*محمد بن الطيب*
إنّ التاريخ علم وفن معاً، هو علم لأنّه يحتاج إلى دقّة في المنهج وموضوعية في التناول وقدرة على التحليل والتعليل والتأليف والاستدلال، وهو فنّ لأنّه يحتاج إلى بلاغة في الأسلوب وتناسق في عرض الأحداث التاريخية مهما تراكمت وتعقّدت، ومن ثمّ كان التاريخ مجالا لا يُقْدم على خوض غماره إلا من تمرّس بأدوات التحليل المنهجي السليم وتمتّع بملكة نقدية فائقة وثقافة موسوعية متينة تتيح له الإفادة من منجزات العلوم الإنسانية في مقاربة القضايا التاريخية الشائكة.
يعدّ المؤرخ التونسي هشام جعيّط من المؤرخين العرب القلائل الذين جدّدوا الدراسات التاريخية وقدّموا فيها إضافات نوعيّة، فهو يجمع بين المفكر ذي النزعة الإصلاحية التنويرية الذي يحلّل واقع المجتمع العربي وشخصيّته القاعدية، والمؤرخ الحصيف المحقّق المدقّق الذي ينقّب في الروايات ويقلّب المصادر، وهو الباحث المسكون بالشكّ والسؤال، المعتصم بالأناة والريْث عند الاستنتاج، وهو الذي يدرك جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق المؤرخ إزاء الحقيقة التاريخية، وهي مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون معرفية.
وما من شك في أن كتابه «الفتنة» من أهم ما كُتب حديثاً في هذا الموضوع الشائك، فقد تناول بالدرس قضية من أخطر القضايا التي عرفها المسلمون عبر تاريخهم الطويل وهي القضية المعروفة بـ«الفتنة الكبرى».
مقاصد التأليف ودواعيه
وضّح جعيّط مقصده من تأليف الكتاب في مقدّمته بقوله: «ومن واجبي أن أقول للقارئ إنّ المقصود هنا هو كتاب وضعه رجل تربّى في كنف التقليد الإسلامي، عليه أن يكافح في وقت واحد ضدّ الرؤية التقليدية للأمور وضدّ حداثة تبسيطية. لقد ساعدني التاريخ الصحيح والقويم في هذا المشروع الصعب حين جعلني أقيم مع هذه المرحلة التأسيسية للهوية الإسلامية علاقة معرفية يخترقها التعاطف والتوادد في أعماقها، حيث يتمازج المعرفي والمعاش، العلم والحياة. إن إحياء جانب من التاريخ الإسلامي في حقيقته وكثافته إنّما هو جزء من مسيرتي الوجودية الطويلة» (ص 8).
لقد بدأ جعيّط التفكير في موضوع الكتاب والتهيّؤ له منذ سنة 1962، فمنذ ذلك الحين وهو منشغل بما يسميه «الإسلام المبكّر» وما شهده من فتنة كبرى أدخلت أمّة الإسلام وهي في بداية تكوّنها في دوّامة من الأزمات والحروب والانشقاقات الدينية – السياسية. ومن دواعي اهتمامه بها أنّها مازالت إلى اليوم حاضرة في الوعي الإسلامي باعتبارها مرجعيّة وعلامة كبرى من علامات التاريخ الإسلامي، ولكنّها غير معروفة معرفة حقيقية في آلياتها وتطوّراتها.
ورغم كثرة المؤرخين للإسلام سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي، فإنّ المؤلف لا يخامره الانطباع بأنّ الفترة قد دُرست جيّداً، فقد أكّد أنّه لا يعرف في اللغات الأوروبية كتاباً واحداً عُني عناية كافية بهذه المرحلة التي يعود إليها تصور الأمة الإسلامية والتي غذّت المتخيّل الجماعي. وقد كان يُظَنّ أنّ بعض المستشرقين ممّن اهتم بالموضوع قد توصّل في بحثه عن تاريخ الفتنة الكبرى إلى ضبط منطلقاتها الأولى، وتبيّن أسبابها الظاهرة والخفية، ولكنّهم لم يتجاوزوا النظر في السياقات التي ظهرت فيها لفظة الفتنة دون محاولة جادة لفهم الأسباب التي أدت إلى تصدع كيان الدولة الإسلامية الناشئة وهي في عزّ سؤددها.
