبحث عن «الجميل»، كيما يكون أداتنا – والعبارة هنا لشيلينج – «لتمثيل» ما هو لا نهائيّ بما هو نهائيّ». وفضلاً عن ذلك، يدعونا تودوروف إلى تأمّل الكائن البشري في تقطّعه الدّائم بين الأرض والسّماء، بين الحياة الحسيّة وتوقه الأبديّ للانفلات إلى ما وراء الوجود المادّي.
______
*الاتحاد
______
*الاتحاد