إن اختيار جعيّط للمرحلة الأخيرة من الخلافة الراشدة (الفتنة الكبرى) التي شهدت طيلة خمسة أعوام تزيد تمزّقَ الأمة وانشقاقها ليعيد قراءتها في مختلف مراحلها وتطوراتها، مردُّه إلى ما لها من أهمّية تاريخية بالغة، فهي من المنعطفات التاريخية العظيمة الأهمّية لأنّ تأثيرها قد استمر لقرون. إنّها فترة الأزمة في النصف الثاني من خلافة عثمان حتى مقتل عليّ وارتقاء معاوية بعد ذلك بقليل إلى سدّة الحكم وتأسيس الدولة الأموية، وهي الفترة التي تولّدت منها الانقسامات الكبرى في الإسلام بين السنة والشيعة والخوارج. بل ربما أمكن أن تُعْزى إليها كل التطورات التي شهدها الإسلام في الدين والسياسة والاجتماع وامتداداتها اللاحقة.
نقد المصادر
هذه الفترة ذات الكثافة التاريخية الاستثنائية هي التي أغرت هذا المؤرخ الفذّ بدراستها دراسة عميقة متأنّية تتساءل عن خلفياتها وأبعادها وتستجلي دلالاتها وآثارها، ابتغاء الوصول إلى تفهّمها من خلال تحليل دقيق للمصادر وتمحيص للروايات ونقد للنصوص، والوقوف على ما شهده المجتمع الإسلامي الناشئ من تحوّلات وما كان يجول بخاطر القوى السياسية الدينية من تصوّرات. فما من شكّ في أنّ الفتنة قضية مركزية في التاريخ الإسلامي، والأخبار عن هذه الفتنة التي هزت الدولة الإسلامية وهي في أوج قوتها وعزّ سؤددها كثيرة جدّاً، وهي مبثوثة في كتب التاريخ والأدب والأخبار والطبقات والتراجم التي كانت ميداناً لاختلاف الروايات واصطراع الميول والولاءات.
على أنّ تلك المصادر لا تقدّم للمؤرخ إلا مادّة خاماً، وهي متأخّرة عن الأحداث بما يزيد على قرن من الزمان. فكان لزاماً على المؤرخ أن يجتهد في الغربلة والتصفية والنقد والتمحيص والمقارنة والترجيح، من غير أن يبتعد عن حقائق الأمور. غايته دوماً محاولة التفهّم والاجتهاد في الوصل بين الأحداث وتجْلية المنطق الذي حكم تلك الفترة المتشنّجة من تاريخ المسلمين الأوائل. ولذلك ألفيناه ينأى عن التأويل المجحف بقدر نأْيِه عن السرد الرتيب. ولعلّ من أخص خصائص أسلوبه أنّه يحاول عبر روايته للأحداث أن يُدْرج فيها بلباقة تحليلاته وتأويلاته.
التاريخ المفهوم
كان جعيّط يصبو إلى أن يقدّم لجمهور القرّاء بمختلف فئاتهم ومستوياتهم رؤية واضحة لتلك الفترة المعقّدة التي يتّخذها المسلمون فترة مرجعية، يقول جعيّط: «لقد استقر الوجدان الإسلامي عبر العصور على تلك المرحلة الاستثنائية لينهل منها معنى من المعاني، معتبراً أنّها كانت امتداداً للتاريخ النبوي المحاط بهالة روحانية، وأنّها مثّلت حكم الخلافة الحقّ على منهاج النبوة.» (ص 7)
لقد تميزت طريقته في الكتابة عن هذه الفترة التاريخية بمحاولته أن «يمارس تاريخاً تفهّمياً لحدّ بعيد» (ص 8)، وذلك بأن يغوص في قلب المناخ الذهني والعقلي للعصر، وأن يسعى إلى فهم كيفية تفكير أهله، وما كانت عليه فئاتهم ومقولاتهم وقيمهم، بل لقد حاول أن يتكلّم بلغتهم. على أنّه وهو يعالج المعطيات، ويحلّل البُنى، ويقف على الخلفيات، ويرصد الأبعاد، ويفسّر الأحداث، ويكتب «تاريخاً شمولياً»، إنّما أراد أيضاً أن يروي ويُخبر ويسرد، ويكْتنه من خلال الرواية والسرد هذه المرحلة الغنيّة بالأحداث والرجال ليتوصّل إلى العيش مع هؤلاء الناس ومع تلك الأحداث التي صنعوها.
التاريخ الإشكالي
إنّ كتابة جعيّط التاريخية مندرجة في سياق ما شهدته الدراسات التاريخية الغربية من تطوّر مع «مدرسة الحوليّات» و«التاريخ الجديد» الذي وضع دعائمه الرئيسية فرديناند بروديل، ومن أهمّ سماته انتفاء الحدود بين التاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، وكذا النقاشات الكثيرة والمعمّقة التي أثارها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005) حول علاقة التاريخ بالسرد والذاكرة والأرشيف، وعلاقة ذلك كلّه بتأويل المؤرخ، إذ يميّز في عملية كتابة التاريخ بين ثلاث مراحل هي: الأرشيف والتفسير والكتابة، وهي مراحل غير متمايزة زمنياً، بل هي لحظات منهجية متداخل بعضها في بعض، لأنّ الأرشيف لا يُستثار دون مشروع تفسير ودون فرضية فهم، ولا يبذل أحد جهده في تفسير مجرى الأحداث دون استعمال صيغة أدبية مناسبة ذات طابع سردي أو بلاغي أو مُتخيّل.
لقد استفاد هشام جعيّط من المدرسة التاريخية الفرنسية وتجلّى ذلك منهجياً في الانطلاق من إشكالية واضحة يكون البحث التاريخي معالجة لها وإجابة عن تساؤلاتها، ذلك أنّ أهمّ خطوة تميز هذا الاتجاه الجديد في كتابة التاريخ هي انطلاق المؤرخ عند بداية دراسته التاريخية من تحديد المشكلة التي ستقود دراسته من البداية إلى النهاية. وقد سبق أن دعا مؤرخو «مدرسة الحوليات» – في نطاق ما أحدثوه من قطيعة إبيستمولوجية مع الاتجاه السابق في الكتابة التاريخية – إلى كتابة تاريخ إشكالي (Histoire-Problème) يتجاوز التاريخ الحدَثي، ويقرّ بأهمية العوامل التركيبية في قراءة التاريخ، ومن ثمّ أصبحت دراسة التاريخ قائمة على رؤية متعدّدة المقاربات، بمقتضاها يكون لزاماً على المؤرخ استحضار كل العناصر وجميع العوامل التي قد يكون لها دور في بناء الأحداث التاريخية، وهو ما يستوجب استحضار كل الأبعاد والمستويات التي تدخل في تركيبة الحياة الإنسانية (بيولوجية، نفسية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية…). وذاك ما صنعه جعيّط، فقد كان منطلق دراسته للفتنة إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة من خلال حدث الفتنة، فكانت هذه الإشكالية مدار اهتمامه وقطب شواغله على امتداد الكتاب كلّه. فهل كان الأمر متعلّقاً بصراعات سياسية أم دينية؟ هل كانت توجّهه مطامح من هذا الطرف أو ذاك للاستيلاء على الحكم أم كان متعلّقاً بعواطف وانفعالات دينية خالصة؟
يتكشّف البحث عن أنّ الأمر يتوقّف على مراحل تطور الفتنة ويتوقّف على المتنازعين من أبطالها فالقرّاء (القارئون للقرآن) الذين أثاروا الفتنة كانوا يقاتلون مخلصين من أجل تطبيق القرآن الكريم في حياة المسلمين. أمّا معاوية في آخر مراحل الفتنة فقد كشف عن مطامحه في الوصول إلى الحكم، وكذلك كان عليّ يدافع عن شرعية خلافته باسم السابقة في الإسلام فكان ينافح عن سلطة سياسية بمقولات دينية.
لقد انتهى جعيّط إلى أنّ الديني والسياسي ممتزجان، وأنّه من الطبيعي أن تَرجِع إلى الديني أوّلاً أمّةٌ قامت على أساس دعوة دينيّة وكتاب مقدّس وتجربة نبوية، وأن يظهر لها دينيّاً كلُّ شيء بما في ذلك السياسي، ولكن لكلّ واحد من المتنازعين تأويله لذلك الديني الموظّف في السياسي.
لقد تميّز أسلوب الكتابة التاريخية عند جعيّط بالصرامة النقدية للمصادر، وسعة الاطّلاع على المراجع العربية والغربية على حدّ سواء، والالتزام بمنهجية تاريخية تجمع بين السرد والعرض والتحليل والتفسير، وتتخلّله نظرات وتأويلات وأفكار، ولكنّها تنأى عن المواقف الإيديولوجية. ونحسب أنّه وُفِّق إلى حدّ بعيد بهذا الأسلوب الذي توخّاه بحسّه العربي والإسلامي العميق وتكوينه التاريخي المتين إلى إخراج كتابه على النحو الذي أراده بعيداً عن النزعة التقليدية وعن التفكير التحديثي التبسيطي.
إن كتابة التاريخ عند جعيّط ثمرة التشبّث بقراءة مُنْصِتة إلى المصادر وهي قراءة للقراءة، قراءة نقدية تأملية عميقة تتدبّر النصوص وتتفحّص الروايات. والمؤرخ الحصيف يلتزم بما لديه من مصادر، ويتّسم بالحذر من تأويلاته، لأنّ همّه الأساسي هو التفهّم ومحاولة إخراج الماضي من سديم النصوص. إنّ منهجه في التعامل مع موضوعه هو استقراء الماضي متسلّحاً بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع وبالتعاطف اللازم مع الموضوع مع صدْر رحب وفكر ثاقب، فلا سبيل إلى التعامل مع المعرفة التاريخية إلا بمنهج نقدي إشكالي يسائل الوثيقة والخبر، ويستنطق النصوص ويمحّص الروايات، فالكتابة التاريخية في جوهرها عملية ذهنية يعمل خلالها المؤرخ على إعادة استحضار وقائع الماضي.
التاريخ الشامل
لقد حرص جعيّط على تقديم «تاريخ شامل» أي تاريخ تجتمع فيه الأبعاد السياسية والدينية والأنثروبولوجية والاجتماعية والاقتصادية. فالتاريخ الشامل هو ملتقى روافد عديدة على المؤرخ أن يمْتَح منها جميعاً دون أن يشعر القارئ بذلك. بمعنى أن لا يصرّح خلال مراحل بحثه بأنّه بصدد تناول الجانب الديني أو الجانب السياسي أو البعد الأنثروبولوجي، بل يدفع هذه الجوانب جميعاً إلى التفاعل فيما بينها، من غير إثقال على القارئ وتكرار تنبيهه في كل مرّة.
وهذا ما يفسر تفضيل جعيّط أسلوب السرد تقنيةً لرواية التاريخ، ولئن أقرّ بأن هذه الطريقة شهدت في العقود السابقة بعض الانحسار، فقد نبّه على أنّها عادت بقوة منذ أكثر من عقدين. لقد رام تمكين القراء من قراءة تقودهم إلى فهم الفترة المعنية سواء أكان هؤلاء القراء من الراسخين في العلم أم من ذوي الثقافة العامّة.
لقد أراد أن يقدّم ما يمكن تسميته بـ«التاريخ المفهوم» بمعنى تقديم مسار تاريخي قابل للفهم والتعقّل بالمعنى الفلسفي للكلمة. فالمقصود بالفهم الانفتاح على الفترة التاريخية موضوع الدراسة، وهنا يكمن -في رأيه- الحسّ الخاص بالمؤرخ المنفتح على الفترة بعيداً عن أهوائه الإيديولوجية لاستجلاء العناصر الفاعلة فيها وهي تتحرك انطلاقاً من الأفكار السائدة في تلك الفترة ومعاييرها وقيمها وموازينها الخاصة. ولعلّه يستلهم في ذلك «تاريخ العقليات» كما نظّرت له «مدرسة الحوليات» و»التاريخ الجديد».
ولكنّ هموم الحاضر تظلّ حاضرة أيضاً، لأنّ الإنسان لا يعيش حاضره مفصولا عن ماضيه، ولا يفكر في تاريخه باعتباره زمناً غابراً قد ولّى، بل باعتباره صيرورة في الزمن لها عظيم الأثر في حياته الراهنة. فدراسة التاريخ ليست موقوفة على معرفة الماضي فحسب، بل إنّ لها إسهاما في فهم الحاضر واستشراف المستقبل، لاسيما عندما تكون الفترة المدروسة نموذجية كما هي فترة الفتنة التي مازالت تستوقفنا لامتداداتها المؤثّرة في واقعنا المعاصر. ولئن أشار جعيّط إلى أنّه لم يُعْن بتقديم عبرة مباشرة للحاضر، فإنّه يقدّم بين الفينة والأخرى ومضات كاشفة وإشارات خاطفة من اليسير أن يلتقطها من يريد قراءة الحاضر. لقد أكّد أنّه لم يغب عن باله قطّ وهو يعالج موضوع بحثه أنّه إنّما يعالج فترة ذات حضور قوي في الذاكرة الجمعية.
ولربّما أمكن أن نرى في كتابة جعيّط لتاريخ الفتنة الكبرى استيحاء لفكرة بول ريكور التي بدا له التاريخ من خلالها وكأنّه يشتغل كعدسة مكبّرة، بل مثل مجهر أو تلسكوب، وهذه الاستعارة بليغة الدلالة على أنّ عمل المؤرخ مهما تعدّدت اجتهاداته يبقى في نهاية المطاف تفكيكاً وإعادة بناء، تعليقاً وتعليقاً على تعليق، كتابة وإعادة كتابة، عودة إلى مقولات قديمة وإعادة صياغتها، واستعمالا لمفاهيم واستعارات، واختياراً لكلمات ومقولات، وانتقاء لأحداث وظواهر، وتأويلا للماضي في ضوء الحاضر، وتأويلا للحاضر في ضوء الماضي.
طبقات القراءة
والحق أنّ القراءة التي يقدمها لنا جعيّط للفتنة الكبرى والقرن الأول ليست في الحقيقة قراءته لهذا التاريخ فحسب، وإنّما هي قراءة متأخّرة عن هذا التاريخ. ذلك أنّ الوثائق المتوافرة لدينا عن تلك الحقبة، والتي اعتمدها مصادر لبحثه، ليست شهادات مباشرة لأناس عاشوا الوقائع وعاصروها، وإنّما هي تواريخ وضعها قوم آخرون لاحقون، لم يعاينوا تلك الأحداث ولم يشهدوها كالطبري وغيره، فلا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّهم هم أيضاً يقدّمون قراءتهم الشخصية لما وصل إليهم من تواريخ شفوية تحمل طابع رواتها وآثار تمثّلهم الشخصي لما بلَغهم من أخبار.
نحن إذن إزاء طبقات من القراءات والتمثّلات، مع ما تنطوي عليه من مزالق وصعوبات ومفارقات، أوّلها مفارقة الرواية التي تُقدَّم باعتبارها مباشِرة وقد تكون منحولة أو موضوعة. والمؤرخ في عمله يُسقط الكثير من الأقوال والوقائع التي لا يراها منسجمة مع منطق الفترة المدروسة ومع خطابها ومع معنى الحدث الذي هو بصدد معالجته. فما يهمّه هو استنباط المعنى والعناية بالتشكيلات الكبرى للتاريخ المدروس ومنطقه العميق والوقوف على خطاب الفترة المعنيّة. ولا يُتاح له ذلك إلا بعد معاشرة طويلة للنصوص وقراءة مرهفة للروايات تجعله يطّرح الكثير ولا يأخذ إلا بالقليل، لأنّ قراءة النصوص ليست بالأمر الهيّن فالنص يقول شيئاً ويخفي أشياء.
إنّ المؤرخ يتعامل مع الوقائع تعاملا انتقائياً، بمعنى أنّه ينتقي الأحداث التي ترتبط بقضيته التاريخية التي يعالجها، لأنه تعْسُر عليه الإحاطة بكلّ شيء. ثمّ إنّ المنهجية العلمية تفرض عليه البحث عن الوثائق التي تقع في صميم موضوعه، وتحاول الإجابة عن أسئلته، فلابد من الإقرار بنسبيّة الحقيقة التاريخية، لأنّ من طبيعة الحادثة التاريخية أنّها لا تتكرّر، ولا يمكن التعرّف عليها إلا من خلال ما يصل إلينا من وثائق متنوعة، ومهما اتصفت به تلك الوثائق من صحة وأصالة ومعاصرة للأحداث، ومهما أخضعها المؤرخ للنقد والتمحيص، فإنها تظل عاجزة عن تصوير الحقيقة التاريخية من جميع جوانبها وأبعادها ودلالاتها. وهذا ما يجعل الحقيقة التاريخية الكاملة الشاملة متعذّرة كتعذّر إعادة الحياة إلى الأحداث الماضية، ومن ثمّ تغدو الإحاطة بجميع أبعاد المعرفة التاريخية والتعرّف على مختلف أسبابها وظروفها ومظاهرها وتفاصيلها أمراً جزئياً ونسبياً.
…………………..
* جامعة منوبة – تونس
نظرة قاصرة
يؤكد هشام جعيّط أنّه لا يعرف في اللغات الأوروبية كتابا واحدا عُني عناية كافية بهذه المرحلة التي يعود إليها تصور الأمة الإسلامية والتي غذّت المتخيّل الجماعي. وقد كان يُظَنّ أنّ بعض المستشرقين ممّن اهتم بالموضوع قد توصّل في بحثه عن تاريخ الفتنة الكبرى إلى ضبط منطلقاتها الأولى، وتبيّن أسبابها الظاهرة والخفية، ولكنّهم لم يتجاوزوا النظر في السياقات التي ظهرت فيها لفظة الفتنة من دون محاولة جادة لفهم الأسباب التي أدت إلى تصدع كيان الدولة الإسلامية الناشئة وهي في عزّ سؤددها.
قوى متصارعة
في نهاية الأمر، كان ثمة ثلاث قوى عاملة في الفتنة: إسلام راديكالي وعنفي – القراء -، إسلام تاريخي وشرعي – عليّ – وإسلام سياسي وأرستقراطي – معاوية. وكان معاوية كعثمان ينتمي إلى بني أمية، البيت القائد لقريش قبل الإسلام. لقد طرحت مع عثمان مسألة استئناف التواصل الاجتماعي، وسوف تعاود طرح نفسها بقوّة أكبر مع معاوية.
فهل هذا انتصار للمبدأ الأرستقراطي على مبدأ الفضل الديني، بقدر ما هو انتصار للحس السياسي على الشعور الديني؟ إن هذه الفكرة، المبتذلة نسبياً، والصحيحة مع ذلك من عدة جوانب، نجدها في المصادر العربية – للتنديد بها – مثلما نجدها لدى المستشرقين – للتصفيق لها.
هشام جعَيْط:
الفتنة ص 323
مولّدة للتاريخ
الفتنة المنتهية كصراع حربي، ستواصل السير في الضمائر. فقد نجم عنها التشيع والخوارج وأيضاً السلالة الأموية وورثتها. والفتنة كانت مولّدة للتاريخ، خلافاً لفتن أخرى كثيرة في إسلام القرن الأول وبلا مستقبل. وهي مع ذلك، عبر ذاتها، في تاريخيّتها الخاصة بها، تبقى لحظة تستحق الدراسة، تبقى ساحرة كإحدى الفترات الأكثر إثارة في تاريخ البشرية، من حيث أبطالها المتصارعين، من حيث قيمها وخطابها ولأنها أدخلت الديني في عالم الصراع السياسي.
هشام جعَيْط
كتاب: الفتنة ص 325
جوع تاريخي
إذا كان طه حسين قد سبق إلى دراسة موضوع الفتنة الكبرى، فقد لفت انتباهَ جعيّط طابعُه الأدبي، ولاحظ فيه تقدّماً بالقياس إلى المعرفة التاريخية، ولكنّه لم يشعر إزاءه بالاكتفاء. وكلمة «الاكتفاء» بليغة الدلالة على ما كان يشعر به من جوع وتعطّش لفهم التاريخ، يواجهه فيه موقفان سلبيان قاصران: ازدراء الغرب لتاريخنا قديمه وحديثه، ونزعة العرب التمجيدية المغالية من دون معرفة حقيقية بدقائق التاريخ وتفاصيله. وذلك ما دفعه إلى تجريب بحث علمي لإثبات أنّه بالإمكان وضع دراسة تاريخية للقرن الهجري الأوّل.
___
*الاتحاد